لم تفلح دموع كولن في التخفيف من حرقته، وكل الذي حققته هو أنها رسمت صورة الواقع المهين بكل ما كان “كولن” يستشعره له من خزي.
ونفس التفجع يتملكه وهو يلتفت إلى الأقصى؛ إذ تجيش العواطف، ويثور ما يثوي في النفس من ذكريات نازفة، فتنحشر في الوعي بكل ضراوة، ويروح يتابع عرضها بكامل الألم. ولا يزال يغترف على ذلك النحو، من الأحزان المتجمعة في قلبه، ليبكي بها الأقصى ويستبكيه، بل إنه –على الأصح- يستنفره لكي يثور على أعدائه، فلعل أن تنبعث من ثورته شرارة تنير الطريق للأمة الواهنة.
لا شك أن القارئ يستشعر أن كولن رغم فجائعية ذلك التعداد الحزين، ورغم ما استفرغ من عبرات وحسرات تملأ الصدرَ، إلا أن الدموع لم تفلح في التخفيف من حرقته، وكل الذي حققته هو أنها رسمت صورة الواقع المهين بكل ما كان “كولن” يستشعره له من خزي.
المؤكد أن كولن في بكائياته على مساجد الإسلام، ورثائه لقبابها ومآذنها، قد نزف من العمق، وأن آثار ذلك النزف قد تجلت في كل لفظ وسياق.
ولا شك أن حدادية التصوير كانت في مثل هذه النصوص راجحة، ونابعة من الأعماق، ووقعها كوقع الجمر، بحيث لا يسع المتلقي إلا أن يقر للنص بحدَّته. فلكأن كولن كان وهو يسدد بمثل هذا النمط اللّاسع من الأسلوب، يهدف إلى أن يحدث الرجة في روح الجماهير، أو أنه من خلال عملية استظهار اللواعج، كان يتوخى أن يهيئ المتلقي للاستجابة الثورية الجادة، وأن يَعُدُّه لرد الفعل المناسب.
وإذا كنا قد رأيناه يعترف في بعض ما كتب، أنه يتعمد أن يُجَوِّد في بثّ همومه وأحزانه، فالمؤكد أنه في بكائياته على مساجد الإسلام، ورثائه لقبابها ومآذنها، قد نزف من العمق، وأن آثار ذلك النزف قد تجلت في كل لفظ وسياق.
فهو من هذا الجانب، يحقق بُعد الالتزام الذي ينسجم مع مبدأ الصدق ومطلب النجاعة، فالمصلح إذا لم يكن يتوفر على الخطاب الناري، والأسلوب النافذ، لا يفلح في تمرير رسالته.. من هنا رأينا كولن يعرب عما حاز من فضل ومنن، حين أُوتي موهبة الكتابة والخطابة؛ إذ هما سلاح كل مصلح، صانع أجيال.
في هذا السياق التثويري عينه، نرى الأستاذ كولن، يسجل –هو كذلك- مشهدًا منذرًا يدين الأمة على تفريطها في الموثق، مشهد انفصال قبة الأقصى؛ إذ تراءت له –في عين الخيال- وهي تنفَكُّ عن الحرم، وترحل نحو السماء، تمامًا كما ارتحلت الكعبة في عين الرباني ذات حين.
لا ننسى أن كولن، وهو رجل المواجد والعشق، يؤمن بقدرة الروح، وأن في وسعها أن تتجاوز محدوديتها فتعانق الزمنية في مطلقيتها
ولا ريب أن تكرار الحادثة لقطب العصر، أمر روحي لا مراء فيه، إذ صلة التطابق وتماهي الأزمنة والأمكنة والوقائع، وهي من أحوال التخَطِّي التي تحياها أرواح الأطهار، إذ في وسع الذين يبلغون الإشراق، أن يتعالوا عن الخطية، وأن يعيشوا الوجود، ويجتازوه، مكانًا وزمانًا، وكأنه قصاصة مرقومة في أكفهم.
وقد يكون كولن عاش تلك الحادثة بوجدانه، (أو كما نقول اليوم: عاشها افتراضًا)، وأنه حرص على أن يوثقها؛ لأنه وجد فيها من النُّذر ما حسب أن الأمة حَرِيَّة بمعرفته، فلعلها أن تستفيق وتتوب وتتجند.
لا ننسى أن كولن، وهو رجل المواجد والعشق، يؤمن بقدرة الروح، وأن في وسعها أن تتجاوز محدوديتها فتعانق الزمنية في مطلقيتها، بل لقد رأيناه يحرّض ذوي الاستعداد، عُشاق الحقيقة العلوية، على أن يتمرسوا برياضة العروج، وأن يتدربوا على احتواء خط الزمنية من طرفيه، بل وأن يتمرنوا على أن يعيشوا المطلق، فيتجسَّروا بين الدنيا والآخرة، (أي يعيشون الآخرة في الدنيا، والعكس).
إن حديثه عن انفصال قبة الأقصى، يندرج ضمن استراتيجية الإيعاز الترشيدي؛ إذ كل ما يكشف عنه الخطاب، هو من صميم قصدية البث التربوي التي يلتزمها المصلحون.
بقلم /سليمان عشراتي