وهذا يعني أن حياةَ القلبِ المعنويّة والحفاظ عليها مرهونٌ بمدى حِرْصِ الإنسانِ على طهارةِ قلبِهِ ونقائِهِ من كلِّ أنواع الدَّنَسِ، ومراقبتِهِ إيّاه يوميًّا، وفي هذا الشأن فعلى السالِكِ أن يستدرَّ هذا الطهر والنقاء القلبيّ عبر الإلحاحِ بالدعاء، وعليه أن يتحلّى بأعلى درجات الدِّقّة والحذر، حتّى إنّه ينبغي له أن يبتعد تمامًا عن الخيالاتِ والأفكارِ السيئة التي من شأنِها أن تُخَلِّفَ آثارًا سلبيّة في القلب، لأنه وكما ورد في الحديث النبوي الشريف: “إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ“[2]؛ فإن الله جل جلاله ينظر إلى قلب الإنسان ويجازيه بناءً على ذلك، ولا ينظر سبحانه وتعالى إلى وزن الإنسان ومنظره ولا البيئة الثقافية التي نشأ فيها، وإنما ينظر إلى صفاءِ قلبِهِ ونقائِهِ، ويعامله وفقًا لهذا، كما أنه يُنظر في الآخرة أيضًا عند الميزان إلى قيمة القلب وثِقَلِهِ؛ فيُقدَّرُ الإنسان بقدرِ توجُّهِ قلبِهِ إلى الله تعالى، وخوفِهِ منه وشعورِهِ بهِ ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 88/26-89).
إن فقد روح الإيثار سببه الحقيقي موت القلب وكل هرج ومرج في يومنا الحاضر لا يقف ورائه إلا عدم قبول الآخر
العصر الذهبي لروح الإيثار: عصر السعادة
إنّ ذوي القلوب الطاهرة النقيّة مفعمون بمشاعر الرأفة والشفقة تجاه الإنسانية، ويُفكِّرون ويَشْتغلُون في الوقتِ نفسِهِ بإحياءِ الآخرين وحياتهم أكثر من حياتِهم أنفسهم، وهو الأمر الذي ترتبط به روح الإيثار في الأساس، وقد لفت القرآن الكريم الانتباه إلى خصلة الإيثار بقوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (سُورَةُ الْحَشْرِ: 9/59)، ولقد كان العصرُ الأكثرُ ازدهارًا وشيوعًا لهذه الروحِ والفكرة هو عصرَ السعادة الذي تَصَدَّرَ تاريخ الإسلام، ومن ذلك على سبيل المثال أنّ رَجُلًا أتى النبِيَّ صلى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا“، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صبيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “عَجِبَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ مِنْ فعَالِكُمَا” فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ (سُورَةُ الْحَشْرِ: 9/59)[3].
وقد تناول محمد عاكف هذه الروح المباركة السامية وعرض لها في قصيدةٍ نَظَمَها حولَ موقعة “اليرموك”؛ حيث ارْتُثَّ[4] من ساداتنا الصحابة الكرام في هذه الحرب كلٌّ من الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة رضي الله عنهم أجمعين فَدَعَا الْحَارِثُ بِمَاءٍ يَشْرَبُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عِكْرِمَةُ، فَقَالَ الْحَارِثُ: ادْفَعُوه إِلَى عِكْرِمَةَ، فَنَظَرَ عَيَّاشُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: ادْفَعُوهُ إِلَى عَيَّاشٍ، فَمَا وَصَلَ إِلَى عَيَّاشٍ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى ذاقوا طعمَ الشهادةِ وما ذاقوا الماءَ[5].
وقد وقعت أمام عينيّ حادثةٌ مشابهةٌ لما أسلَفنا، لا أنساها أبدًا، حيث كنّا في مخيم “بوجة”[6]؛ إذ جاءت قطعةُ لحمٍ في طبقِي حين كنا نأكلُ الطعام، فدفعتها فورًا أمام أستاذ حلَّ بنا ضيفًا وكان جالسًا بجواري، فدفعها بِدَورِهِ إلى مَن بِجِوارِهِ، وهكذا دواليك، وبعد أن طافت قطعةُ اللحم ربما أمام اثني عشر رجلًا عادت إلى طبقِ الضيفِ الأوَّلِ مرَّةً ثانيةً، فعلَّقَ الأستاذ المليحُ على هذا بقراءتِهِ قول الله تعالى: ﴿بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ (سُورَةُ يُوسُفَ: 65/12)، وهكذا فإن انتشارَ هذا الشعورِ والحسّ بين الناس مهمٌّ جدًّا من أجل سلامة المجتمَعِ وطمأنينتِهِ وبناءِ روحِ الأخوّة بين أفرادِهِ.
