وإلى مناطق بكرٍ غير مكتشفة من قارَّات الروح يأخذنا “القرآن”، ويرتاد بنا أبعادًا هائلة، وقِمَمًا عالية جدًا، ثم يحذّرنا من الالتفات إلى الوراء، وإلاَّ دار رأسنا، وربما هوينا من شواهق ما وصلنا إليه إلى سحيق ودْيان ما كُنَّا فيه.
وهو يسمو بوجداننا فوق العقل، إلاَّ أنه يظلُّ يذكّرنا بأنه -أي العقل- معراجنا مع الوجدان في هذه الفوقية.. ويخترق بنا آماد الزمان والمكان، حتى لنكاد نشعر بأمواج الأبدية وهي تضرب شواطئَ أرواحنا، وتنساب إلى دواخلنا، وفي برزخٍ بين أن نكون -بشرًا سويًّا- أو ألاَّ نكون، يوفقنا القرآن لنرى رأينا ونحزم أمرنا.
وشتيت الروح، وانقسامات النفس، وتشعبّات الفكر، وزائغات النظر، تجد في القرآن ما يلمُّ الشتات، وَيُوْحِّدُ الشِعَبَ، ويجمع المقسَّمات، ويعيد للبصر وحدة النظر ليزداد حدَّةًَ وقوةً فيرى “اللاَّمرئي” فينا، “واللاّمرئي” في الكون والوجود… وهو يعلمنا أنَّ مَنْ لم يكن واحدًا في ذاته، كلاًّ في فكره، جمعًا في وجدانه، فلن يكون له نصيب من تجليات أنوار الواحدية والأحدية؛ لأنَّ الإيمان الحق، هو الإيمان الذي ينبعث عن الكيان الإنساني كُلِّهِ.
والقرآن -بعد ذلك- ينبوع قوة يتدفق من قوًى غيبية ليستقوي به الضعفاء، ويحيا به الأموات.. وهو العقل المبعوث لجنون كل الأعصار، وشعاع الروح الأزلي فوق ظلمات القلوب والنفوس… فكلماته محمّلة بسحائب الحياة، وآياته تقطر أنداءَ جمالٍ وجلالٍ. وبمقدار ما يجهل الإنسان منه، يكون جهله بنفسه وبالكون وبالوجود مِن حوله… إنه باعث غريزة التوحيد وفطرته من كوامن الإنسان.. وهو عين العالم وقلبه، كم من عقلٍ غَيَّرَ، وكم من روح سما بها، ووجدان ارتفع به.. إن قوانين الفطرة ونواميس الكون تتألّقان في سماء كلماته وآياته.. وفي ثناياه يرقد العقل كله، ومنه تُسْتَنْشقُ أنفاسُ الحياة، وفيه تأْتلف قوى الطبيعة والفضيلة، ويغوص الكُلُّ في فيض من الحب الإلهي.. وهو يعزّز قوى الحواس، ويفتح نوافذ الخيال، ويؤجج ثورة عشقٍ في سويداء القلوب والأرواح.. أما نبلاء الفكر، فإنهم يجدون فيه النبل كلَّهُ، والشهامة كلَّها، والعظمة كلَّها… وكمْ من خيالٍ فَتَنَه، ومِذْواقٍ سحره، وبلاغةٍ ركَعتْ لبلاغته.
لقد مَزَّقَ القرآنُ أكفانَ الصمت عن النبُّوات السابقة، وأقام الأنبياء السابقين من مراقدهم، واستنطقهم ليقولوا كلمة الحق في محمد صلى الله عليه وسلم، وليأنس بأنفاسهم، ويتأسَّى بسيرهم وبما لاقَوْه من عَنَتِ أقوامهم، وما صبّوه عليهم من نُكْرٍ وعذاب.
لقد هَزَّ محمد صلى الله عليه وسلم بنداءَاتِهِ قلب السماء، فانتفضتْ حتى غدت جعبة سهام ناريّة تنطلق لتصميَ أفئدة الشياطين وأتباعهم من المشركين، أينما وجدوا وحيثما كانوا.
وبين قلب محمد صلى الله عليه وسلم وقلب الكعبة عشقٌ متبادلٌ عميقٌ موغلٌ في القدم، فهو تَوْأمها في الوجود الغيبي، وهي شطر ذاته، وبعض أجزاءِ جوهر حقيقته في مرايا عالَمِ المثال، ويومَ وَضَعتْ مكةُ وديعتها الغالية بين يدي العالَم غَطَّت الكعبةَ سحائبُ أسًى لما ستأتي به الأيام القابلة من فرقة وافتراق قدَري لا مناص من وقوعه، قبل أن يسمح القَدَرُ وبعد سنين من الكفاح المتواصل بالوصال من جديد.
هـذه -أخي القارئ- بعضٌ من أفكار ومشاعر ومعانٍ جاءت على صفحات هذا الكتاب، وأُريد أن أُنبِّه إلى أَنَّ مؤلف الكتاب العالم الكبير الأستاذ فتح الله كولن لم يزعم أنه في معرض التفسير لما تناوله من آيات قرآنية، على الرغم من امتلاكه لكل شروط المعرفة التفسيرية و أدواتها. وكُلُّ الذي فعله أنه سَجَّلَ في هذا الكتاب ما تلقاه من وَمَضاتٍ والْتماعات وإشارات من بعض مَا تَألّقَ في سماء وجدانه المرهف من نجوم القرآن. ومع ذلك فإنه لم يغفل تمامًا آراء المفسرين في الآيات التي عرض لها، غير أنه توسع بعض الشيء فيها، وانقدحت في خاطره أفكارٌ وَمَعَانٍ جديدة مضافة، تحتملها الآية من حيث تركيبها اللغوي والبلاغي، ولا تشتطُّ أبدًا في الابتعاد عن أصول التفسير وقواعده المعروفة. ولا شك أنَّ هذه الخطرات أَمْلَتْها ظروف العصر، وظروف الدعوة الإسلامية المعاصرة، وأوحت بها معارف العصر وعلومه وتوجهاته الفكرية والروحية… ورحِم الله النورسي الذي قال: “إنَّ الزمان أكبر مفسّر للقرآن”.
وأنا على ثقة من أن هذه الخطرات حول بعضٍ من آي القرآن الكريم سوف تجد لها صدًى واسعًا في فكر القارئ العربي ووجدانه.. فترجمة هذه الأعمال الدعوية والفكرية للأستاذ “فتح الله” إلى العرَبية، عمَلية تنشيطية للأفكار، وهي تبادل معرفي جيد بين عقول المعنيين بشؤون الإيمان وقضايا الإسلام هنا في تركيا وهناك في العالم العربي.
جزى الله عنا الأستاذ الفاضل فتح الله كولن خير الجزاء، وآمل من رحمة الله القدير أن يجعل ذلك في صحائف عمله يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاَّ مَنْ أتى الله بقلْب سليم.
بقلم/ أديب إبراهيم الدباغ