صعد المدرّس الشاب الطائرة دون أن يلتفت إلى الوراء، وما لبث أن هاجت عواطفه وراحت دموعه تتساقط بغزارة.. وداعًا أيتها الأم العزيزة، وداعًا أيها الوطن الحبيب… كلمات أوقدت لهيب الغربة في كبده، فتمتم “طوبى للغرباء..” إنها لمسؤولية عظمى.. إنها لرحلة مقدسة، رحلة إلى ما وراء الوراء. بعد لحظات أقلعت الطائرة محلقة في السماء.
كان يركب الطائرة لأول مرة، ويفارق وطنه لأول مرة. نظر إلى السحب المتراكمة من النافذة الصغيرة وغرق في عالم من التأمل. تذكر الجبال الشامخة التي كانت جدته تحكي له عنها في طفولته: “كان يا ما كان في قديم الزمان، كان في الأراضي البعيدة جبل شامخ يدعى جبل “قاف”.. ولا يمكن الوصول إليه إلا على ظهر طائر العنقاء…” جبل قاف وطائر العنقاء… ماذا كانت تعني جدته بهاتين الكلمتين يا ترى؟ بدأ يتصور أن جبل قاف هي بلاد القفقاس، وطائر العنقاء هي الطائرة التي تقلّه إليها. إذن، إنه مسافر إلى ديار القصص والأحلام ليصبح أحد أبطالها. خفق قلبه لهذه الفكرة ثم قال في نفسه: “لا شيء يجعلنا عظماء غير خدمتنا لرسالتنا الإيمانية وسعينا لنيل مرضاة ربنا”. تلألأت عيناه الواسعتان وشعر بسعادة لا توصف. تذكر أنه يحمل في أعماقه رسالة مقدسة. ولكن هل يستطيع أن يوفيها حقها ويقدم إلى هؤلاء الناس كل ما في قلبه من حب وحنان؟! ولمَ لا؟! إنه سيقول لهم:
“مرحبا.. جئتكم بتحية الزهور والورود من تركيا.. جئتكم لإعادة بناء أخوّتنا من جديد.. جئتكم لنقيم صرح أرواحنا معًا وننشر روح المحبة والإيمان والفضيلة في كل أنحاء العالم…”
“لا شيء يجعلنا عظماء غير خدمتنا لرسالتنا الإيمانية وسعينا لنيل مرضاة ربنا”
شعر ببرد قارس وراح يرتجف عند أول خطوة خطاها خارج الطائرة.. لم يكن معتادا على مثل هذه الأجواء. كانت عاصمة القفقاس مغمورة بالثلوج وقد ارتدت حلتها البيضاء الناصعة.. خرج من المطار المتواضع وأخذ يسير في شوارع المدينة. إنه لا يعرف أحدا هنا.. قسوة البرد لا تطاق.. احترز ألا ينـزلق فيقع على الجليد الذي يغطي كثيرا من الأماكن في الأرصفة. لا بد من الذهاب إلى فندق. رأى مجموعة من الشباب، اقترب منهم وحاول أن يتفاهم معهم بالتركية ولكن دون جدوى بسبب اختلاف اللهجة. حاول بكل ما لديه من جهد أن يفهمهم أنه أتى من تركيا ويبحث عن فندق. وما أن نطق بكلمة “تركيا”حتى احتضنه بعضهم بشوق الأخ الذي عثر على أخيه بعد فراق سنين. رافقوه إلى فندق متواضع جدا وعبارات السرور تعلو وجوههم وتنعكس على تصرفاتهم المرحبة. قضى ليلة مزعجة لم يستطع فيها النوم من شدة البرد والرطوبة.
وفي صباح اليوم التالي كانت الجرافات تزيل الثلوج المتراكمة على الطرق. لاحظ أن أغلب الأبنية في هذه المدينة ذات طابقين، وأزقتها يشبه بعضها بعضا. رأى في أغلب الميادين والشوارع والأزقة تماثيل “لينين” وصور شخصيات هامة وعبارات وطنية حماسية على الجدران، ثم جنود الروس المسلحين… كانت الصورة العامة بالنسبة له كالحة ورمادية بعض الشيء، إذ لا تزال رموز الشيوعية تسيطر على كل مكان في هذا البلد؛ بينما هو كان لا يحمل سلاحا غير سلاح العلم والأخوة… كان ذهنه منشغلا بإيجاد سبيل لبناء مدرسة هنا.. لإيقاد شعلة إيمانية يستدفئ بها أبناء هذا البلد الشقيق.
سأل عن القصر الرئاسي، ولما علم مكانه اتجه إليه فورا. في البداية أبى الجنود أن يدخلوه المبنى، لكن لما علموا أنه قادم من تركيا أطلقوا شعارات الفرح وأبلغوا أمره إلى الرئيس مباشرة. استقبله الرئيس أمام باب غرفته بترحاب حار. إنه من النادر جدا أن يزور هذه الديار البعيدة أحد من تركيا.
– أتيتم من تركيا إذن.. أهلا بكم..