إنّ ذوي القلوب الطاهرة النقيّة مفعمون بمشاعر الرأفة والشفقة تجاه الإنسانية
الإيثار في المنصب والرتبة
كلُّ هذه أمثلة مهمة بالنسبة للإيثار، ومع هذا فينبغي ألا يُنظر إلى الإيثار على أنه مجرَّدُ تفضيلِ الآخرين على النفسِ في أمورٍ كالمأكلِ والمشْرَبِ والملبَسِ فحسب؛ فتفضيل المرء أخاه على نفسِهِ حين يتعلّق الأمر بالمقام والمنصِبِ والرتبةِ مهمٌّ جدًّا بالنسبة لمعنى الإيثار، وما أجمل موقف سيدنا عمر رضي الله عنه وما أجوده من مثالٍ في هذا الشأن؛ فحينما انتقل مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم إلى أفق روحه اجتمع الصحابة الكرام من فورهم فيما بينهم كي يتفقوا على خليفة حتى لا تفسدَ الوحدة الروحية التي بين المسلمين، ولا يتفرقَ شملُ المجتمع المسلم، فعدَّدَ سيدنا أبو بكر فضائل عمر وقال لمن حوله من الصحابةِ في سقيفة بني ساعدة: بَايِعُوا عُمَرَ، أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَيْرُنَا، وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ[7]، ومن ثم فإن تراجعَ الإنسان خطوةً إلى الوراء وتقديمه أخاه على نفسه في الإمارة والصدارة نوعٌ مهمٌّ جدًّا من أنواع الإيثار.
وبالمناسبة عليَّ القول إننا لسنا في وضعٍ يسمحُ لنا بقياسِ أوجُهِ عظمةِ سيِّدنا أبي بكر وسيّدنا عمر ورفعةِ كلٍّ منهما؛ لأننا لا نملكُ ميزانًا يَزِنُ أعمالَهما بما يتَّفِقُ وقيمتَهما الخاصّة، وأظنُّ أنه حتى وإن همَّ الميزان الذي في الآخرة أن يَزِنَ أبا بكرٍ وعمر وعثمان وعليًّا رضي الله عنهم أجمعين وثواب أعمالهم فإنه ينوءُ بذلك، فكلُّ واحدٍ منهم قيمةٌ متفرِّدةٌ بِرَأْسِها، حتى إنهم ساروا متساوين في المرتبة، فلم تبقَ أمامهم مرتبةٌ إلا وأدركوها سوى الرسالة، وإنما لم يُحرِزوا الرسالةَ لأنه لا رسالة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أنه كان هناكَ نبيٌّ بعد مفخرةِ الإنسانيّة صلى الله عليه وسلم لكانَ أحدَهم.
أجل، حين رأى سيِّدنا أبو بكر سيدنا عمرَ رضي الله عنهما جديرًا بالخلافةِ رآه عمرُ أيضًا حقيقًا بها، ومن المؤكَّدِ أنَّ أيًّا منهما لم يقلْ ولو حتى في حديثِ نفسِهِ الداخلي: “إنني أستطيع أن أُتقنَ هذا العمل أكثر من صاحبي؛ فقد أُشِيرَ إليَّ”، وهكذا فإن قدرةَ المرءِ على تفضيلِ غيرِهِ من إخوتِهِ على نفسِهِ حين تتعلَّقُ المسألةُ بِنَيلِ مناصبَ معيّنة ربما يُمثِّلُ في حدِّ ذاتِهِ مرتبةً من الإيثار تفوقُ كلَّ أنواعِ الإيثارِ في المنافِعِ المادّيّة.
