القاهرة (زمان التركية) – يستمر الكاتب الصحفي المصري المخضرم محمد أمين المصري في نشر الحلقة الثالثة والأخيرة من الحوار الذي أجراه مع الخبير الإستراتيجي التركي عبد الله السلومي حول قضايا الساعة في تركيا بصفة خاصة والمنطقة بصفة عامة، من خلال تقريره التحليلي الذي حمل عنوان “رحلة صعود أردوغان نحو الهاوية.. القوى الكبرى اكتشفت صعوبة السيطرة على طموحاته”، والذي نشرته جريدة الأهرام المصرية.
فشلت القوي الدولية، التي سبق ومنحت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حق إدارة “مشروع الشرق الأوسط الكبير”، في تحييد دوره المرسوم رغم تمسكها به في البداية، ولكنها اكتشفت أنه صعب السيطرة عليه وقد أصبح يدير أعمالًا مستقلة بالمنطقة.
، رصد تطورات الظروف الدولية التي زادت من شهية اللاعب التركي نوعًا ما، وصورت له قوته المزعومة أنه بات قادرًا على تهديد أنصاره الغربيين بتوجيه بلاده إلى جبهة أوراسيا إذا اضطر إلى ذلك.
ورويدا رويدا مع تعاظم سيطرته تماما على مقاليد السلطة في بلاده بدأت مصالحه تتوافق مع فريق منظمة “أرجنكون” المعروفة بعدائها للولايات المتحدة وتتمتع بعلاقات وطيدة مع بريطانيا وروسيا على وجه الخصوص.
لقد بدأ التقارب بين أردوغان وروسيا بفضل قيادات “أرجنكون”، لكنهم أولا دبروا مكيدة لدفع الزعيم التركي إلى أحضان روسيا، حيث تم افتعال أزمة سياسية بإسقاط مقاتلة روسية في تركيا، واضطر أردوغان إلى الاعتذار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لم تظل العلاقات بين البلدين عند مستوى الاعتذار فقط، بل إن العلاقات التي بلغت حجما تجاريا كبيرا ازدادت قوة، ثم توجه قيادات “أرجنكون” إلى روسيا فور إخلاء سبيلهم، حيث قضوا فترات طويلة في سجون أردوغان، والتقوا بوتين حيث أقنعوه بأنه إن لم يسارع ويتحالف مع تركيا فإن الولايات المتحدة ستنفذ انقلابا ضد الرئيس التركي، وستخسر روسيا تأثيرها على تركيا للأبد.
ومن هنا بدأت المكيدة. جميع العقلاء في تركيا يعرفون أن المتحدث باسم “أرجنكون” ورئيس حزب العمال والآن رئيس حزب الوطن دوغو برينشاك عدو اشتراكي للإسلام، لكنهم يتحالفون مع حزب العدالة والتنمية – إسلامي الهوي – لتقارب المصالح.
ويتصدر فريق “أرجنكون” ودوغو برينشاك حملة تصفية “حركة الخدمة” المعتدلة التي يتزعمها فتح الله كولن. وتكمن هذه اللعبة خلف لجوء أردوغان إلى الخطابات المهددة بالانفصال عن حلف الأطلنطي والمشاركة في جبهة سياسية واقتصادية مع أوراسيا وروسيا في كل أزمة يمر بها مع أمريكا وأوروبا، إذ إن أردوغان بات زعيما خرج عن السيطرة بالنسبة للمصالح الدولية للولايات المتحدة بتصرفاته الفردية، فعلاقته تتعاظم مع الكيانات الإرهابية المتطرفة في المنطقة، ولم يعد هو الزعيم الذي تواصل واشنطن دعمها له.
وعلى الرغم من أن أردوغان لا يزال يطبق سياسات تخدم أهداف أمريكا الدولية ومشروع الشرق الأوسط الكبير بنسبة ما، فإنه أفسد الأمر كثيرًا، فهو يتحداهم ويتصرف بتهور ويقدم تصريحات وتعليقات متضاربة، ويتخذ قرارات سياسية ويسلك منعطفات حادة يصعب التحكم في وجهتها.
