أجل! كلما مرّ الزمان تَجدد شبابُ القرآن[1]، فكما يزداد نضج الإنسان وقدرة ذهنه على التحليل والتركيب، وإن ضعفت قدرة ذاكرته، وتزداد تجاربه وخبرته بمرور الزمن، كذلك الأمر بالنسبة للجماعات؛ أي كلما شاب الزمن وشاخ انفتحت قنوات جديدة وعروق جديدة وتوسعت وزاد سعي الإنسان وظهرت علوم جديدة تشرح لنا أسرار الكون وغوامضه. فعلم الفيزياء يظهر أمامنا وكأنه العلم الذي ينمو على الدوام في عروق الزمن ويغذيه ويتوسع ويعكسه. والأمر نفسه وارد أيضاً بالنسبة لعلوم الكيمياء والفلك وفيزياء الكون والطبّ والعلوم الأخرى؛ أي أن كل علم يتناول ضمن سير الزمن سرًّا من أسرار الكون ويشرحه ويعرضه أمام الأنظار. إذن فكلما خطا الزمن خطوة نحو يوم القيامة كلما تكاملت الدنيا ونضجت أمام أعيننا. فكأن العلوم هي الشعرات البيض على هامة الدنيا رمزاً للنضج والكمال، أي كلما اقتربت نهاية الدنيا زادت الدنيا كمالاً.
هذه الحال أو هذا المنوال يساعد على فهم القرآن، وسيأتي يوم يهتدي فيه كبار علماء الغرب الذين يبحثون عن أسرار العلوم وحقائقها عندما يفهمون القرآن حق الفهم ولا يملكون أنفسهم من السجود لله، وستهتف الإنسانية “ما أعظمك يارب!”. أجل سيأتي اليوم الذي يقول العلماء وهم يرَون الأبعاد السحيقة من الكون والتي تبعد عنا ببلايين السنين الضوئية.. سيقولون ما قاله “باسْكَال” وهو يبكي “ما أعظمك يا رب!”
وضع القرآن الكريم أفضل نظام اجتماعي لأفضل مجتمع قبل أربعة عشر قرناً، ولكننا لم نفهم نحن هذا بعد، لذا لم نستطع شرح هذه الوجهة الاجتماعية للقرآن كما يجب أمام المبادئ الأخرى من رأسمالية وشيوعية وفاشية وليبرالية. نحن لم نقصر فقط في فهم القرآن من ناحية المسائل الاجتماعية، بل لم نفهم كذلك المسائل الأخرى له فيما يتعلق بالحياة الإنسانية. ووظيفتنا الآن ومهمّتنا هي القيام بشرح كل هذه المسائل وتقديمها كوصفة علاج لأمراض الإنسانية وأدوائها.
وعندما نقوم بهذا بإذن الله تعالى سيبدو واضحاً كيف أن القرآن الكريم آت من نبع عميق، قد لا يتم حدس مبلغ هذا العمق ظاهريًّا، ولكن سيرى الجميع كم من حقيقة علمية موجودة فيه.
نحن لم نستطع حتى الآن حلّ مسائلنا الاقتصادية. وعندما نرى أن نظاماً اقتصادياً معيناً وضع بالأمس قد أدّى إلى مشكلات ومصائب تركناه وركضنا وراء نظام آخر صائحين: “لن يتقدم البلد إلا بهذا النظام”. وعندما نطبّقه نرى جيشاً من الفقراء المظلومين والبؤساء أمام عدد قليل من الأغنياء، وهكذا تتغير الأنظمة ونكون لعبة في يد هذه الأنظمة. وعندما يتم تناول القرآن الكريم من جديد نرى كيف نفهم أشياء جديدة وجيدة وكيف أن شبابه يتجدد بتجدد العلوم وتقدمها بمرور الزمن، وكيف يبدو وكأنه نـزل تواً. ومع أنه لم يتم حتى الآن بحوث عميقة وجدّية حول القرآن في أيامنا هذه، إلاّ أننا -بعقولنا القاصرة وبقلوبنا الضيّقة التي لا تتسع للحقائق الكبيرة- ننذهل أحياناً مما نفهمه من القرآن فنضطر إلى القول: “كلا، لا يستطيع البشر قول شيء من هذا القبيل”.
