بقلم : مايسترو
يعج مسرح الأحداث السوري بقوات من دول عديدة: روسية؛ أمريكية؛ تركية؛ إيرانية؛ هذا بجانب تدخلات عسكرية إسرائيلية مباشرة؛ ووجود لتنظيمات إرهابية كداعش والقاعدة وغيرها، ولكل مصالح وأهداف.. وسبق وفاجأتنا الصحيفة الأمريكية “وول ستريت جورنال” في أبريل 2018 بنشر خبر من العيار الثقيل، تمثل في طلب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إرسال مصر قواتها إلى سوريا، حيث أفادت الصحيفة بأن جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي تواصل مع رئيس المخابرات المصرية عباس كامل، لاستطلاع الرأي حول مدى استعداد القاهرة للمشاركة في مبادرة لتشكيل قوة عربية مشتركة تعوض الانسحاب المحتمل للقوات الأمريكية من سوريا.. هذا ووصف ترامب ــ منذ أيام فقط ــ الحلبة السورية بأنها “رمل وموت…” وأشار بما يفيد عدم وجود المبرر القوي لوجود قواته بقوله “نحن لا نتكلم عن ثروات كبيرة…”. ومع هذا الوصف الأخير يتضح مدى خبث طلب البيت الأبيض من مصر حلول جيشها مدعماً بقوات إماراتية محل القوات الأمريكية في سوريا.. !!!
ومؤخراً ـــ في 19 ديسمبر 2018 ـــ اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا، حيث يتمركز نحو ألفي جندي أمريكي في الشمال السوري، غالبيتهم من القوات الخاصة التي تُدَرب بشكل خاص قوات محلية من الأكراد على قتال تنظيم داعش، ولم يُشِر ترامب لبرنامج زمني محدد لهذا الانسحاب، ويبدو أنه سيكون انسحاباً بطيئاً، فالقرار يرتبط ارتباطاً مباشراً بالتوازن الجيواستراتيجي على الساحة السورية.. وقد كان قراراً فردياً متسرعاً أثار غضب وإحباط القادة العسكريين الأمريكيين وأعضاء التحالف الغربي المشارك لأمريكا في حربها ضد داعش؛ ولاحتواء الآثار الضارة المترتبة على قرار ترامب بالانسحاب من الساحة السورية فقد أُعلن أن الانسحاب سيكون بطيئاً.. وتجرى الآن مراجعات أمريكية مع أعضاء التحالف الغربي لاحتواء قرار ترامب بسحب قواته.
حقاً يؤكد الواقع أن مسرح الصراع السوري مستنقع يستنزف بصفة خاصة الأطراف الخارجية الموجودة عليه؛ لذا فإن لم يكن لوجود أي منها ضرورة ملحة تتعلق بمصالح استراتيجية فالخروج أصوب.. وإن كان للوجود التركي في شمال سوريا اعتبارات تتعلق بالأمن القومي؛ حيث كان وما يزال حاضراً هاجس تفكك الدولة السورية وانفصال شمالها وما يترتب على هذا من تداعيات تتعلق بنشوء دولة كردية.. ولذلك حرصت أنقرة على استيفاء كل الفرص المتاحة للوصول إلى حلول توافقية مع نظام بشار الأسد.. وهو سبيلها الأنسب لتحقيق هدفها لتأمين عدم انفصال الشمال السوري عن الدولة الأم، ولكنها وبعد الفشل في هذا الخيار ــ حتى الآن ــ فقد ذهبت تركيا لدعم فصائل المعارضة السورية.. ! وهو خطأ استراتيجي جسيم للقيادة التركية.. وتحدثت أنقرة كثيراً عن مشروعها الذي يهدف لجعل منطقة غرب نهر الفرات منطقة آمنة من مخاطر الإرهاب العابر للحدود؛ والمرتبط بتنظيم داعش أو “وحدات حماية الشعب” الانفصالية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، لكن الإدارة الأمريكية وحلف الناتو لم يدعموا خيار أنقرة المتعلق بالمنطقة الآمنة، في الوقت الذي أنجزت فيه “وحدات حماية الشعب الكردية” الكثير فيما يتعلق بمشروعها الانفصالي، وبقيت مسألة السيطرة على المنطقة الاستراتيجية الواقعة غرب الفرات خطوة أخيرة لاستكمال تحقيق الاتّصال الجغرافي بين مكوناتها الثلاثة.. وهو الأمر الذي أعلنته أنقرة خطاً أحمراً.. وقطعاً سيُصعب الانسحاب الأمريكي من سوريا على الأكراد تحقيق حلمهم.. .
