بقلم: علي أصلان
إن المشهد الذي يراه من ينظر إلى تركيا من الخارج سيء للغاية مع الأسف. فنحن أمام إرادة سياسية، متمثلة في حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه رجب طيب أردوغان، لا تكتفي بشق صف الشعب بأسلوبها المحرض ولا بتحريض أنصارها ضد “الآخرين” بشكل ممنهج، بل إنها في الوقت نفسه تدمر أساس الدولة.
تشهد تركيا انتهاكًا للقواعد القانونية المحلية والدولية [one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن وقوف الجماهير العريضة لدعم بعض الإجراءات الظالمة للحكومة أو إحجامها (عجزها) عن معارضتها، لا يعني أن ما يحدث أخلاقي وصحيح. لقد كانت الأنظمة الشيوعية والفاشية في القرن العشرين كذلك بارعة في استغلال الحالة الروحية للجماهير الغفيرة، حيث نجحت بشكل كبير في إقناع الشعب خصوصًا في المراحل الأولى. وإن الزعماء المستبدين، الذين يمتلكون قدرة فائقة على مخاطبة الجماهير، يعدون الشعب الخاضع لتنويم مغناطيسي جماعي بوعود كاذبة تجعله يلهث ورائهم أملًا في تحقيقها[/box][/one_third]كما رأينا جميعًا خلال عملية الاعتقال التي طالت عددًا من رجال الشرطة قبل فترة ليست بالطويلة. وهناك مساعٍ للتأليب بين المواطنين والشرطيين والمدعين العامين. في أي دولة ديمقراطية يستطيع الزعماء السياسيون المنتخبون أن يتحركوا وفق هذا المنطق؟ وهل تستطيع هذه الدولة الوصول إلى الطمأنينة والرفاهية والاستقرار والحرية الدائمة؟ وهل بإمكانها الحفاظ على تأثيرها واحترامها على مستوى المجتمع الدولي؟ أعتقد أن ذلك صعب جدًا.
إن وقوف الجماهير العريضة لدعم بعض الإجراءات الظالمة للحكومة أو إحجامها (عجزها) عن معارضتها، لا يعني أن ما يحدث أخلاقي وصحيح. لقد كانت الأنظمة الشيوعية والفاشية في القرن العشرين كذلك بارعة في استغلال الحالة الروحية للجماهير الغفيرة، حيث نجحت بشكل كبير في إقناع الشعب خصوصًا في المراحل الأولى. وإن الزعماء المستبدين، الذين يمتلكون قدرة فائقة على مخاطبة الجماهير، يعدون الشعب الخاضع لتنويم مغناطيسي جماعي بوعود كاذبة تجعله يلهث ورائهم أملًا في تحقيقها.
ومن ناحية كانت أنظمة، مثل البوليس السري الألماني (غيستابو) والاستخبارات السوفيتية (KGB) تجبر الأخ على تصنيف أخيه بحسب انتمائه من خلال آليات ظالمة، ويحاولون القضاء على جميع من لا تتطابق صفاتهم مع نوعية البشر التي يرغب النظام بإنتاجها. وعندما تدرك الجماهير المخدوعة بالمنح الصغيرة والخزعبلات الأيديولوجية كم أن هذا النظام خاوٍ من الداخل، سيكون – للأسف – الأوان قد فات وولّى.
وعندما تنتهي عهود الأنظمة القمعية، وتختفي أسراب الجراد النهمة، لا يبقى بوجه عام سوى البلدان المدمَّرة بسبب النزاعات أو الحروب نتيجة السياسات الخارجية المتهورة، والدول التي أصبح اعتبارها في الحضيض، والخزائن المنهوبة، والأضرار البيئية التي لا يمكن العودة إلى ما قبلها، والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية الضخمة. لا تقولوا إن ذلك لن يحدث لنا ولن يتكرر في تركيا، ذلك أن التاريخ ما هو إلا عبارة عن تكرر للأحداث التي لا يستخلص منها الناس العبر والدروس.
ثمن أن تقول “الملك عريان”
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]يُلمَّع النظام على الدوام بدعم الإعلام الموالي له، وتُقدَّم الهزائم إلى الشعب على أنها نجاحات يحققها زعماء الدولة. وأما من يتجرؤون على قول إن “الملك عريان” فيصيرون هدفًا لهجمات الجماهير المغيّبَة، ويتعرضون لشتى صنوف التعذيب الاجتماعي. وإن لم يكفِ ذلك، تدهسهم جرّافة الدولة.[/box][/one_third]يعتبر أسلوب مطاردة الساحرات أكثر الأساليب التي تلجأ إليها الأنظمة الريعية للتستر على فشلها واستبدادها وفسادها. فتنتج هذه الأنظمة ساحرات بعناية تامة، لتتمكَّن من إسناد افتراءات وتهم باطلة لأناس أبرياء، ثم تحرقُهم بعد وضعها في أيديهم المكانس. وبينما يستمتع الشعب بمشاهدة الألعاب البهلوانية على المسرح، تُسرق محافظهم وتفرَّغ جيوبهم. ويجري بالطريقة ذاتها التستر على أخطاء السياسة الخارجية، والمجازر البيئية، والظلم الاجتماعي، ونقص الحريات.
ويُلمَّع النظام على الدوام بدعم الإعلام الموالي له، وتُقدَّم الهزائم إلى الشعب على أنها نجاحات يحققها زعماء الدولة. وأما من يتجرؤون على قول إن “الملك عريان” فيصيرون هدفًا لهجمات الجماهير المغيّبَة، ويتعرضون لشتى صنوف التعذيب الاجتماعي. وإن لم يكفِ ذلك، تدهسهم جرّافة الدولة.