وعلى الرغم من اتباعه صورة القائد النافع، فإنه ليس في هيئة ستتولى دوره على المدى الطويل. ولهذا بدأ يصبح غير نافع، وقد بدأت الولايات المتحدة والقوى الدولية في خلق الأجواء التي ستطيح به عندما تحين الظروف الدولية.
الخليفة أردوغان واستغلال الإسلاميين
ينتقد عبد الله السلومي كل تصرفات أردوغان وفصيله الإسلامي، حيث يرتكبون كل الأعمال غير الشرعية والأخلاقية، وللأسف – يقول الخبير الإستراتيجي التركي – إنه توجد مؤسسة إفتاء تشرعن كل هذه التصرفات في الوقت الذي لا يوجد فيه شخص عاقل واحد في الحزب الإسلامي قادر على تسليط الضوء على تناقضات أردوغان، فالفصائل الإسلامية في كل مكان تتحرك بمشاعر ودوافع حماسية وسطحية، ويمكنها تحريك الكتل الإسلامية في كل مكان بإطعامهم ما يسميه “عسل الثورة والدولة الإسلامية”.
للأسف – يواصل السلومي: هذه أحد أكبر وأكثر الحقائق الاجتماعية المؤلمة للمجتمعات الإسلامية، فالعالم الإسلامي يضم شريحة فكرية واسعة تدرس الفلسفة والفيزياء والرياضيات في الجامعات الغربية.ويتابع: مشكلة هؤلاء أنهم يدركون جيدا ما هو الغرب والديمقراطية والحريات والقيم الاقتصادية ومدى حدود التقدم الاقتصادي، ولكن بمجرد عودتهم لبلدانهم في العالم الإسلامي حيث تنتشر هناك الحركات المتأسلمة، سرعان ما يتحولون إلى مدافعين بقوة عن ذلك النوع من الخطابات الحماسية للإسلام السياسي الذي يتزعمه أشخاص متى بلغوا سدة الحكم ويحققون قدرا من القوة مثل أردوغان، قد يصدرون فتاوى تشرعن كل شيء مخالف على أنه حق وواجب.
ويضيف: الرئيس التركي في نظر أتباع التيار السياسي المتأسلم هو “الإسلامي النمطي الأبرز” الذي خرج من رحم الشارع الإسلامي والذي علا شأنه خلال الأعوام المائة الأخيرة، وهو يجيد جس نبض الشارع، ويطرح يوميا الكذبة تلو الأخرى أمام الإعلام الدولي دون أن يخجل.. يصرح بأقوال اليوم وبعد بضعة أيام يدلى بتصريحات تناقض ما قاله، لكن- حسبما يتأسف عبد الله السلومي – لا نرى صوتا واحدا يخرج علينا وينتقد هذه التصريحات المتضاربة أبدا.
هكذا هي الجماهير الإسلامية في تركيا، وحتى لو أعلن أردوغان نفسه نبيا وأعلن الحرب في شتى أرجاء العالم الإسلامي سيوفرون له الدعم وسيحملون الأمر على محمل الخير والجد معا.. وهذه مشكلة تتعلق بالوعي الإسلامي في المجتمعات الإسلامية، حيث يكمن هذا الجهل والتعصب الأعمى خلف الأزمة الأخلاقية المنتشرة في أوساط شعوب هذا العالم.
كما ينتقد السلومي العقليات الأكاديمية الإسلامية التي درست الحريات والقانون في الجامعات الغربية، فهم عندما يعودون لبلدانهم يدوسون على القانون والحريات والإسلام والأخلاق الإنسانية والعقل..لماذا؟ لأنهم يقفون بجوار وخلف أفكار وعقلية أردوغان، وينفذون هذا استغلالا لفتاوى الشريعة، والأمر لن يقتصر على مسألة الإسلام في تركيا. وهنا يحذر الخبير الإستراتيجي التركي من أن هذه المشكلة تنتشر في كل أرجاء العالم الإسلامي في ظل قيادة وريادة أردوغان الأبدية.