ومن يتحلَّى بهذهِ الخصلةِ لا يُفضِّلُ أن يعيشَ ويحيا هو فحسب، بل يُؤْثِرُ على نفسِهِ أن يحيا الآخرون، ويتصرَّفُ بجرأةٍ وجسارةٍ حتى إنه ليقول: “أموتُ وأفنى إن لزمَ الأمرُ، المهمّ أن يحيا الناس، وإن كان بقاءُ أمَّتي وثباتُها مرهونٌ بالتضحيةِ بي فإنني أسأل الله تعالى أن يَقسِمَ لي هذا في الحال”، وعلى العكسِ من ذلك فإنَّ الشقيَّ المحرومَ من هذه الروح الطيِّبةِ هو مَنْ يحسب نفسه أساس كلِّ شيء وأنّه كالثَّورِ الذي يحملُ الكرة الأرضيّة، ويتوهّم أنها ستنهار إذا ما انسحب من أسفلها فتقوم القيامة.
الأشخاص الأنانيين الذين يتشدَّقون بأنفسهم دائمًا قائلين: “أنا، أنا” تسبَّبوا في تصارعِ الناسِ فيما بينهم، وأثاروا فيهم مشاعرَ الحسدِ والغيرة والاستثقال والعِراك
الإيثار ولو على عتبةِ الجنة
كم أن المشهد الآتي مؤثِّرٌ وجديرٌ بالانتباه إليه بشأن بيان إلى أيِّ مدى قد يصل الإيثار؛ فقد رُوِيَ أن روحَ سيِّدِ الأنام أُطلِعَت على الْتِقاءِ الأثرياء والعلماء عند باب الجنّة فأخبرَنا بما دار بينهما؛ حيث قال العلماء للأثرياء: “تفضلوا، الأولويّة لكم، هذا حقُّكم أنتم، ادخلوا أنتم أوّلًا، لأنكم لو لم تنفقوا ثرواتكم في سبيل الله، ولم تؤسِّسوا مراكز العلم، ولم تُجهِّزوا الإمكانيات التعليميّة لما كنا نحن علماء، ولما وجدنا الطريق والاتجاه السليم، فقد تسبَّبْتم أنتم في سيرنا في طريق العلم وانفتاح أُفُقِنا، إننا مدينون لكم، ولذلك فالأولويّة لكم أنتم، فلتتفضَّلوا!”، وتراجعوا خطوة إلى الوراء احترامًا لهم، غير أن الأثرياء الأسخياء يردُّون عليهم قائلين: “الحقيقةُ أننا نحن المدينون لكم، لأنكم لو لم تُبصِّروننا بِفَضْلِ عِلْمِكم الواسع، ولم ترشدونا أحسنَ الإرشاد، ولم تعلِّمونا أن نقرأَ الأوامر التكوينيّة والتشريعيّة سويًّا، ولم تدلُّونا إلى جمال الكسبِ الحلال والإنفاقِ في سبيل الله تعالى لما استَطَعْنا أن نُنْفِقَ ثرواتنا في سبيل أعمالٍ خيِّرةٍ كهذه، لقد أرشدتمونا وحملتمونا من الإعطاء مرة إلى الكسبِ آلاف المرات، ولهذا فإنكم روّادُنا هنا في الآخرة كما كنتُم في الدنيا، فلتتفضَّلوا بالدخولِ أنتم أوّلًا!”، وبعد هذا الحوار العذب يتقدَّمُ العلماءُ، ويدخلون الجنةَ مع الأغنياء الأسخياء إثر بعضهم البعض.
يجب ألّا نفهم هذا الحوار الذي دار بين العلماء والأثرياء الأسخياء على أنه مجرَّدُ نقلٍ لحادثةٍ ستقعُ لاحقًا، بالعكس؛ يجب هنا أيضًا الحديث عن مدى اتِّساعِ أفق الإيثار وإطاره، تخيلوا أن هناك جسرًا (أي الصراط) صعبَ المجاز وميزانًا وحساباتٍ ثقيلة خَلَّفَها هؤلاء الناسُ حتى وصلوا باب الجنّة، بينما أمامهم من أوجهِ جمال الجنّةِ ما يُذهِل العقول ويُبهر الألباب؛ مما لا عينٌ رأَتْ ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ قطّ، تخيّلوا كم ينبَهِرُ الإنسان ويُصبح وكأنه سيُغمى عليه حين يرى تلك المحاسن والجماليات، تخيَّلُوا كيف تتجلّى روح الإيثار حتى أمام منظرٍ كهذا! وهكذا يُبَيِّنُ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهذا المشهدِ الذي رَسَمَهُ لنا كم أنّ سبيلَ روحِ الإيثارِ يمتدُّ إلى هذا الحدِّ.
