بقلم: ممتاز أرتركونه
يبدأ الشاعر والفيلسوف التركي خوجا أحمد يَسَوي، كتابه “ديوان الحكمة”، الذي يعد أول كتاب للأدب الصوفي باللغة التركية ، بالتساؤل عن حال الغرباء والفقراء.
وخلاصة الطريق الذي يرشد إليه الأستاذ أحمد يَسَوي في كتابه، هو كسب قلوب الغرباء والمساكين واليتامى والفقراء، والابتعاد عن المتكبرين والمعتالين.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الطريقة اليسوية ليست طريقة من طرق التصوف فحسب، بل أخذت بعدا أكبر من ذلك؛ إذ تُعد نموذجا للعمل المؤسسي المجتمعي، وكان ذلك النموذج بمثابة مصباح الإرشاد لعدد من متبعي الطرق الصوفية الأخرى، ويقوم المنطق أو المنهج الأساسي لهذا النموذج على مبدأ الجمع والتأليف بين الناس بتربيتهم على العيش في سلام وطمأنينة، وتوفير جميع احتياجاتهم الاجتماعية الضرورية.[/box][/one_third]ويتابع الأستاذ كلامه بمقولته الشهيرة: “أينما رأيت شخصا مجروح القلب، كن له دواء ومرهما؛ وكن رفيق الدرب لمن تجده مظلوما وانقطع به الطريق”، ثم يرسم أمامنا صورة لنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، تصيبنا بالدهشة، إذ يقول أن سيدنا محمد عندما عاد من رحلة الإسراء والمعراج، كان أول ما تفوه به: هو السؤال عن حال الفقراء.
فالأستاذ أحمد يَسَوي، الذي يعد أحد أبرز أعلام التصوف (1093-1166)، نشأ في تركستان الواقعة حاليا في جمهورية كازاخستان، بآسيا الوسطى، وهو مؤسس تقاليد مازالت حية إلى يومنا هذا، في نطاق جغرافي واسع، وكانت بمثابة احترار الأرض عقب فترة العصر الجليدي، فإذا نظرتم إلى الأفعال والأعراف القيمة والجميلة التي نمتلكها اليوم، وتساءلتم عمن له النصيب الأكبر في إرساء هذه الأعمال الصالحة في تاريخنا، فيمكنكم إعطاء هذا الاسم صاحب القامة العظيمة، دون أي تردد وهو خوجا أحمد يسوي.
فالأستاذ أحمد يسوي هو بمثابة مهندس معماري لبناء صرح مجتمعي أكثر من كونه عالما كبيرا في الدين، وقد وصلنا إلى يومنا هذا، في رحاب ما وضعه من قواعد وأسس، وما رسمه من مخططات، مرورا بتسعة عصور مختلفة، من خلال معرفة وعلم المجددين الذين شاركوا في بناء ذلك الصرح وأضافوا له المحاسن، إذ يرتبط به جميع القامات العظيمة في الحياة العلمية والدينية التي تحظى باحترام وتقدير كبير إلى يومنا هذا، وتذكر سير حياتهم بالاحترام والمحبة -ابتداء من حاجي بكتاش ولي، (مؤسس الطريقة البكتاشية في تركيا)، وصولا إلى يونس أمره؛ كمثل اللآلئ في عقد فريد القيمة والجمال.
والطريقة اليسوية ليست طريقة من طرق التصوف فحسب، بل أخذت بعدا أكبر من ذلك؛ إذ تُعد نموذجا للعمل المؤسسي المجتمعي، وكان ذلك النموذج بمثابة مصباح الإرشاد لعدد من متبعي الطرق الصوفية الأخرى، ويقوم المنطق أو المنهج الأساسي لهذا النموذج على مبدأ الجمع والتأليف بين الناس بتربيتهم على العيش في سلام وطمأنينة، وتوفير جميع احتياجاتهم الاجتماعية الضرورية.
وقد كون الناس شبكات اجتماعية مدنية آمنة حول التكايا (مراكز الطرق الصوفية تشبه المنظمات الاجتماعية والخيرية في يومنا)، في مجالات تبقى خارج تأثير الدولة والسياسة، وتماسك الجميع ببعضهم البعض في مناخ من التضامن والتعاون، ومدوا جذورهم في هذه البلاد.
ولم يكتفوا بتوفير الاحتياجات المادية فقط، بل استخدموا المبادئ الأخلاقية كغراء ولاصق لإكساب المجتمعات القوة والمتانة والمبادئ التي تساعد على البقاء والإستمرارية.