ويشير إلى أنه يوجد حاليا طاقم ضخم يبث عبر العشرات من الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي يوهمون من خلالها الجمهور المتعطش للأكاذيب أن أردوغان هو المهدي المنتظر وأنه ليس فقط حامي العالم الإسلامي، بل سيقضي على الظلم في هذا العالم “علما بأن أفضل ما يحققه السياسيون الإسلاميون هو نشر الأكاذيب” كما يقول السلومي.
هكذا أغوى أردوغان وفريقه رئيس مصر الإخواني المخلوع محمد مرسي والمحيطين به بالسيطرة على السلطة، بدليل خطابات مرسي في الأشهر الأخيرة من سنة حكمه، التي تتطابق حرفيا مع خطابات أردوغان الميدانية، فكل هؤلاء المتأسلمون يفكرون ويتحركون بالذهنية والرموز الحماسية عينها.
بوادر الانهيار
لقد آتت الأزمات على تركيا أخيرا لتشل مفاصل الدولة على مرأى ومسمع من الجميع، حتى الصحفيون والأكاديميون الداعمون لأردوغان يعترفون حاليا بأن تركيا في طريقها للانهيار، فثمة أزمة اقتصادية مستحكمة وتدهور في العلاقات الدولية وانحطاط أخلاقي في الشارع التركي وتنام في التوجهات اللادينية والإلحادية بين الشباب بالرغم من الحماسة الإسلامية المنتشرة بينهم، بالإضافة إلى القضاء على التعليم.
وانقلبت أحوال المؤسسات المختلفة بما فيها المؤسسة العسكرية والشرطة والجامعات والقضاء والعدل رأسا على عقب. وأصبحت البلاد لها صوت واحد، ونفس واحد، وقائد واحد، ولا أحد يمكنه رفع صوته ولو بهمسة، ولكن الحقيقة المرعبة أن أكثر من ألفين من رؤوس الأموال قد هربت من الاقتصاد التركي، والسواد الأعظم من رأس المال الأجنبي انسحب من البلاد، وكذلك الساحة الدولية تعج بالتحذيرات المستمرة: “تركيا غير آمنة”، ناهيك عن ديون البنوك لصناديق النقد الدولية والتي باتت ترفرف في أعلى مستوياتها، فضلا عن أن هناك عجزا في الميزانية في كل جوانبها، والكل يعلم انهيار قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، أما معدلات البطالة فتسجل زيادة قدرها 15% في كل عام.
ويبدي الخبير الإستراتيجي التركي عبد الله السلومي أسفا ودهشة في آن، لأنه وبالرغم من كل ذلك فعند سؤال الشارع: هل تشعرون بتعاسة وانهيار في الأوضاع المعيشية؟..تجد المنتمين لفصيل الرئيس التركي يردون بأن الأمور لم تتغير للأسوأ!. فكل ما تمر به تركيا غير مهم بالنسبة لهم حيث يرون أن كل شيء سيعود لمساره عند تأسيس الدولة الإسلامية، لأن أردوغان يتحدث عن ذلك خمس مرات يوميا: كل شيء في مساره وتحت سيطرتنا.
ويسل سيفه مهاجما كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. في الوقت نفسه هناك جيش ضخم قائم على نشر الزعامة الساحرة لأردوغان بين المسلمين في الداخل والخارج.
يقول السلومي: “سلوا العرب المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية”.. سيصفون أردوغان بأنه أشجع وأنجح قائد إسلامي في العصر الحالي، بالرغم من عدم امتلاكهم معلومات تمكنهم من تكوين ولو جملة واحدة عن حقائق تركيا”. ويتساءل مجددا: لماذا؟..يجيب: “السبب بسيط للغاية، لأن الشارع الإسلامي تتحكم فيه الذهنية الحماسية البعيدة تماما عن “العقلانية، وتلك الذهنية الحماسية هي وليدة هذا الشارع وتدفع تلك الدعاية الجماهير العريضة نحو الاقتناع بأن القادة السياسيين المتربعين على القمة يقومون بمهام جليلة وأنهم يعملون بإخلاص شديد من أجل بلادهم على المستوى القومي والدولي.
