بقلم : الكاتب الصحفي سليمان سارجين
كانت دار الأرقم هي مأوى خير وبركة من الله، أنعم بها على المسلمين على نقيض ما كانت عليه دار الندوة إذ كانت تنبعث من الأولى الأنوار مقابل ما ينبعث من الثانية من كراهية وأحقاد.
كانت دار الأرقم ينشأ فيها وينمو الخير واليمن والبركة والهداية مقابل ما تنتجه دار الندوة من الفتنة والفساد، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحرص على حماية إخوانه الملتفين حوله من تأثير الفتن التي كانت تفرزها دار الندوة بلا توقف، فقد كان الرسول والصحابة الكرام يحتاجون ويبحثون عن مكان يتداولون فيه تعاليم الدين الجديدة ويمارسون فيه عباداتهم دون قلق، وقد كان الأرقم ابن أبي الأرقم من الأبطال المتأهبين دائمًا لخدمة سيده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ يقول في كل مرة “ها أنا ذا” ويريحه، وكان قد حظي بفرصة ولم يكن ليفرط بها، حيث ترك بيته في تلة الصفا لتكون أول مؤسسة للإسلام تحت تصرف سيد الأنبياء، وبذلك وجد المسلمون مكانًا يرتاحون فيه في أواخر السنة الثانية.
وقد كان هذا المكان عبارة عن بيت متواضع يُستخدم لنيل رضا الله فحسب، حيث يجتمع فيه المسلمون لينظموا دروسا ويتناقشون فيما بينهم في أمور دينهم، فيتعلمون هنا الآيات الجديدة، ويتعبدون حتى الصباح ويقيمون صلواتهم. ويتذاكرون ويستشيرون فيما بينهم كيفية هداية الآخرين إلى حلاوة الإيمان، وقد حققت هذه الدعوة المباركة تسارعًا من خلال هذا المكان واكتسبت لونا جديدا، فقد اهتدى رجال من أمثال عمار ابن ياسر ومصعب بن عمير وحمزة وعمر لنور الإيمان في هذه الدار.
كانت هناك مائدة رحمانية بكل معنى الكلمة في دار بن الأرقم، وكان الصحابة يستفيدون الكثير من هذه المائدة، حيث أصبحوا أبطالاً روحانيين انطبعت أرواحهم بالدروس النبوية، وكانوا يعملون جاهدين على إيصال هذه الصبغة النورانية للآخرين، وقد أُذن لهم بالدعوة العلنية (فاصدع بما تؤمر…) بعد أن وصل عددهم إلى الأربعين (سورة الحجر 94-96) ،وبعد ذلك لم تعد هناك أية قيمة لاستهزاء المشركين وتهديدهم وتعذيبهم. وإن بلوغ عددهم الأربعين كان يشكل دافعًا مهمًا بالنسبة للذين كانوا يفكرون في دعوتهم إلى الإسلام ، فقد حان وقت الجهاد، وكان الهدف هو مخاطبة جميع القلوب دون تمييز أو استثناء.
وهذا هو الجهاد الحقيقي، فالحس الجهادي الإسلامي لايعني النزول إلى الشوارع والتسيب في الدعوة للجهاد، وإن تهديد الناس ومهاجمتهم والغدر بهم من خلال الأسلحة والإمكانات المتاحة بطريقة بربرية ليس جهادًا، فالجهاد لا يعني مطلقًا السلب والنهب والجري خلف الغنائم، فالجهاد هو الجهد المبذول في نزع العقبات بين الناس وبين الله ورسوله بطرق نبوية، والعمل على جذب الناس إلى الطريق المؤدية للجنة.
ولذلك يجب توفر ما كان في دار الأرقم من الصفاء والإخلاص والعزم، ويجب أن نجعل كل بيت كدار الأرقم لنكسب فيها الوعي وحس التألم والتأمل بهموم الإسلام والمسلمين دون أن نكترث بقسوة الأحداث والظروف.
الطريق التي توصل المسلمين إلى الأيام الجميلة التي وعدهم الله بها هي ترسيخ الحيوية والوعي المنبثقين من الإيمان في الأفئدة بحيث تكون ثابتة لا يمكن زعزعتها، فكل الجهود والتطورات محكوم عليها بالتراجع إذا لم يترسخ الوعي الإيماني وحس الإخلاص والإحسان في القلوب.
