بقلم: محمد عبيد الله
برلين (زمان التركية) – استمرارًا لمسلسل الأحداث المأساوية التي تشهدها تركيا يوميًّا بعد وقوع ما يسمى “الانقلاب الفاشل” في عام 2016، وفرض حالة الطوارئ في البلاد بحجة التصدي للانقلابيين، وقع يوم الجمعة الماضي حادث سير أسفر عن وفاة أربعة من عائلة “جيفلك” عندما كانت تعود من زيارة الوالد “أنس” المعتقل بدعوى الصلة بحركة جولن.
أنس جيفلك وزوجته خديجة معلمان في ربيع عمرهما كانا يتنعمان بحياة سعيدة مع طفلتيهما البالغة إحداهما 3 سنوات والأخرى 8 سنوات، حتى نغّصت السلطة الحاكمة في تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، العيش عليهما، وعلى العائلة كلها، بعد أن وجهت لهما تهمة “المشاركة في الانقلاب الفاشل” و”الانتماء إلى حركة الخدمة”، ضمن مئات الآلاف من المواطنين المدنيين الآخرين.
أصدرت السلطات أولاً قرارًا بفصل السيدة خديجة من عملها كمعلمة، وكذلك فصل واعتقال زوجها السيد أنس، لتبقى الطفلتان من دون أب وراعٍ، وتبقى الزوجة دون عمل. لم تكتف السلطات باعتقال السيد أنس، وإنما نقلته عمدًا إلى سجن بعيد عن مدينته لتتضاعف مأساة العائلة، بسبب صعوبة الذهاب والإياب من أجل زيارة الوالد، كما هو حال الآلاف من ضحايا قانون الطوارئ.
يوم الجمعة الماضي كان أفراد العائلة المؤلفون من السيدة خديجة ووالديها السيد “أمين باليكجي” (55 عاما) و”حواء جيفلك” (58 عامًا) انطلقوا إلى سجن “كسكين” بمدنية كيريك قلعة غرب تركيا لمقابلة السيد أنس المسجون دون أن يعلموا ماذا كانت الأقدار تعد لهم، ودون أن يعلم الأبُ أنه كان يرى طلفتيه المرة الأخيرة.
وفي طريق العودة إلى مدينتهم “دوزجه” بسارتهم الشخصية بعد هذه الزيارة اليومية، فقد السائق السيد أمين، الذي كان إمام مسجد، السطيرة على مقود السيارة لتنقلب على حافية عميقة قرب بلدة “ماماك” التابعة للعاصمة أنقرة، مما أدى إلى وفاة كل من الوالدين والطفلتين، بالإضافة إلى إصابة السيدة خديجة بجروح بالغة بحيث تشكلت كسور في ظهرها وصدرها وذراعيها.
هرولت قوات الدرك إلى موقع الحادث ونقلت السيدة خديجة إلى أقرب مستشفى وهي فاقدة للوعي، لتفتح عينيها في المستشفى وتبحث عن كبديها ووالديها عبثًا! لم تجد أمامها إلا أفرادًا من قوات الدرك، فبادرت بالسؤال: “قولوا لي من هم الذين قضوا نحبهم في الحادث”، وكأنها تعلم ما حدث! فرد الشرطي الذي حضر لأخذ أقوالها بشأن الحادث: “لا تسألي يا سيدتي، فإنك لن تتحملي!”، دون أن يعرف أن السيدة خديجة تحمل في جوفها قلبًا مفعمًا بالإيمان بالله وقدره، وصبرًا يقاوم المصائب بحجم الجبال، واطئنانًا لا يبالي بأمر من أمور الدنيا.
أجابت السيدة وفي وجهها بسمة حزينة قائلة: “لقد تحمّلتُ تهمة خيانة الوطن الموجهة لي، مع أن قلبي عامر بحب وطني. لذا لديّ قدرة على تحمل ذلك أيضا، قل لي من هم الموتى؟ فنحن نعلم يقينًا أن كل شيء أمانة بأيدينا، والحمد لله على كل شيء، فأنا على أحسن حال!”.
وعندما علمتْ بأن كبديها، طفلتيها الصغيرتين، البالغة إحداهما 3 سنوات والأخرى 8 سنوات، قد قضيتا نحبهما وسلمتا روحيهما لمن نفخهما فيهما، ألقت نظرات عميقة يمنة ويسرة وقالت للحاضرين: “كل همومنا مع زوجي كانت منصبة على طفلتينا! كانت الكبرى بلغت سنّ الثامنة، حيث يجب عليها أن تبدأ الصلاة وتتعوّد عليها. لكن بعد اعتقال زوجي وطردي من العمل كنا نسأل أنفسنا: لمن نسلم طفلتينا حتى يعتني بهما بدلا منا؟؛ لأن وضعنا لم يكن يسمح لنا بالاعتناء بهما، لكن الله أخذهما وطارتا إلى الجنة والحمد لله على كل حال”.
لقد ضربتِ -يا سيدتي- مثالاً في الإيمان والشكر والصبر والتوكل والاطمئنان، لا ينسى؛ وأعطيتِ درسًا في القوة والمتانة حتى في أضعف وأفجع حالاتك، ووجهتِ -في الوقت ذاته- صفعة قوية لمن اتهموكِ بخيانة الوطن والإرهاب!
لم يصدر من فمها بعد ذلك إلا بضع كلمات فقط وهي راقدة على فراشها في المستشفى: “لكن ما أرجوه من المسؤولين هو أن يخلوا سبيل زوجي، قيد المحاكمة، فأنا، المكسورة قلبا وقالبا، بحاجة إليه، وهو بحاجة ماسة إليّ أيضًا”.
الفاجعة أصبحت حديث الإعلام الاجتماعي
https://twitter.com/nabdturkey/status/1071656266303447040
فهل من ضمير حيّ يسمع ويستجيب لهذا النداء الحزين والمطمئن في آن واحد!
هل يسمع أردوغان ذلك الأنين في برجه العالي؛ قصره الفاخر، المكون من أكثر من ألف غرفة؟!
وهل يخجل أردوغان، في يوم من الأيام، من توجيهه تهمة الإرهاب والانقلاب إلى مثل هؤلاء الناس؟!
هذه الحادثة الفاجعة، التي يتفطر لها القلوب، ليست الأولى من نوعها، ولعلها لن تكون الأخيرة، في ظل مواصلة الاعتقالات الجماعية التعسفية بالتهمة الجاهزة “الإرهاب” أو “المشاركة في الانقلاب” أو “الانتماء إلى حركة جولن”.