أجل! فكم من حقيقة علمية عبر عنها القرآن بجملة واحدة. وكم من بحوث تمت في ساحات عديدة فتبين أن الحقائق العلمية المستحصلة منها توافق ما جاء في آيات القرآن، وشوهدت هناك بصمته. ليس هذا الذي نقوله ادعاءاً فارغاً لا أساس له، بل هو حقيقة أظهرتها التجارب العلمية. قد نحتاج إلى مثال أو مثالين لشرح هذا الأمر:
يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام:125). فهذه الآية تشير إلى قانون من قوانين الطبيعة، إذ تستعمل كلمة “السماء” وفعل “يصّعّد” وهو من “صعِد / يَصعَد” أي الارتفاع إلى فوق. وكلمة “يصّعّد” تعبّر عن صرف جهد ومشقة، حتى أن الإنسان عندما يتلفظ بهذه الكلمة يحس وكأن نفَسه ينقطع. والقرآن يبين هنا الحقيقة التالية: كلما صعد الإنسان وارتفع عن الأرض قل الضغط وصعب تنفّسه، لأن الضغط الجوّي يقل درجة واحدة كلما صعد الإنسان مائة متر، وفي ارتفاع 2000 متر فوق سطح البحر يضطر الإنسان إلى استعمال أجهزة تنفس خاصة.
مثال آخر: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنـزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ (الحجر:22). هذه الحقيقة العلمية التي لم يتم فهمها إلاّ في هذا العصر ذكَرها القرآن قبل أربعة عشر قرناً؛ إذ تبين أن الرياح تسوق الغيوم الحاملة لبخار الماء ويصطدم بعضها ببعض فيتم انسياب الشحنات السالبة والموجبة وتحدث البروق. وتقوم الرياح بإنـزال الأمطار من الغيوم وفي الوقت نفسه تقوم بتلقيح النباتات أي حمل بذور الذكورة لتلقيح بذور الأنوثة في النباتات، فتساعد على إتمام عملية التلقيح في النباتات. وترد في الآية نفسها أن الأمطار الساقطة من السماء تُخزن في باطن الأرض، وبوساطة الآبار والعيون تتم الاستفادة من هذه المياه في سقي الأحياء من نباتات وحيوانات وإنسان. وهكذا يشير القرآن إلى هذه القوانين الطبيعية قبل أربعة عشر قرناً فيبرهن على إعجازه.
وتقول آية أخرى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذاريات:49). وفي اللغة العربية عندما تضاف كلمة ﴿كلّ﴾ -التي تعني العموم- إلى معرفة فتفيد عموم أجزاء الكل، وعندما تضاف إلى نكرة تفيد عموم الأفراد أي جميع الأفراد. وهنا كلمة “شيء” كلمة نكرة، إذن فالمعنى أن جميع الخلق خلقوا زوجين اثنين. كما أن الناس خلقوا زوجين اثنين، كذلك خلقت سائر الأحياء زوجين اثنين، فالنباتات أيضا خلقت هكذا ذكَراً وأنثى. وكلمة ﴿زَوْجَيْنِ﴾ الواردة في القرآن تعني الذكر والأنثى. بل إن الذرة نفسها التي هي أصل الأشياء خلقت زوجين اثنين. فمن أجزائها ما تحمل شحنة موجبة، وأخرى تحمل شحنة سالبة، وهناك أيضا قوة دافعة وأخرى جاذبة. أي إن هذا الأمر يظهر في صور وأشكال مختلفة. فإن زالت هذه الصفة لم تستطع الموجودات إدامة وجودها. وتعود آية في سورة “يس” إلى ذكر هذه الحقيقة بتفصيل أكثر فتقول: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ اْلأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يس:36). فهذه الآية تذكر أشياء لم تكن معروفة للناس في ذلك العهد، إذ تقول “إننا خلقنا أشياء أخرى لا تعرفونها بشكل أزواج”.
