وبعد الطوفان الذي غمر الأرض، كان النبي نوح عليه السلام يُرسل حمامة بين الحين والآخر لتتفقد الأحوال وتأتي له ببشارة ظهور اليابسة، وذات مرة عادت الحمامة إليه حاملة بمنقارها غصن شجرة زيتون، ما يعني أن الأشجار بدأت تظهر، ففرح عليه السلام فرحًا وكافأ الحمامة لقاء خبرها هذا.. وبذلك اقترنت الحمامة الحاملة بمنقارها غصن شجرة الزيتون، بالحب والسلام.
وظلت الحمامة رمزًا للحب والسلام عند اليونان في القدم أيضًا، إذ دأبت أساطيرهم على تصوير “أفروديت” مع حمامات تطير حولها، كما أشارت هذه الأساطير أن بنات أفروديت وشقيقاتها السبع، كانت سربًا من الحمامات، ما دلّ على أن الحمامة في تلك العصور كانت وثيقة الصلة بالحب والصفاء والنقاء. وأيضًا صوّرت الأساطير الهندية آلهة الحب وهي تطير على ظهر حمامة. كما وُجدت نقوش لحمامات على الآثار المصرية القديمة، وكان المصريون يربّون الحمام في أبراج من الفخار والطين، وما زالت هذه الأبراج مستعملة حتى يومنا في قرى مصر الحديثة.. بالإضافة إلى أن المصريين عبّروا عن علاقتهم الحميمة بالطيور عامة وبالحمام خاصة عن طريق رسمها على جدران معابدهم ومقابرهم، بل واتخذوا من الطيور رموزًا للكتابة الهيروغليفية؛ فرمَز طائر السمّان عندهم -مثلاً- إلى حرف “و”، والبوم إلى حرف “م”، والصقر إلى حرف “ح”.
ثم إن الحمامة قامت بدور مهم في حماية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من المشركين وتأمين سلامته عندما أوى وأبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى غار ثور إبان هجرتهما إلى المدينة المنورة، مما عظّم من شأن الحمامة وجعلها رمزًا للحب والسلام عند المسلمين أيضًا.
كما اهتم فنانو القرون الأخيرة بالحمامة وتناولوها في رسوماتهم بكثرة لدلالتها على السلام؛ فمثلاً، كانت الحمامة حاضرة في معظم رسومات بيكاسو، حيث ظل يرسمها عقودًا متتالية في لوحاته بأساليب وتقنيات مختلفة. وكانت لوحته التي رسم فيها حمامة تحمل بمنقارها غصن شجرة الزيتون، شعارًا للسلام في مؤتمر السلام العالمي الذي نُظِّم في باريس عاصمة فرنسا عام 1949م، وتحولت الحمامة بعد هذا التاريخ إلى رمز عالمي للسلام في عالم اليوم.
حمامٌ ينقل رسائل مهمة للإنسان
لا جرم أن هذا الارتباط أنشأ علاقة قوية تقوم على الثقة والاعتماد بين الحمام والإنسان.. حيث سعى الإنسان إلى استخدام نوع الحمام الزاجل كوسيلة للمراسلات ونقل الأخبار بين المواطن والأصقاع، أو كبريد سريع يحمل أخبارًا ومعلومات غاية في السرية إلى أماكن مختلفة.. بل واستخدمه لأغراض خاصة تتمثل في قصة أحد السلاطين في إفريقيا عندما اشتهى فاكهة الكرز اللبناني؛ فأمر أعوانه بإحضار هذه الفاكهة بأسرع وقت ممكن، وبعد تفكير طويل اهتدى القوم إلى الحمام الزاجل في تنفيذ هذه المهمة، فكتبوا ذلك للمعنيين في بلاد الكرز وبعثوا الرسالة مع الحمام الزاجل يطلبون منهم أن يضعوا كل حبة كرزٍ في كيس صغير ثم يحمّلوا كل حمامٍ كيسًا من هذه الأكياس لتتجه به إلى مملكة السلطان، فنفذوا ما قيل وتمت المهمة بنجاح.
كانت العرب أول من استخدم الحمام الزاجل في حمل الرسائل في القرن الثاني الهجري، حيث ورد في كتب التاريخ أن أول من عرف استخدام هذا الحمام، أهلُ الموصل. وكذلك استُخدم الحمام الزاجل في عهد الأمويين والعباسيين في نقل الأخبار بين بغداد ودمشق وحلب والإسكندرية وشتى الأراضي التابعة لحكمهم.. ونتج عن ذلك أنْ أسسوا للحمام الزاجل ديوانًا خاصًّا تابعًا لديوان البريد، له موظفون وسجلات.
