السراج المنير و”سحق الأنا”
ألا ما أشبه حيرتهم هذه بحيرة قريش أوان كان سيد الأنام في “غار حراء”، يُصنع على أعين الله تعالى، ويربَّى في صفوف مدرسة “عشق الإله، وعشق الحقيقة”؛ هنالك تعلَّم كيف “ينكر ذاته”، وكيف “يسحق أناه”؛ ليحمل همَّ “البشرية الحائرة”فردًا فردًا، بلا استثناء، في جميع الأزمنة والأمكنة، ولا يزال، إلى أن يُبعث يوم الحشر، فداه أمِّي وأبي، وهو ينادي بأعلى صوته: “أمَّتي أمَّتي”.
فشل الأيديولوجيات
إن جميع “الأيديولوجيات”قد جُرِّبت، ولعدَّة قرون خلت، فما أورثت البشريةَ إلاَّ شقاءً وجحيمًا، ولم ينجُ من لظاها الشرقُ ولا الغرب، الأغنياءُ ولا الفقراء، المستعمِرون ولا المستعمَرون؛ جميعُهم كان ضحيةً بشكل أو آخر لتلك “الأيديولوجيات”.
بعدما عرفت البشرية قرونا من “الوهم” و”الغرور” و”الادعاء”، وجرَّبت شتى “النظريات”، و”الأيديولوجيات”، و”الفلسفات”، تيقَّنت أنها تسير مهرولةً نحو حتفها.
مِن أين المخرج؟!
تقف البشريةُ اليومَ، بشقيها الغربيِّ والشرقيِّ على السواء، أمام العديد من الخيارات:
إمَّا أن تواصل الكدح في حيرتها قرونا أخرى،
أو تبحث عن جواب (أو أجوبة جديدة) ضالَّة مضلَّة،
أو تهتدي إلى معنى “المعقولية”، و”الحقِّ”، و”الصواب”… وهو المأمول بحول الله تعالى.
يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن، في مقالة “رسالة الإحياء”، من كتاب “ونحن نبني حضارتنا”: “إنَّ أمَّتنا أوَّلا وبالذات، ثم الإنسانيةَ جمعاء، بحاجة ماسَّة إلى فكر سامٍ يقوِّي إراداتنا، ويشحذ هممنا، وينوِّر أعيننا، ويبعث الأمل في قلوبنا، ولا يعرِّضنا للخيبة مرَّة أخرى. أجل، نحن بحاجة شديدة إلى أفكارٍ وغايات وأهداف سامية، ليس فيها فجواتٌ عقلية أو منطقية أو عاطفية، وتكون منغلقةً أمام السلبيات التي وسمت البشريةَ أوان حيرتها، وصالحةً للتطبيق كلَّما سمحت الظروف”.
إذن، فالأسباب متوفِّرة، لأن تهتدي البشرية إلى الصراط المستقيم. لكنَّ السؤال الجدير هو: هل ستتشكَّل هذه الظروف وحدها، بلا جهد ولا اجتهاد ولا جهاد؟!
هنا يأتي دور العلم ودور العالِم على إثر السراج النبويِّ، بدلالاتٍ ومراحل، هي نفسها دلالات ومراحل ما بعد “غار حراء”.
صُنع سيد الأنام في “غار حراء”، على أعين الله تعالى، ورُبَّى في مدرسة “عشق الإله، وعشق الحقيقة”؛ وتعلَّم كيف “ينكر ذاته”، و “يسحق أناه”؛ ليحمل همَّ “البشرية الحائرة”فردًا فردًا.
العلم: قال تعالى: “اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ” (العَلَق:1).
الخلُق: قال تعالى: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القَلَم:4).
الدعوةُ (أي قيام النهار)قال تعالى: “يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ”(الْمُدَّثِّر:1-2).
التبتل (أي قيام الليل)قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً”(الْمُزَّمِّل:1-2).
الضرب في الأرض، والجهاد في سبيل الله قال تعالى: “وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ” (الْمُزَّمِّل:20).
أمَّا ذكرُ الله تعالى، وتلاوة كتابه الحكيم، فملازمٌ لكلِّ المراحل، وذلك بموجب ما ورد في جميع الآيات والسور، وباستقصاء سيرة النبيِّ الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فالسراج النبويُّ إذن، قام على هذه الركائز، وعمادُها جميعا: “الإيمان بالله”، و”اليقين في الله”، و”صبغة الله”…
فكلُّ عالِم، مهما كان تخصُّصُه، ومنصبه، ومسؤولياته، ومستواه، ومكانته… وجب عليه أن يتحرك على إيقاع هذه المعاني، وأن لا يحيد عنها قيد أنملة، وإلاَّ كان وبالا على البشرية، وزادها شقاء إلى شقائها، وحيرة إلى حيرتها.
محمد باباعمي
المصدر: موقع النسمات