انبسطت أسارير عاصم وحل السرور قلبه:
– سيدي الرئيس، جئتكم بتحية إخوانكم من تركيا..
قدّم للرئيس العلَم التركي مع بعض الهدايا التي جاء بها معه. تأثر الرئيس كثيرا وغلبته عواطفه واغرورقت عيناه بالدموع:
– شكرا جزيلا، أنت إنسان طيب وأخ كريم.
تفحص الهدايا بدقة ثم استنشق رائحتها:
– إنها رائحة تركيا، نعم تركيا..
أخرج “عاصم” من حقيبته مصحفا وقدمه إلى الرئيس، فنهض مندهشا:
– ما هذا؟!
– المصحف الشريف.
ترقرقت الدموع في عينيه.. تناول المصحف بأدب جمّ وراح يقبّله بشوق عارم. لاذ بالصمت لحظات وقد ضم المصحف إلى صدره بحب.. نظر إلى عاصم بسعادة كبيرة:
– أتيتنا بروحنا يا أخي. أعدت إلينا سراجنا الذي فقدناه منذ عقود. أذكر وأنا طفل صغير أن جدتي كانت تقرأ القرآن خفية. لا أعرف كيف أشكرك، كان جدي يحدثنا عن تركيا كثيرا.. مدينة إسطنبول مباركة بالنسبة لنا.. قل لي أيها الأخ العزيز ما الذي أتى بك إلى هذه الديار النائية؟
– أتيت لأقيم مدرسة يا سيدي.
– مدرسة!؟
– نعم مدرسة. أريد أن أقيم مدرسة على غرار مدارسنا المنتشرة في كل أنحاء تركيا.
– لإقامة مدرسة؟! أتيت لوحدك!..
– سأبدأ العمل لوحدي، لكن سيلحق بي من تركيا مئات المتطوعين من المدرسين ورجال الأعمال. سيدي، لقد افترقنا عن بعضنا طيلة سبعين عاما بسبب الشيوعية، لكن انتهت الغربة، وحان وقت إقامة الجسور من جديد، وتتويج أخوتنا بالعلم والفضيلة والإيمان.
قال الرئيس وقد بلغ منه التأثر مبلغا:
– ما أجمل حديثك يا أخي. أتيت.. لوحدك.. من أجلنا!.. ودون مقابل؟!. لك كل ما تريد. افعل ما شئت وأينما شئت.
وبعد يومين شرع عاصم بالعمل لإقامة المدرسة في البناية التي خصصها له الرئيس.. راح يعمل بكل ما في وسعه من جهد وطاقة.. عليه أن ينتهي من العمل خلال شهر ويبدأ بالتدريس.
وبعد شهر كامل تم تسجيل خمسين طالبا، ثم وصلت المعدات المدرسية والمستلزمات المطلوبة الأخرى. وهكذا فتحت أولى مدارس المحبة في ديار القفقاس. كان عاصم يهتم بالتدريس وشؤون المدرسة في آن واحد، فلا يدري كيف يمضي الوقت، لكنها كانت أسعد أيام حياته على الإطلاق رغم كثرة المشاغل والإرهاق. وفي أحد الأيام جاءه إسماعيل، أحد طلابه المجتهدين ودعاه إلى زيارة أهله في القرية. لم يستطع عاصم أن يرفض دعوة تلميذه الأثير:
– ولكن كيف سنذهب؟
– على عربة الجليد يا أستاذ.
كان الثلج والجليد يغمران كل مكان.. والضباب يغطي قمم الجبال.. لأول مرة يركب عربة جليد، شعر بالخوف والقلق في البداية ثم بالبرد الشديد الذي أوشك أن يجمد يديه وقدميه.
– كم يستغرق الطريق إلى القرية؟
– ساعتين…
– ماذا!.. إسماعيل، كل يوم تقطع هذه المسافة لتأتي إلى المدرسة؟
– أجل.. إنها رغبة أهلي.
كان الطريق موحشا وكان الظلام يلقي بظلاله الكئيبة على كل شيء مع شدة البرد. بعد ساعتين قال إسماعيل:
– وصلنا، ها هي قريتنا.
وأشار إلى أضواء القرية التي تتلألأ في جوف الظلام. شعر عاصم أن يديه ورجليه قد تخدّرتا تماما من البرد. فما استطاع النـزول من العربة إلا بمساعدة تلميذه.
فُتح الباب ببطء وظهرت امرأة طاعنة في السن متلفعة بوشاح من صوف غليظ تمسك بيدها مصباحا، قالت مبتسمة:
– أهلا أهلا تفضلوا.
“مرحبا.. جئتكم بتحية الزهور والورود من تركيا.. جئتكم لإعادة بناء أخوّتنا من جديد.. جئتكم لنقيم صرح أرواحنا معًا وننشر روح المحبة والإيمان والفضيلة في كل أنحاء العالم…”
كانت جدران غرفة الجلوس مغطاة بالسجاجيد التي تبعث دفئا محببا في النفوس والأبدان. جلس عاصم على أريكة متواضعة.. كان يتألم من خدر رجليه ويديه. جلست العجوز قبالته وراحت تقرب المصباح من وجهه لتراه جيدا… فقال لها إسماعيل وهو يبتسم:
– جدتي إنه معلمي الأستاذ عاصم.