ويتذكر السلومي بأسى كيف صفق الشارع التركي لرئيس حزب قد سبق ووصف أردوغان بأنه “يمتلك كل صفات الله” والعياذ بالله. أما أردوغان فلم يعترض قط على ذلك، ولم يدل بأي تصريح ولم ينف تلك الادعاءات أو يكذبها.
يعود السلومي لطرح الأسئلة: “لماذا يفعل الرئيس التركي ذلك والشارع لا ينتظر منه اعتذارا؟ .. وهنا يجزم الخبير التركي أن أردوغان يعتقد بأنه المهدي المنتظر، فهو يحمل رسائل الرسل والأنبياء! ويتوقع الخبير الإستراتيجي التركي اندلاع الصراع في تركيا، نعم، فاندلاع صدام داخلي في تركيا لا مفر منه.
ويحدد ملامح هذا الصدام بأنه سيكون بين أردوغان وقادة منظمة “أرجنكون” الذين مهدوا الطريق للتعاون مع روسيا، ثم إنه قام بتفريغ الجيش من قياداته خوفا من أن يصدر منهم أي ردة فعل ضده، وألقى بهم جميعا في السجن بتهمة الانتماء لـ”حركة الخدمة” حتى أنهك القوات المسلحة. إلا أنه لا يزال يرتجف خوفًا من أي محاولة قد تتسبب في قلب الأوضاع في البلاد رأسا على عقب وقد تطيح به، ومن المؤكد أنها ستأتي برأسه في نهاية المطاف كما يتوقع السلومي.
ومن بوادر تراجع مكتسباب أردوغان المالية الضخمة، خلافه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني بشأن رفض الرئيس التركي إعادة نحو 240 مليار دولار هي حصيلة بيع وتسويق البترول الإيراني لإسرائيل والأسواق العالمية إبان الحظر الاقتصادي المفروض على إيران حتى قبل توصلها للاتفاق النووي مع مجموعة (5+1) الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وكان أردوغان وعائلته – يقول السلومي – وعائلتان إيرانيتان هم الجهة المسئولة عن تسويق البترول الإيراني للخارج عبر مافيا عالمية.
وقد تمكن الرئيس الإيراني روحاني من تقدير حجم خسائر بيع بترول بلاده عبر هذه المافيا خلال فترة حكم أحمدي نجاد، وقد بلغت نحو 500 مليار دولار استطاع استرداد 260 مليارا؛ حيث صودرت ممتلكات رجل أعمال إيراني شريك أردوغان في عمليات انتهاك قرار الحظر الدولي وحكم عليه بالإعدام بتهمة خداع الدولة.
ويعتقد الخبير الإستراتيجي التركي أن الولايات المتحدة ستفتح ملف انتهاك أردوغان للحظر الدولي لإيران في الوقت المناسب علاوة على ملف تمويله للجماعات الإرهابية المتطرفة في سوريا والعراق بهدف تقديمه لمحكمة العدل الدولية في مناخ سياسي مناسب بتهمة دعم الإرهاب.
إلي جانب ما سبق، يشير عبد الله السلومي إلى أن أردوغان طور علاقات وطيدة مع أخطر عصابات المافيا تأثيرا في بلاده والتي ينتمي معظمها لتيارات قومية، حيث يستعد الرئيس التركي لتحريك المافيا ويهدد بهم الكثير من رجال الأعمال في الداخل، وأصدر لهم تعليمات بجمع الأموال والإتاوات”.. ويتوقع السلومي أن يكون الهدف من قانون العفو الذي أصدره أردوغان مؤخرا، هو إطلاق سراح نحو160 ألف سجين خطر مستفيدين بقانون العفو لإرهاب الشارع التركي وقت الحاجة.
الأمر المؤكد أن أردوغان الذي يجيد سياسة اللعب على كل الحبال واستغلال كل الظروف لمصلحته، وينقلب على كل ما ساعده في بداية صعوده رحلته السياسية، لم يتخيل بعد أنه بطريقه إلى نهايته بسبب كثرة انقلاباته وتناقضاته.