ولكن كيف استطاع الحمام الزاجل أن يهتدي إلى طريقه الصحيح دون خطأ أثناء مهمته؟ وكيف كان يدرّبه الإنسان لنقل الرسائل؟
كيف يُدرَّب الحمام الزاجل؟
قام العلماء والباحثون بدراسات عميقة حول الحمام الزاجل، فوجدوا أنه يهتدي إلى طريقه بواسطة بوصلة كيميائية في رأسه تعتمد على قوة الملاحظة والذاكرة البيئية، وبالتالي لاحظوا أن هذا الحمام طائر يرتبط بشدة بموطنه وبيئته التي يعيش فيها.
أما أساليب التدريب لهذا الطائر فمتعددة، منها أنهم كانوا يختارون من العش -الذي فيه بيض وفراخ- واحدة من الحمامات المفرخة، ثم يأخذونها معهم إلى المنطقة التي يريدون أن ترجع منه، فيقومون بربط ورقة صغيرة في رجلها ويطلقونها إلى الفضاء، فتعود إلى عشها بسرعة منقطعة النظير.
وأما الطريقة الأخرى والأدق، هي أنه بعدما يكمل الحمام الزاجل الخمسة أسابيع من عمره، تبدأ مرحلة تدريبه على الطيران؛ يُترك جائعًا أثناء ذلك ويكون التدريب أقل من ساعة في بداياته، إذ يتم تعويد الحمام على الطريق من خلال إشارات توصله إلى قفصه وقتَ التغذية، ويُدرَّب على الطيران في اليوم الواحد مرتين على الأقل، وتستمر عملية التدريب هذه من ستة إلى ثمانية أسابيع ليتمكن الحمام من معرفة البيئة والمحيط جيدًا، ثم يتم تطويل المسافة تدريجيًّا.. توضع حمامات عديدة في قفص خاص قبل إرسالها إلى المهمة، ثم تؤخذ إلى مكان يبعد عن مسكنها بكيلومترين، ثم تطلق الواحدة بعد الأخرى، وبعد أيام يعود المدرّبون ليأخذوا الحمامات إلى مسافة أبعد من ذي قبل تبلغ أربعة كيلومترات، ثم سبعة كيلومترات وهكذا، ثم تُزوَّد المسافة حتى تصل إلى 200 كم. علمًا بأن الحمام الزاجل يقدر على قطع مسافة تتراوح بين 128-1000 كم تقريبًا في اليوم الواحد وبسرعة تزيد على 100 كم تقريبًا في الساعة الواحدة. والغاية الأخرى من كثافة هذا التدريب، هو تقوية عضلات الحمام الزاجل وتنشيط أعضاء جسمه لاجتياز المسافات الطويلة، وتقوية ذاكرته، وتعويده على الطيران. هذا ويتميز الحمام الزاجل بحب مدربه وطاعته له، وسرعته في التعلم، وقلّة الأكل والشرب.
قصور الحمام
ولجمال هذا الحمام وألفته، ولرمزيته للحب والنقاء والرحمة والسلام، أبدى العثمانيون اهتمامًا كبيرًا به، حيث تبوأ المكانة المرموقة في شتى نواحي حياتهم فنًّا وثقافة وعادات وتقاليد. فجَرت العادة لدى أبناء هذه الحضارة وفنانيها ومهندسيها، على إلحاق مجسمات قصور صغيرة -لم يكن لها مثيل في التاريخ- بالواجهات الخارجية للمساجد والمدارس والخانات والمكتبات والجسور والقصور والمنازل، لتسكنها الطيور الآهلة من العصافير والسنونو والحمام آمنة مطمئنة على نفسها.
كانت هذه القصور المصغرة تبنى من الطوب الأحمر أو القرميد أو الحجارة أو الرخام أو الطين، وكانت بمثابة بصمة للمهندس المعماري ينقشها على المبنى أو يركّبها على الجدار بحرفية منقطعة النظير. ولكن ما الغاية من ذلك؟ لعل الغاية هي رغبة المعماري بتذكير الناس بالعلاقة الوثيقة بين العبادة والرحمة، أو الارتباط القوي بين الحياة والحب، ومن ثم التأكيد على ضرورة إعمار الأرض بلبنات الحب والرحمة والسلام، وإقامة محاسن الأخلاق بمد العون إلى الضعفاء والمحتاجين من المخلوقات كافة.. وكل ذلك أنجزوه من خلال بناء هذه القصور الصغيرة والتحف الفنية البديعة، وإيواء طيور السلام والمحبة فيها.