إن تركيا، وإن ارتدت قمصان أيديولوجية مختلفة خلال فترات متعددة، غير أنها صارت أسيرة العقليات الإدارية التي دعمت حيوية قضية مطاردة الساحرات. وبهذه الطريقة جرى التستر على الفشل والفساد. وصار نقص الحب والتعاطف لدينا وأحكامنا المسبقة ومخاوفنا وهواجسنا الأيديولوجية وعقائدنا عوامل سهّلت لتبنّي الدولة والمجتمع لأسلوب مطاردة الساحرات.
ولم يبق في المجتمع تقريبًا أي طائفة لم ترتكب هذا الجرم بطريقة من الطرق عمدًا أو دون قصد. وفي الوقت الذي يلزمنا فيه محاسبة أنفسنا وتنقيتها بشكل جذري، فإنه من المؤسف رؤية تقليد مطاردة الساحرات مستمرًا في تركيا، بل يزيد ويقوى. والسبب الرئيس الكامن وراء ذلك هو عدم اكتمال وتيرة ترسيخ الديمقراطية حتى الآن. لا شك أن أكبر المتسببين في ذلك هو حزب العدالة والتنمية الذي يقود البلاد منذ 12 عامًا والمعارضة التي لم يعد لها تأثير يذكر.
أن تتعرض لعاصفة ثلجية في “تركيا الجديدة”
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]ما يحدث تراجيدي كوميدي، ولكنه حقيقة. ففي الوقت الذي حاول البيروقراطيون المتدينون الهروب من المضايقات في تركيا القديمة “العلمانية”، وجدوا أنفسهم يتعرضون لمضايقات أكثر في تركيا الجديدة “المتدينة” التي أنشأها أردوغان…[/box][/one_third]إن ضحايا آخر موجة من موجات مطاردة الساحرات هي جماعة الخدمة. فنحن أمام حكومة وَصَمَتْ كل من شارك في التحقيق في ادعاءات الفساد الجادة التي نالت الدائرة المحيطة بها بأنه “انقلابي” وينتمي إلى “الجماعة”، وهي تسعى في الوقت نفسه للتستر على الأدلة التي تدين المتهمين في هذه القضية. ولقد شهدنا تعرض عدد كبير من البيروقراطيين للتفرقة والمهانة والعزل من مناصبهم فقط للشك فيهم، وإن كانوا ليس لهم أدنى علاقة بدعاوى الفساد.
فما يحدث تراجيدي كوميدي، ولكنه حقيقة. ففي الوقت الذي حاول البيروقراطيون المتدينون الهروب من المضايقات في تركيا القديمة “العلمانية”، وجدوا أنفسهم يتعرضون لمضايقات أكثر في تركيا الجديدة “المتدينة” التي أنشأها أردوغان…
لا يوجد أحد يقول إن جماعة الخدمة لم ترتكب أخطاء، وهل يوجد إنسان بلا أخطاء؟ غير أن الجماعة تتعرّض لهجمة شرسة من الشيطنة مثل جميع أطياف المجتمع التي لم تبايع النظام النفعي الذي فُهم أن خيوطه كانت تنسَج بانتظام منذ سنوات. هناك مساعٍ ترمي لقلب المجتمع المدني والدولة رأسًا على عقب. وإن الداعمين لهذا الأمر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة سيدركون خطأهم عاجلًا أو آجلًا . ذلك أن القضاء بفظاظة على الموارد البشرية بهذه الطريقة في دولة تعاني أصلًا من نقص الموظفين الأكفاء سيخفض جودة العمل في القطاع الحكومي، وسيكون الشعب هو من يتحمل الخسائر في النهاية.
طعنة في ظهر الأشراف
لا أعرف البيروقراطية جيدًا، لكنني نلت شرف التعرف إلى العديد من الدبلوماسيين الأتراك بينما كنت أزوال مهنة الصحافة على مستوى السياسة الخارجية. وكان بعض هؤلاء الدبلوماسيين من المقربين من جماعة الخدمة، وكان لدى هؤلاء حب للوطن وعشق لخدمته وتضحية وقدرات وصدق ربما أكثر من نظرائهم، ولم تكن لديهم أي نواقص. وكان بعض من هؤلاء قد أسندت لهم مناصب رفيعة في الدولة، تقديرًا لصفاتهم المتميزة، من قبل وزير الخارجية أحمد داود أوغلو بموافقة كل من رئيس الجمهورية عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. ولا أستطيع أن أعبر عن الحزن الشديد الذي يشعر به قلبي بسبب نفي أبناء هذا الوطن من الشرفاء هنا وهناك ومعاملتهم معاملة الخونة والجواسيس في سبيل تحقيق طموحات ومصالح سياسية.
ويشهد التاريخ أن الأمم المتنازعة والدول التي قتلت أبناءها بنفسها لم تفلح داخليًا أو خارجيًا. كما أنها تصبح ضعيفة في مواجهة خصومها على الساحة الدولية، ولا تتمكن من تلبية تطلعات حلفائها، وتفقد هيبتها ونفوذها، حتى أنها من الممكن أن تتعرض للانقراض الكامل وتتخذ موقفها كآية وعبرة ودرس في معرض التاريخ. وأدعو الله أن يطيل عمر أمتنا ودولتنا ويخرج بلدنا من نفق الجنون هذا في أقرب وقت ممكن.