وقد قال فذُّ زماننا وأحدُ ورثةِ الأنبياءِ الأستاذ بديع الزمان رحمه الله: “لم أَذُقْ طوالَ عمري البالغِ نيِّفًا وثمانين سنة شيئًا من لذائذ الدنيا، قضيتُ حياتي ما بين ميادين الحرب وزنزانات الأسر وسجون الوطنِ ومحاكمِ البلاد، ولم يبقَ صنفٌ من الآلامِ والمصاعِبِ لم أتجرَّعْهُ… لقد ضحَّيتُ حتى بآخِرَتي في سبيل تحقيقِ سلامةِ إيمانِ المجتمع، فليس في قلبي رغبة في الجنة ولا رهبةٌ من جهنم… وإن رأيت إيمان أمتنا في خير وسلام فإنني أرضى أن أُحرق في لهيبِ جهنّم؛ إذ بينما يحترقُ جسدي يرفلُ قلبي في سعادةٍ وسرورٍ”[8]، ومن يسمع كلماتِهِ هذه يُخيَّلُ إليه أنَّ هذا النَّفَسَ وهذا الصوت آتٍ من قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ ومنبعثٌ من عصرِ صدرِ الإسلامِ، وأظنُّ أن مجتمعَنا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى روحٍ من الإيثار الواسعِ الشموليّ أكثر من حاجتِهِ إلى الماءِ والهواءِ.
إن عودة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وطن المحنة هذا بعد أن رأى في رحلة المعراج ما لم يُرَ، وبلوغه ما لم يُبلَغْ، واجتيازَه ما لم يُجتَزْ في غايةِ الأهمّيّة من حيث فهم المرتبة الأعلى في أفق الإيثار؛ فقد التقى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم في رحلته هذه بكلٍّ من سيدنا المسيح، وسيدنا موسى، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا آدم عليهم السلام أجمعين، ولقي من هؤلاء الأنبياء الكرام التشريفَ والتكريمَ والتبجيلَ، ثم دخل الجنَّة فرأى جمالها وحسنها الأخّاذ[9]، بعد ذلك شاهد جمال الحقِّ تعالى، ومن يدري كيف تشعرُ روح الإنسان وتُحِسُّ بمشاهدة الله! وقد ورد في كتاب “بدء الأمالي”:
“اللهم إنه لا قيمة لحياتي ولا قَدْرَ لها إلا إذا كانت ستُسهِمُ في حياةِ وإحياءِ الآخرين، وإلا فإنني أشعرُ بالاشمئزازِ من هذه الحياةِ التافهةِ التي لا تُفيدُ الآخرين شيئًا، ولا تبعث فيهم الشعور بالانبعاث، وأعوذُ بكَ من مثلِ تلك الحياة، اللهم فخلِّصْنِي من هذا البلاء”
يراه المؤمنون بغير كيف وإدراك وضرب من مثالِ
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال[10]
أي إن جميعَ قصورِ الجنّة ونُزُلِها، وجميعَ الحورِ اللواتي تغرقُ الدنيا في نور إحداهن إن انعكس عليها، والفواكه والأطعمة وغيرها تتوارى عن العين وتنحجبُ عند رؤيته تعالى، وهكذا فإن سيدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الذي حظيَ بكلِّ هذا وبلغَ مرتبةً بين الوجوبِ والإمكان عادَ إلى البشريّة مجدّدًا دون أن تزيغَ عيناه وما عودَتُه تلك إلا من أجلِ أن يُبلِّغ أمَّتَهُ بما رآهُ وأحسَّهُ وشعرَ به من النِّعَمِ.
وعندما ذكرَ أحدُ الأولياءِ -ويُدعى “عبدَ القدوس”- عودةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل هذه الرحلة قال: “والله وبالله وتالله لو أنني كنتُ وصلْتُ إلى هذه المقامات والمراتبِ لما عدتُ إلى الدنيا مجدّدًا”، وقد علَّقَ أحدُهم على كلامِهِ هذا قائلًا: “هذا هو أكبر فرقٍ بين مقام النبوّة والولاية”. أجل، إن الأنبياء وُجدوا لأجل حياة الآخرين تمامًا، أما الأولياء فقد يرغبون في الرفعة المعنويّة والوصول إلى المتعِ المعنويّة الروحيّة.