– من أين؟
– من تركيا
تجمدت في مكانها دون حراك، ارتجفت يداها:
– جدتي… ما بك، هل أنت بخير؟!
أمعنت النظر مرة ثانية في حيرة ممزوجة بالدهشة وقد شحب وجهها واضطربت حركاتها وامتلأت عيناها بالدموع. تمتمت بتأثر عميق:
– أنا أعرف هذا الوجه…
انتفض عاصم باستغراب، بينما برزت الدهشة على ملامح حفيدها أيضا.
– نعم أعرفه.. إنه هو.. هو..
أرخى الصمت سدوله على أطراف البيت لحظات. فلم تستطع الجدة الوقوف أكثر على قدميها، فجلست دون أن يفارق بصرها وجه عاصم.. تنهدت في حسرة:
– لم نستطع مقاومتهم، كانوا مسلحين، يقتلون كل من يعترض طريقهم على الفور. لم تنمحِ تلك الأيام في ذهني أبدا.. أيام الانقلاب الشيوعي في عهد “لينين”. كنت صغيرة وكان الوقت بعد منتصف الليل. استغرقت في نوم لذيذ مع صوت أمي التي كانت تحكي لي قصة الأمير الذي يأتي من وراء جبل قاف على طائر العنقاء لينقذنا من المآسي التي نعاني منها. وإذا بصرخات أقلقتني من النوم، رأيت الدبابات تدوس كل ما يعترضها في الأزقة، والجنود يطلقون الرصاص على أبناء القرية. وضعونا في عربة قطار للحيوانات نساء ورجالا صغارا وكبارا…
ابتلعت ريقها وسكتت ثم ركزت بصرها على الجدار واستطردت:
– ما نسيت تلك الليلة يا ولدي. القطار يسير، والثلج يغمر الأرض، والبرد قارس. كنت أبكي من الجوع. مات أعمامي وماتت جدتي وبعض الأطفال بسبب البرد والجوع والتعذيب. “نحن في المنفى يا حبيبتي، وسوف نعود إلى وطننا يوما”، هكذا كانت أمي تقول لي. كانت الشيوعية والمنفى نفس الشيء بالنسبة لي.
انعقدت الكلمات في حلقها:
– وبعد سنوات مات أبي وأمي، وبقيت وحيدة في هذه الحياة. ولكن ما نسيت كلام أمي أبدا “سوف نعود إلى وطننا يوما”. عزمتُ على الهروب فهربت. وبعد عناء كبير وصلت إلى وطني فاستنشقت رائحة ترابه بشوق وشكرت المولى.. كانت القرية خرابا ومنـزلنا أنقاضا، وكنت مرهقة جدا فانكمشت في زاوية واستغرقت في نوم عميق.. وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاني في المنام.. لا أعرف كيف أصف جماله لكم.. لم أشبع من النظر إلى وجهه المضيء، مسح رأسي بيده الشريفة قائلا:
– لا تقلقي، سينتهي هذا الظلم يوما يا ابنتي.
فقلت بألم:
– متى يا رسول الله؟ ولماذا لم يأت أشقّاؤنا المسلمون لمساعدتنا؟
– إنهم في وضع أسوأ منكم، ومن الصعب أن يأتوا. ولكن سوف يأتي أحفادهم يوما ما.
وفجأة ظهر شاب إلى جانبه، طويل القامة جميل الوجه يشع النور من جميع أطرافه، فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إليه قائلا:
– هذا هو أول من يأتي لمساعدتكم. لكنه سيأتي من بلاد حارة، فلا يستطيع تحمل برد دياركم. فأسرعي بنسج جوربين له وقفازين، وقدّميها إليه هدية عندما يأتي.
“لم أنس ذلك الوجه أبدا…”
قربت المصباح من وجه عاصم والدموع تهطل من عينيها:
– كيف أنسى الوجه الذي كان يضيء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الشمس.
لم يتمالك عاصم نفسه وانهمرت دموعه هو الآخر. هرولت الجدة إلى الغرفة المجاورة وفتحت صندوقا قديما وأخرجت منه جوربين وقفازين ثم رجعت مسرعة ومدتها إلى عاصم وعيناها تشعان بسعادة فائقة:
– هيا البسها، إنها لك، إنها ستحميك من البرد. فهي انتظرت قدومك منذ خمسين عاما يا ولدي.
أخذ عاصم هديته العزيزة منها ولبسها وقد غمرته مشاعر غامضة.. ازداد حيرة عندما رأى أنها على مقاس قدميه ويديه تماما.
امتلأ قلبه بالسعادة والإيمان، فما عاد يشعر بالبرد ولا بالغربة، أحس بدفء الرسالة السامية التي يؤديها والعناية النبوية والرعاية الإلهية التي ترعاه هو ورفاقه الأبطال أنى كانوا.
بقلم/ محمد أويار