الجهاد هو أن يؤمن الإنسان وأن يعيش طبقا لما آمن به وأن يعجَب بالحقائق التي آمن بها وينشرها لغيره حتى يؤمن الآخرون أيضا بما آمن به ويعجَبوا هم أيضا بما أعجِب هو به.
فالذين لايلتزمون بالآداب الإسلامية ويخالفون السنن وينفذون الفرائض بكسل شديد وبغير وعي لا يمكن تسمية ما يقومون به جهادًا بل هو جناية في حق الإسلام، فالذين يدّعون الجهاد دون إقامة الصلاة لن ينالوا سوى الخسران في الدنيا والآخرة، فالعدل أحد أهم أركان الإسلام، ولذلك فإن الذين يغلفون الظلم بغطاء إسلامي والذين يسكتون تجاه الظلم والذين يؤيدونهم سرا أو علنا سيُسألون يوم القيامة عن ذلك حيث سيُسأل الناس عن مثقال ذرة من الشر. فالذين يتحدثون عن عمر الذي يضرب المثل بعدله، والذي أكد مسؤوليته عن الشاة التي في ضفاف دجلة، لن يقتنع أحد بكلامهم ما داموا يعيشون في بذخ وترف وحياة مرفهة.
فالغاية من الجهاد لا تعني الصراخ كالرعد باسم الدين والدعوة، والخطابات الرنانة المصحوبة بالكلمات المنمقة، وإن الحديث عن ذلك والكتابة فيه دون تطبيق عملي في الحياة هو رمي الطين والقطران في وجه الإسلام الطاهر، وهذا لا يؤدي إلا إلى وضع ستار يحجب فهم الحقيقة، ومنع الإنسانية من الوصول إلى جو السعادة والطمأنينة.
فأساس الانقلاب الذي قاده النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هو فتح القلوب في العالم وإيصال جميع البشر إلى الإنسانية الحقيقية، وهذا الأساس يقتضي عدم العيش بشكل أكثر رفاهية من أيام المحن الصعبة حتى ولو أُخذ بناصية حكم العالم؛ كما يقتضي وجود قلب لا ينصاع للنفس والأنانية في ظل الإدراك بفناء العالم وزواله، بل يتوجه إلى الله الباقي الحقيقي وهو مفعم بالأماني والآمال؛ ويقتضي أيضًا إنارة قلب الإنسانية وعقلها بنور الإيمان والقرآن، حيث إن هذه الإنسانية تئن في براثن السلاح والظلم والجوع والمسكنة والجهالة والافتراق.
ولقد كان رسول الله (عليه أكمل التحيات) حول حفنة من أصحابه الذين فتحوا العالم إلى سيوف من الألماس المتلألئة التي تنثر حولها شرارات وهو يهيئهم لفتح العالم، فلم يكن يترك أي شائبة أو وسخ أو صدأ أو نقطة مظلمة فيهم، فكان هذا الجيش النوراني ينشر النور في كل الاتجاهات، فكانوا ينشرون الأطياف النورانية، وكان الذين يرونهم يسرعون إليهم ليقتبسوا من نورهم ويحترقون بنارهم ويغتسلون ويتطهرون بأشعتهم.
وقد شكل رسول الله جماعة الأبطال هؤلاء في دار الأرقم. وكان عجينتهم تحتوي على روح العبادة والإخلاص، والوفاء والتطوع والإيثار والعيش من أجل الآخرين والتضحية، ولم تكن لديهم أية حسابات دنيوية، فقد كانت الحصير الذي يفرشونه تحتهم ويترك آثاره على ظهورهم أفضل من قصور كسرى بالنسبة لهم، وكانوا يرون الخدمة والجهاد كغايتهم الوحيدة في حياتهم لأن معلمهم كان مفخرة الإنسانية سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ،فكل شيئ بدأ ببيت واحد ومن خلال النور الذي سطع من ذلك البيت أصبحت الأرض مسجدًا ومكة محرابًا والمدينة منبرًا.