أضف إلى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ مثل هذا الأفق وهو لا يزال حيًّا في الدنيا حين يسمع في الآخرة أيضًا صرخات من سيدخلون جهنم من أمَّته -ربما أنه- سيدنو من حافتها، ويمدُّ إليهم يده، ويطلب إخراجهم منها مثلما عاد إليهم في الدنيا كي يرشدهم ويهديهم إلى الطريق المستقيم، كل هذه مظاهر مختلفة الأبعاد لتجلِّيات مختلفة من الإيثار ذي الأفق النبوي.
ترياقٌ يقضي على الاشتباكات والمنازعات
نحن اليوم بحاجة مُلحَّة إلى روح الإيثار المرتبطة بالإيمان والحياة القلبية والتقرُّب إلى الله والشفقةِ ومشاعر الإحياء. أجل، إننا في حاجةٍ إلى أولئك الفتيةِ القادرين على الاستغناء عن الدنيا بجوانبِها الشهوانية وملذّاتها وما فيها، الذين يَحيَون كي يحيا الآخرون فحسب، القادرين على قول: “اللهم إنه لا قيمة لحياتي ولا قَدْرَ لها إلا إذا كانت ستُسهِمُ في حياةِ وإحياءِ الآخرين، وإلا فإنني أشعرُ بالاشمئزازِ من هذه الحياةِ التافهةِ التي لا تُفيدُ الآخرين شيئًا، ولا تبعث فيهم الشعور بالانبعاث، وأعوذُ بكَ من مثلِ تلك الحياة، اللهم فخلِّصْنِي من هذا البلاء”.
لأن الأشخاص الأنانيين الذين يتشدَّقون بأنفسهم دائمًا قائلين: “أنا، أنا” تسبَّبوا في تصارعِ الناسِ فيما بينهم، وأثاروا فيهم مشاعرَ الحسدِ والغيرة والاستثقال والعِراك؛ فجعلوا المجتمع في حالة لا تُطاق، هذا في حين أن هناك آلافًا من الناس يستطيعون القيام بما يقوم به هذا وذاك من الأعمال، فليتهم وثقوا بالله ولو قليلًا، وقرروا المسير في طريق الرسول والصحابة طالَما يتحدَّثون عنهم، وليتهم تراجعوا خطوةً إلى الوراء حين لَزِمَ الأمر؛ فليس في هذا ما يُضيرُ، وليتَهم قالوا: “تفضَّلْ، تَوَلَّ أنت هذا العمل”، وهكذا؛ فإن كان ثَـمَّةَ إكسيرٌ يساهم في رَأْبِ صدعِ المجتمع الذي تمزَّقَ وانفصلَ بعضُه عن بعضٍ فإنه لا محالةَ روحُ الإيثار التي ستترعرع في تلك القلوبِ من جديد.
وإلا فإنه لن يمكن حلها بواسطة الدبلوماسيّة ولا الحيل السياسية، ولا ألعاب التسلية، ولا بواسطة إستراتيجيّات مؤسّسات التفكير والتخطيطِ، ولو أنها حُلَّتْ لكان المجتمع الذي عاش عديدًا من الانقلابات والتحولات منذ أمسِهِ وحتى يومِهِ هذا قد خطا واثِقًا نحو أفقٍ متقدِّمٍ، ولكنّ الملاحَظَ أن الوحشية لا تزالُ مستمرَّةً، ولا يزال الناس يأكل بعضهم بعضًا كما يفعل أكلة لحوم البشر، بالله عليكم هل يختلف إمطار الناس بالقنابل، واستخدام الغازات السامّة، وعدم الاعتراف بحقِّ الآخرين في الحياة، والتحرك وفقًا لظاهرة الخوف من الإسلام، وارتكاب أنواع من المظالم خوفًا من الجماعة… هل يختلفُ كلُّ هذا عن أكلِ لحومِ البشر في شيءٍ!؟ إن هذا كلّه ليس شيئًا آخر سوى وحشيةٍ من نوع مختلف، أما السبيل إلى القضاءِ على كلِّ هذا فهو التوجُّهُ إلى روحِ الإنسانيّة من جديد، والسعي إلى الوفاء بضروريات “أحسن تقويم”.
بقلم/ فتح الله كولن
المصدر: موقع النسمات