بقلم: محمد كاميش
قالت والدة مدير الأمن الذي اعتقل من شقته المستأجرة في منطقة “حالقالي” بإسطنبول وهي تودعه “لا تحزن يا بني.. ولا تخجل، بل ليخجل اللصوص”.
إن حالة والدة الشرطي عمر كوسا صعبة للغاية! ويا له من اختبار أليم أن تكون صاحب مبدأ في مدينة اللصوص، أو ألا تنظر إلا إلى ما تستحقه، أو أن تكون صاحب عقل في قرية المجانين.. نعم الوضع كذلك.. فأنت تربي ولدك لسنوات وفق مبدأ البعد عن المال الحرام، وتعلمه أن ممتلكات الدولة هي بمثابة مال اليتيم، ليكبر ابنك وفق ما علمته، ثم يُتَّهمَ ويُعتقلَ بسبب هذه المبادئ!
نعيش أيامًا تاريخية بحق، تسودها الوقاحة في دولة الهرج والمرج، ونشهد أيامًا يعاقَب فيها من لم يسرقوا ورفضوا أن يكونوا لصوصًا، ويتم إعلانهم خونة، دعكم من مزاعم الفساد والرشوة الكبرى التي اطلع عليها الرأي العام في وقت سابق، وانظروا إلى هذا الخبر الذي صادفته بينما كنت أقرأ الصحف بالأمس: “تم الكشف عن أن المدير العام لشركة الخطوط الجوية التركية حمدي طوبتشو أهدى ساعة بقيمة 220 ألف دولار لمستشار وزارة المالية ناجي آغبال”. كيف تستقبلون هذا الخبر، الذي لم يَظهر مسؤول واحد ليكذّبه؟ وهل من الطبيعي أن يتلقّى بيروقراطي في وزارة المالية هدية بقيمة 220 ألف دولار؟ وهل من الطبيعي أن يقدِّم رئيس مجلس إدارة شركة حكومية تعاني خسائر ضخمة هدية غالية لهذه الدرجة؟ بل ولماذا يقدمها أصلًا؟
لم يهتم أحد بمسألة إهداء شركة حكومية تخسر ملايين الدولارات ساعة بقيمة 220 ألف دولار لمسؤول بيروقراطي بالدولة، كما لم يلقِ أحد بالًا لحصول وزير البيئة والتخطيط العمراني أردوغان بيراقدار السابق على قطعة أرض بقيمة 45 مليون ليرة (21.3 مليون دولار)، وإذا كان لا أحد يتساءل كيف جمع شخص بيروقراطي عمل لسنوات بالدولة، وكان قبل ذلك رئيسًا لإدارة السكن الجماعي (TOKİ) هذا المبلغ الضخم، فهل بقي شيء لنتحدث عنه في هذا المقام؟ كما أن زوجة بيرقدار هي الشريك الأكبر في الشركة التي قال إنه لا يملك من أسهمها سوى 7%، أي أن الشركة شبه مملوكة لزوجة الوزير السابق.
وهناك سؤال: “من أين حصل على هذا القدر من المال؟”، وسؤال آخر منفصل: “هل من الأخلاق أن تكون لديه شركة منفصلة بينما هو يرأس مؤسسة تبني الوحدات السكنية باسم الدولة لسنين طويلة؟ ، ولن أسأل أبدًا: “كيف اشترى قطعة الأرض هذه قبل أن يطرَح مشروع مرمراي، ومن ثم تضاعفت قيمتها ضعفين بين ليلة وضحاها، بعدما أصبح مخرج مشروع مرمراي يمر من خلالها؟” .. هذه الحقائق لم تظهر بعد بحث مضنٍ استغرق شهوراً طويلة، بل إنني أتحدث عن خبرَين صادفتهما بينما كنت أطالع صحف الأمس.
كان يجب على الأشخاص الذين يفترض أنهم أصحاب أخلاق إسلامية أن يستقيلوا على الفور جراء ما ورد في هذه الأخبار التي نصادفها حتى في أثناء مطالعتنا للصحف اليومية، وكان ينبغي على المجتمع أن يتحمل المتاعب ويحاسب من سوّلت له نفسه فعل هذا، وأشعر بالقلق البالغ إزاء محاولة إنقاذ الوضع عبر إطلاق بعض العبارات المنددة بما ترتكبه إسرائيل في قطاع غزة و”استيعاب” المجتمع لهذه الخدعة.
إن من يظهرون بدور بطولي من خلال ترديد الشعارات الداعمة لقطاع غزة في ميادين اللقاءات الجماهيرية فقط تربطهم علاقات اقتصادية متميزة مع إسرائيل، ولا يستخدمون حق الاعتراض (الفيتو) في حلف شمال الأطلسي (ناتو) ومنظمة التعاون الاقتصاد والتنمية (OECD) اللتين تحملان أهمية حيوية بالنسبة لتل أبيب، من أجل فتح طريق لعضوية إسرائيل فيهما، وعلى الجانب الاخر لا يقدمون للفلسطينيين التسهيلات ذاتها التي يقدمونها للإسرائيليين.
إن حالة رجال الشرطة المعتقلين مثل عمر كوسا وغيره، وكذلك حالة آبائهم وأمهاتهم صعبة للغاية! نرى في جانب رجال الأمن الذين ينفذون التعليمات الصادرة عن النيابة العامة، ونرى في جانب آخر معتقداتهم ومبادئهم، وفي جانب ثالث نرى دولة فوضوية أصبحت السرقة فيها هي الشيء الأكثر شيوعا والأوسع انتشارًا، فقد آثروا معتقداتهم ومبادئهم، وبينما الأمر كذلك، فما يقع على عاتقنا هو الوقوف في صفهم ودعمهم