بقلم: محمد عبيد الله
إسطنبول (زمان التركية) – مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة: 105)، أي: أنجزوا أعمالكم وفق المقاييس الإلهية والنبوية؛
وأن رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”؛
وعلى الرغم من أن الإتقان والاحتراف مطلوب في كل أنحاء العالم،
إلا أن العمل بكل هذه المبادئ قد أصبح دليل إدانة في ظل “تركيا الجديدة” التي يحكمها رجب طيب أردوغان. إنه ليس بمزاح أبداً؛ فالإتقان والاحتراف عُدّ جريمة في ظل حكم العدالة والتنمية. والقصة كما يلي:
فقد بلغت ممارسات الضغط والقمع التي يمارسها الرئيس أردوغان في كل مجالات الحياة في البلاد، خاصة في مجال حرية الإعلام، ذروتها أمس الأربعاء باقتحامِ، بل احتلالِ القوات الأمنية مقر مجموعة إيبك الإعلامية ودخولها إلى داخل المبنى بعد كسر بوابته وإخراج الصحفيين العاملين فيه، وذلك تنفيذاً لقرار المحكمة بتعيين أوصياء في مجلس إدارة المجموعة.
وفق تصريحات رئيس مجلس إدارة وصاحب مجموعة شركات كوزا-إيبك، تتجاوز الحسابات النقدية المباشرة للشركة في المصارف المليار دولار، وتستحوذ على ممتلكات في قطاع التعدين بما يعادل عشرين مليار دولار أخرى. وإلى جانب هذا، فالشركة غير مدينة لأي طرف خارجي.
ما حدث أمس أن الشرطة التركية قامت -بأمر من أرودغان- بمداهمات ضخمة على 23 شركة تابعة للمجموعة تعمل في مجالات مختلفة، تحت زعم “مكافحة الإرهاب”.
ومع أن القرار لا يعني “اغتصاب المجموعة ومصادرة ممتلكاتها”، ومع أنه لا يمكن تنفيذه إلا بعد نشره في الجريدة الرسمية، إلا أن الشرطة احتلّت مبنى المجموعة بعد كسر بوابته الرئيسية حتى قبل وصول الإخطار الرسمي إلى الشركة، مستخدماً كل أنواع الشدة والعنف من خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والهراوات تجاه العاملين والمواطنين المحتجين، مما أسفر عن إصابة عشرات المواطنين والصحفيين التابعين لمختلف المؤسسات الإعلامية بجروح، بما فيهم أحد البرلمانيين، إضافة إلى اعتقال بعض الصحفيين. وانتهت سلسلة الخطوات التعسفية هذه بدخول شرطيين مدنيين إلى غرفة الإرسال وفصلهم أسلاك جهاز البثّ الفضائي للقناتين.
حسناً، فما هو المبرر القانوني لهذه المبادرة، وما هو المستند الذي اتخذته المحكمة أساساً في إصدار القرار بتعيين أوصياء على شركات مجموعة إيبك. كل هذه الأعمال غير القانونية التي أثارت ضجة كبيرة في تركيا والعالم على حد سواء، وعدته منظمات صحفية محلية ودولية “انقلاباً دموياً على حرية الإعلام في تركيا” مستندها عبارة عن تقرير أعدته لجنة خبراء! وأدرج أدناه الترجمة الحرفية لنصّ هذا التقرير حتى تعرفوا مدى سخافة قرار مصادرة المجموعة الإعلامية:
“إن عدم وجود أي خطأ ونقص في مثل هذه المؤسسات الاقتصادية التي تتداول فيها أموال ونقود هائلة جداً في بلدان ذات ظروف اقتصادية حساسة مثل تركيا، لا ينسجم مع الحقائق الاقتصادية والتقنية والتجارية. ذلك لأنه ليس هناك في أية بقعة من العالم مؤسسة ونظام محاسبة وميزانية كاملة لا يعتورها أي نقص أو خطأ. لكن الوثائق الرسمية الخاصة بمؤسسات وشركات إيبك المتهمة التي فتّشناها قدّمت صورة وكأنها رائعة وكاملة لا يوجد أدنى نقص أو خطأ في الظاهر. إلا أن نظرة دقيقة في هذه الوثائق تكشف عن كثير من الأعمال غير القانونية”.
إنه حقيقة وليس بمزاح أبداً! فهذا هو التقرير الرسمي الذي شكّل مستنداً لاغتصاب شركات مجموعة إيبك.
إن هذا التقرير يثبت:
أولاً: إنهم يعترفون من جانب بأنهم لجأوا إلى كل واردة وشاردة، وفتشوا كل زاوية للحصول على خطأ أو ثغرة في شركات إيبك، إلا أن كل جهودهم باءت بالفشل وعجزوا عن الوصول إلى شيء مثقال ذرة يمكنهم من إدانتها.
ثانياً: إنهم يعترفون بالإتقان والاحتراف والمصداقية والقانونية لكل مؤسسات إيبك، حيث يقولون إنها “قدّمت صورة وكأنها رائعة وكاملة لا يوجد أدنى نقص أو خطأ في الظاهر”. أليست مهمة المحاكم هي “الحكم بالظاهر” أو العثور على خطأ أو نقص مادي؟!
ثالثاً: إنهم يعتبرون عدم وجود أي خطأ ونقص في شركات إيبك أمراً مثيراً للشبهات ويطالبون بمصادرة شركات إيبك. أي أنهم تجاوزوا حتى قانون “الاشتباه المعقول” الذي وضعه أردوغان لتخويف واعتقال معارضيه بموجبه.
إنه عار أيما عار! انظروا إلى المصير الذي آل إليه حزب محافظ “إسلامي” أطلق مشواره قبل أكثر من عقد انطلاقاً من المبادئ الديمقراطية والإسلامية في البداية، ثم بدأ يبتعد رويداً رويداً حتى عن المبادئ الإنسانية والأخلاقية كلها ويتجه نحو أسوأ أنواع الدكتاتورية عندما ألقي القبض عليه وهو متلبس بجريمة “الفساد والرشوة الكبرى” عام 2013. مثله كمثل رجل قتل شخصاً ثم بادر إلى قتل كل إنسان رآه متلبساً بهذه الجريمة عبر إمكانيات الدولة خشيةَ تقدمه بشكوىً عنه إلى السطات القضائية ومعاقبته. فهذا هو تفسير ما يحدث في تركيا منذ عامين من نفي وتشريد وعزل لعشرات الآلاف من القيادات الشرطية والموظفين والقضاة والصحفيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية ورجال الأعمال.