كثيرًا ما كانت توضع هذه القصور في أماكن عالية وآمنة من جدران المباني، وخاصة في الأماكن المشمسة والنائية عن مجرى الرياح والعواصف، لتشعر الطيور اللاجئة إليها بالأمان، وتطمئن على حياتها من الحيوانات المفترسة. ثم بواسطة هذه التحف الفنية، يتمكن الطير من إيجاد الطعام الذي يوضع له بانتظام كل يوم، ثم حماية نفسه من قسوة البرد في الشتاء أو شدة الحرارة في الصيف، فضلاً عن إسهام هذه القصور في منع فضلات الطيور من تلويث جدران المباني ومن تآكل أحجارها.
انتشرت هذه القصور ما بين القرن الخامس عشر والتاسع عشر الميلادي في مدن عديدة من المملكة العثمانية، ولا تزال آثار هذه البصمات الإنسانية موجودة حتى الآن في إسطنبول، وبورصة، وأدرنه، وتوكات، وأنطاكية، وآماسيا، وقيصري وغيرها من مدن تركيا الحديثة، ولكن أشهرها الكائنة على جدران المساجد الكبيرة بإسطنبول كمسجد السليمانية، ومسجد عتيق علي باشا، ومسجد السلطان أحمد، ومسجد آيازما في منطقة أسكودار الذي بني عليه سبعة عشر منزلاً للطيور.
لا شك أن القصور الفنية هذه، تشير إلى عمق خيال المعماري وبراعته الفنية ورهافة حسه وذوقه الرفيع في التزيين والزخرفة. سميت هذه القصور بأسماء مختلفة، منها قصر السنونو، وقصر الحمام، وقصر العصافير.. فكان معظمها يحتوي على عدة طوابق، تضم المشربيات، والشرفات، والنوافذ المقوسة، والسقوف، والقبب، وأحواض الماء الداخلية، بل وسلالم هبوط وإقلاع تسهِّل دخول وخروج الطيور إليها.. كل ذلك يدل على أن هذه التحف المعمارية الظريفة لم تكن شكلية فحسب، إنما تجاوزت ذلك لتؤكد براعة المعماري في الفن، وخياله الواسع في الزخرفة والتزيين.
إن المجسمات الأولى لقصور الطيور في الحضارة العثمانية كانت في مدينة بورصة، ولكن بسبب الإهمال، لم يصل إلينا إلا ما وُجد على جدران مسجد أمير سلطان، والمسجد الأخضر. إن النقوش والزخارف والتصاميم البديعة في هذه القصور، دفع أهل إسطنبول لأن يسمونها بـ”بيوت الخيال”، ووفقًا للمصادر، فإن أجمل هذه القصور كانت في منطقة أسكودار بإسطنبول. ويمكن كذلك أن نرى هذه التحف المتقَنة في جامع أيوب سلطان بإسطنبول على جدار جبهة المحراب.
وأما أقدم هذه القصور الصغيرة في إسطنبول، فتوجد في جامع بالي باشا الذي بني عام 1504. وقد نلاحظ قصورًا للطيور في جدار مدرسة فيض الله أفندي المطل على الشارع الرئيس بإسطنبول، والتي أصبحت فيما بعد مكتبة سميت “فاتح مِلَّتْ”
وكذلك نجد هذه القصور مبنية على أضرحة سلاطين آل عثمان، مثل القصر الكائن على جدران ضريحي السلطان مصطفى الثالث، والسلطان سليم الثالث في حي لاللي بإسطنبول، حيث تم بناؤه على الطراز الباروكي، ويتكون من طابقين مزودين بـ16 نافذة، رُكِّب عليه ثلاث قباب، مما أضفى عليه جمالاً يسرُّ الناظرين ويدفع العقول إلى التفكر والتأمل بجماليات صنع الخلق لتصل إلى صنع الخالق البديع.
وهل كان الاهتمام بالحمام والطيور حبيس الماضي؟ بالطبع لا.. فثمة أناس كثر في يومنا هذا ما زالوا مهتمين بالحمام خاصة وبالطيور عامة، يعتنون بها ويربونها في منازلهم، وحدائقهم، وغيرها من الأماكن.. ما زالوا يتفننون بصناعة البيوت للحمام والطيور، ولكن بطريقة عصرية مختلفة عما قبل. ولا ينحصر هذا الاهتمام ببلد أو منطقة بعينها، بل انتشر في شتى بلاد عالم اليوم.
يقلم/ نور الدين صواش