بقلم: ممتاز أرتركونه
إن حملة صنع الوعي التي أطلقها ويشرف عليها رجب طيب أردوغان من خلال” الكتاب الأحمر”، قد انفجرت في يده وباءت بالفشل.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الجماعات والطرق الدينية، هي بمثابة الاسمنت في بناء المجتمع، وتمثل خط المقاومة والمناعة الذي يحول دون التفرق والتفتت، وسر نجاح الجماعات الدينية ومفتاح تفوقها يكمن في تقديم الخدمة للمجتمع بنشوة العبادة، وتحويل التدين إلى طاقة اجتماعية مؤثرة، فلا يمكن لأية مؤسسة في الدولة تشغيل موظفيها الذين يعملون مقابل الراتب، بهذا القدر من العطاء وبشكل مثمر إلى هذه الدرجة، ولايمكن لأي موظف لدى الدولة أن يكون على هذا القدر من النجاح في إقناع الناس.[/box][/one_third]فالقضية لم تكن هي ضم “محاربة الكيان الموازي”، الذي يقصد به حركة الخدمة، إلى الدستور السري للبلاد، الذي يطلقون عليه اسم الكتاب الأحمر، وهي وثيقة سياسة الأمن القومي التركي، وفيها قائمة العناصر التي تمثل تهديدًا على سلامة الأمن الداخلي للبلاد، فماذا سيحدث إن تم ضمه؟ أو لم يتم ضمه إلى ذلك الكتاب الأحمر؟ وما الذي حدث لمن تم ضمهم إليه حتى الآن؟.. إنما القضية هنا هي تبرئة أردوغان من تحقيقات قضايا الفساد والرشوة، التي تلطخ بها، عن طريق وثيقة الأمن الرسمية للبلاد، وكانت ستصبح الادعاءات التي تدور حول “أن أردوغان قد شكل نظاما فاسدا مستغلًا المناقصات والمشاريع التي تفتحها الدولة أو ترخص بها”، قد حلت محلها العبارات التي يطلقها دفاعًا عن نفسه قائلا: “إن هناك تنظيما موازيا داخل الدولة، يستغل إمكانياتها للانقلاب على الحكومة”.
ومن الواضح أن أردوغان قد تمسك باللعبة التي طالما سعى للتحضير لها طويلًا، وتدخل فيها ممثلو الجيش بمجلس الأمن القومي ليقترحوا “أن تشمل الإجراءات كل الجماعات الدينية”، ليعود أردوغان مرة أخرى ويوافق عليها.. حسنًا، فلنقل أنه حدث كذلك، لكن ماذا لو قررت الجماعات الدينية أن توقف كل أنشطتها وفعالياتها بنفسها حتى لا تتعب الدولة في وقفها؟
على مدار تاريخنا وهويتنا الممتدة لألف عام مضت، كانت السلطة الحاكمة من حين لآخر، تعتبر الجماعات والطرق الدينية “تهديدًا” لأمن وسلامة البلاد، وكان من يمسك بمقاليد الحكم في يده في حقب مختلفة يغتال ويقتل حتى أشقاءه في حال تأكدهم من منافستهم لهم، ويتقربون من غيرهم بحظر مراكز القوى مثل الجماعات الدينية وغيرها، وفي الوقت ذاته كانت الجماعات الدينية تلبي احتياجات الحياة الأساسية في المجتمع بصورة فعالة ومؤثرة جدًا، متحولين إلى “كيانات اجتماعية موازية” حقيقة، لأنها تؤدي جزءا من مهام الدولة، ومن يتمتع بالقوة والسلطة يمتلك ثلاث خيارات سياسية مختلفة في مواجهة قوة تلك الجماعات الدينية: سحق من ازدادت قوته كثيرًا، والقضاء عليه؛ أو منح أحدهم الصفة الرسمية وربطه بالدولة ومؤسساتها؛ أو التفاهم معها بطريقة مباشرة، والتصالح معها.