هذا وإن كان الهدف الاستراتيجي الأبرز للتدخل التركي في سوريا هو منع الأكراد من استكمال مشروعهم وفرض أمر واقع على الشمال السوري، حيث تدعي القيادة التركية بأن تدخلها يهدف في جانب منه تنظيف منطقة غرب الفرات من الوجود الإرهابي، والذي كان مبرراً للدعم الأمريكي لوحدات الحماية الكردية، وحاولت أنقرة إيجاد البديل ـــ الخطأ ــ بإحلال فصائل المعارضة السورية محل الأكراد.. حيث يتعارض هذا الاتجاه مع المصالح الروسية، والأخيرة تعد القوة الأكثر تأثيراً على المسرح السوري ولا بديل عنها بشأن تحقيق الأهداف التركية، ولعل تحسن العلاقات التركية الروسية مؤخراً يمهد الطريق للتوافق بشأن الملف السوري.
وهناك العديد من التحديات التي تحيط بتوغل الجيش التركي في سوريا؛ تتلخّص معظمها في المخاطر المتمثّلة في الاستنزاف المترتب على هذا الأمر، والذي يزداد طردياً مع الامتداد الزمني للعملية؛ ولقد فاجأ ترامب أردوغان في مكالمة تليفونية قصيرة بقوله “سوريا كلها لك.. انتهينا” فيترك له مواجهة التنظيمات الإرهابية التي ساهم كثيراً في دعمها.. ! ونأمل أن يدرك أردوغان أهمية الحد من مخاطر انتشار قواته في سوريا، من خلال الوصول لاتفاق ثلاثي الأطراف : تركي؛ روسي؛ سوري، تتحقق به أهدافهم المشتركة، ويتجلى الانتصار السياسي في ضم الأكراد لهذا الاتفاق أو المحور إن شئت القول؛ فقد استشعر الأكراد أنه لا ثقة في السياسة الأمريكية وقد صرح بهذا مؤخراً مسئول كردي ــ بدران جيا كرد، مستشار إدارة مناطق الحكم الذاتي الكردية شمالي سوريا ـــ هذا وبينما يسعى ترامب لتفكيك المحور الروسي التركي الإيراني.. فإن سياسته تؤكد مع الجميع على أن “المصلحة تبرر الخيانة“.. !!! وها هي روسيا تتسيد الموقف على الساحة السورية ــ بل والعالمية ـــ فتفسد الرهان الأمريكي بتفكيك هذا المحور، وغالباً ستطلق روسيا يد تركيا في المنطقة الحدودية غرب الفرات مع عدم السماح لها بالعبور للجانب الشرقي منه، حيث تتمركز الثروات النفطية السورية.. ومن جانب آخر انتشرت القوات السورية على تخوم مدينة منبج لإحكام السيطرة.. هذا مع إجراء مباحثات كردية سورية للتوافق على ما هو آت.
وعودة لفكرة إنشاء قوة عربية مشتركة؛ فيجب أولاً أن يحدد قرار إنشائها قضيتين هامتين؛ الأولى: ضد من تحارب هذه القوة؟ والثانية ما هي جبهة القتال المرتقبة؟ وأرى في هذا السياق أنه: لا المسرح السوري ولا اليمني يتطلبان تدخل هذه القوة بفرض تشكيلها، فالخطر الإيراني لا يرقى حتى الآن لمثل هذا التدخل، وليُترَك الأمر لإسرائيل؛ فمخاوفها من إيران أشد من مخاوف الدول العربية.. كما أن الخطر التركي محدود ومنحسر في مخاوفه المشروعة من الطموحات الانفصالية للأكراد.