والاحتياجات التي كانت توفرها وتلبيها تلك الأعراف والتقاليد تزايدت وتضاعفت أكثر مع تزايد معضلات المجتمع الحديث بدلا من أن تقل على نقيض ما يظنه البعض، وأصبح نداء الأستاذ أحمد يسوي، من أجل مساندة الفقراء والغرباء، أكثر فاعلية وتأثيرا اليوم؛ ولذلك فإن المسؤولية المجتمعية التي تتحملها المنظمات الاجتماعية التي تطبق وتتبع نموذج ومبادئ التضامن والتعاون نفسها، تزداد وتتضاعف لمواجهة وتلبية احتياجات المجتمع المتزايدة والمتجددة.
ونحن جميعا ندرك جيدا أن هذه البلاد قد عُجنت بتطبيق وصفة الأستاذ اليسوي طوال تسعة عصور الماضية ثم سكبت وأُفرغت في قوالب العصر الحديث، والدليل على ذلك التأثير هو انتشار مقابر وأضرحة دراويش الطريقة اليسوية في رحاب المدن والبلدات في الأناضول.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الأعراف والتقاليد المستمرة منذ عصور طويلة، لاتفنى أو تختفي بسهولة، فما يحيي هذه التقاليد هو التأكد من فائدتها ونفعها بعد تجريبها ومعايشتها ، فالمجتمع يستمر في تطبيق ما تمت تجربته من خلال أعرافه وتقاليده؛ بيد أن الحكام السياسيون يدخلون في تجارب جديدة في كل فترة جديدة، بسبب تأثرهم بسكرة القوة والعظمة.[/box][/one_third]والفقيه صري صالتوك، الذي له أضرحة ومقامات في مناطق عديدة، ما هو إلا أحد ذلكم الدراويش.
ومن يتطلع إلى معرفة المزيد عنهم، يمكنه أن يطلع على كتاب “المتصوفون الأوائل” للكاتب “فؤاد كوبرولو”، ثم قراءة مقال الكاتب الكبير عمر لطفي باركان، المعنون بـ “انتشار الدراويش الأتراك الفاتحين”.
فقد استمرت الطريقة اليسوية، وأصبحت مستديمة، بفضل تلبيتها جميع الاحتياجات المادية والمعنوية للمجتمع؛ ولكن الدولة كانت تنظر إلى تلك المراكز المجتمعية في كل العصور، بتخوف وريبة لكونها كيانات منظمة بديلة لها.
فالمنافسة والصراع المزعوم بين التكايا والمدارس، يعكس تخوفات الدولة من طرف واحد أكثر من كونه قضية تتعلق بالدين والعقيدة، فالمدارس التي كانت تحصل على دعم من الإدارة المركزية بدأت في تمثيل أصحاب القوة والنفوذ ، أي الدولة في شخص المدرسين بها ويتقاضون الرواتب من الدولة ووُصفوا لذلك ب”علماء الرسوم” في مواجهة التكايا، أي الشعب.
الأعراف والتقاليد المستمرة منذ عصور طويلة، لاتفنى أو تختفي بسهولة، فما يحيي هذه التقاليد هو التأكد من فائدتها ونفعها بعد تجريبها ومعايشتها ، فالمجتمع يستمر في تطبيق ما تمت تجربته من خلال أعرافه وتقاليده؛ بيد أن الحكام السياسيون يدخلون في تجارب جديدة في كل فترة جديدة، بسبب تأثرهم بسكرة القوة والعظمة.
واليوم حاولوا القيام بدراسة وبحث بسيط في النقاش الذي يكبر حول الجماعات، بعد وضع السؤال:” ماذا يمكن عمله بالمبالغ التي صرفت للقصر الأبيض لرئيس الجمهورية أردوغان وطائرته الفخمة”؟ مقابل الحرب التي شنها الأستاذ أحمد يسوي ضد الفقر والمسكنة قبل تسعة قرون، سترون أنه من الضروري أن توصد الأقفال على أبواب الجماعات الدينية ويتم حظرها وإلغاؤها، حتى يتمكن ويتمتع أصحاب السلطة والقوة والعظمة بهذا القدر من الإسراف والترف.
لكن لاسبيل حيال ذلك، فتلك الجماعات وتلك الطرق الدينية القوية كانت مستمرة منذ تسعة قرون، على الرغم من كل ماشهدته من ظلم ومخالفات للحقوق وانتهاكات للقانون، وستستمر تسعة عصور أخرى على الأقل.
حسنا كم من صاحب قوة ونفوذ وسلطنة وعظمة، جاءوا ورحلوا وذهبوا أدراج الرياح وضاعوا في غبار التاريخ.. فما الذي خلفوه وراءهم من علامات قوتهم ونفوذهم؟ أي واحد منهم تذكرون وماذا بقي في مخيلتكم من كل ذلك؟
فالموضوع على درجة من الأهمية، وللحديث بقية…