فقد حافظت الجماعات الدينية على النسيج الاجتماعي للمجتمع على مدار 1000 عام من تاريخنا، كانت الطريقة اليَسَوية، الصوفية (في عهد دولة السلاجقة)، التي ازدهرت منذ مئات السنين في جبال الأناضول، وساحل القوقاز، تلعب دورًا اجتماعيًا وتشكل قوة مؤثرة في مناطق انتشارها، بجانب دورها الديني الذي لا يغفل، فهذا العرف والتلقيد لم يتغير حتى الآن، داخل الجماعات والطرق الدينية الموجودة حاليًا، بل ويزيد تأثيرها في مواجهة المشكلات ومصاعب الحياة اليومية المتزايدة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الجماعات الدينية حاليًا تعيش حالة فطرية من عدم التوافق والتناغم في نسيجها مع فساد أردوغان الذي يدعي التدين، فهو أيضًا يحاول أن يقضي عليهم بصفته صاحب الحكم والسلطة؛ مثلما فعل القائد المغولي جنكيز خان، في مواجهة دراويش الطريقة اليَسوية، وهذا كل ما في الأمر.. ليس إلا.[/box][/one_third]وهذا العرف الذي نبع من تجربة 1000 عام من معايشة المجتمع، يرتكز على دعامتين رئيستين، على الرغم من نظرات الشبهات التي توجه إليه من جانب الدولة، ألا وهما: الخدمة والمحبة، فقد تضاعفت مجالات الخدمة وفقا لتقاليد المجتمع، بل وأصبحت أكثر تنظيما، أما المحبة التي يقصد بها الاستئناس، فقد دبت بالحياة في أفراد المجتمع المنعزلين والغرباء والمساكين بالخصوص، وبينما كان يستمر ذلك العرف القوي في شق طريقه، كان من حين إلى آخر يرتطم بجدران أنظمة حاكمة احتكارية، التي ترغب تسيير الأمور وفقًا لأهوائها، وحركة الخدمة، التي واجهت استهداف أردوغان ونعته لها بـ”الكيان الموازي” ليتهرب من قضايا الفساد والرشوة التي تطلخ بها، مدعيا أن “الكيان الموازي يشرع في انقلاب على السلطة”، كانت مثالا ناجحا وبارزا لهذه الهوية التي تمتد لألف سنة.
فحالات تعاطي المخدرات وميل أفراد المجتمع إلى ارتكاب الجرائم، وارتفاع معدلات الاتجاه إلى الانضمام للعصابات والمنظمات الارهابية في صفوف الشباب لاحل ولا دواء لها لدى الدولة، لو أغلقت الدولة مراكزها للإرشاد ومؤسساتها المكلفة بمكافحة كل هذه المشاكل الاجتماعية، لن يحس المجتمع بفقدانها أو نقصانها، لأن الحل الوحيد يكمن عند الجماعات الدينية، لأنها هي التي تنتج الحلول اللازمة والعلاج الشافي ويطبقها بنجاح ملحوظ، وذلك يجعلها بلامنافس في مجالات التعليم والتربية، والتعاون على الخير والتضامن الاجتماعي.
فالجماعات والطرق الدينية، هي بمثابة الاسمنت في بناء المجتمع، وتمثل خط المقاومة والمناعة الذي يحول دون التفرق والتفتت، وسر نجاح الجماعات الدينية ومفتاح تفوقها يكمن في تقديم الخدمة للمجتمع بنشوة العبادة، وتحويل التدين إلى طاقة اجتماعية مؤثرة، فلا يمكن لأية مؤسسة في الدولة تشغيل موظفيها الذين يعملون مقابل الراتب، بهذا القدر من العطاء وبشكل مثمر إلى هذه الدرجة، ولايمكن لأي موظف لدى الدولة أن يكون على هذا القدر من النجاح في إقناع الناس.
وإذا افترضنا أن الجماعات الدينية الموجودة في البلاد، قامت بتعطيل كل أنشطتها وفعالياتها المتنوعة، وألغت كل هياكلها التنظيمية، فمن سيربح من وراء ذلك؟ ومن سيخسر؟ ولمن ستلجأ الدولة تجاه فتنة تسمىى داعش تحوم في البلاد؟ ومع من ستتعاون للحيلولة دون تجنيد داعش للشباب، بخطاب ديني بسيط؟ ولماذا لا يخرج عبد من عباد الله ممن ينتسبون لمؤسسة الشؤون الدينية أو عشرات كليات الإلهيات المنتشرة في ربوع البلاد، ليقوم بمناظرة “أئمة” داعش الأقوياء ويلعب الدور الذي يقوم به الشيخ الصوفي أحمد الملقب بجبَّلي أحمد خوجا، في مواجهتهم ودحض حججهم وتسفيه آراءهم؟
فالجماعات الدينية حاليًا تعيش حالة فطرية من عدم التوافق والتناغم في نسيجها مع فساد أردوغان الذي يدعي التدين، فهو أيضًا يحاول أن يقضي عليهم بصفته صاحب الحكم والسلطة؛ مثلما فعل القائد المغولي جنكيز خان، في مواجهة دراويش الطريقة اليَسوية، وهذا كل ما في الأمر.. ليس إلا.