آية أخرى وموضوع آخر: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات:47). الجمل الفعلية في اللغة العربية تفيد التجدّد، والجمل الاسمية تفيد الاستمرارية. وجملة ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ جملة اسمية لا تتعلق بالأزمنة الثلاثة “الماضي، الحاضر والمستقبل” بل تفيد الاستمرارية، أي لا تقول: “إننا وسّعنا في الماضي ثم تركنا” ولا تقول: “إننا نوسّع الآن” ولا “إننا سنوسّع في المستقبل”، بل تقول: “إننا نوسع على الدوام ودون توقف”. ففي عام 1922 ذكر العالم الفلكي “هوبل” بأن جميع المجرّات -عدا خمساً أو ستًّا منها- تبتعد عن الأرض بسرعة تتناسب طردياً مع بعدها عنا. وحسب حساباته فإن كان هناك نجم على بعد مليون سنة ضوئية يبتعد عنا بسرعة 168 ألف كيلومتر في الدقيقة، فإن نجماً على بعد مليوني سنة ضوئية سيبتعد عنا بضعف هذه السرعة، وأي نجم على بعد ثلاثة ملايين سنة ضوئية ستكون سرعة ابتعاده بثلاثة أضعاف هذه السرعة، وهذا يؤيّد فكرة العالم الرياضي والراهب البلجيكي “لامتري” الذي ذكر بأن الكون في حالة اتسا (Expansion) دائم.
هذا المفهوم العلمي القائل باتساع المكان والذي لا يزال محتفظاً بثقله في المحافل العلمية، ذكره القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً. أمام هذه الحقيقة العلمية التي أعلنها أمّيّ، كان من المفروض على المحافل العلمية أن تنحني إجلالاً وتقول له “نحن تلاميذك” ولكن ما نراه الآن ليس إلا منظر جحود.
وتقول آية أخرى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَاْلأرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي ِلأجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ (الزمر:5). والتكوير في اللغة العربية تأتي بمعنى لفّ لباس كعمامة مثلا حول شيء دائري، أو دوران حول شيء دائري. وهكذا نرى أن الآية عندما تذكر “تكوير الليل على النهار والنهار على الليل” تشير بشكل واضح إلى كروية الأرض. ومن جهة أخرى نرى أن الآية رقم 30 في سورة النازعات توضح هذا المعنى بشكل أكثر فتقول: ﴿وَاْلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ (النازعات:30) أي جعلها كالدحية، والدحية هي بيض النعام. إذن فأرضنا هذه كرة مفلطحة، مضغوطة قليلاً من جهة القُطبين وهي تشبه بيضة النعامة. وقد أبان القرآن هذه الحقيقة بشكل واضح لا لبس فيه ولا يحتاج إلى أي تأويل.
من الممكن ذكر أمثلة كثيرة وآيات عديدة في هذا الخصوص ولكننا نكتفي هنا بهذه الأمثلة. كما قام القرآن الكريم بوضع بعض الأسس التربوية. ولكن عندما تركت هذه الأسس التربوية القرآنية وجرّبت النظم التربوية الأخرى التي وضعها علماء النفس وعلماء الاجتماع، رأينا أجيالاً من الشباب الضائع الغارق في المشاكل والمضطرب في تيار الأهواء ونوازع النفس. وستبقى الإنسانية تتجرع الآلام وتعيش في الأزمات طالما كانت بعيدة عن أسس التربية القرآنية. ولكن عندما تتصادق الإنسانية مع القرآن ستفهمه وتدرك مراميه وتستسلم له فتصل إلى شاطئ الأمن والطمأنينة. أي لن تجد القلوب ولا العقول غذاءها ولا سعادتها إلا عند توجيهات القرآن وأوامره.
لكل هذه الأسباب نقول: إن الزمن كلما شاخ وتقدم في العمر ونضج وتكامل وقرب من أشراط الساعة ومن “آخر الزمان” كلما لمعت حقائق القرآن كالنجوم اللامعة في كبد السماء بالنسبة للمحققين والباحثين، وتبينت سلامته ومتانته وعمق تعاليمه، وأصبح أكثر إقناعاً لقلوب الناس. فبعبارة أخرى كلما تقدم الزمن تجدد شباب القرآن، وانفتحت أبواب جديدة أمام العقل من دون تعطيل للإرادة الإنسانية، وسيهتف عند ذلك الكثيرون: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
بقلم/ فتح الله كولن