بقلم: مصطفى أونال
كانت وسائل الإعلام في الماضي تنقل لنا الصور من موائد الإفطار الفقيرة للسياسيين، فنجد رئيس الوزراء يجلس متربعًا مع أسرة فقيرة في كوخها ليتناول الحساء بشهية مفتوحة، وينظر إلى عدسات الكاميرات وهو يقبّل ابن صاحب البيت الفقير ويداعب شعر ابنته، بالطبع تذكرتم هذه المشاهد، وقد اتبع رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وزعيمُ حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليتشدار أوغلو هذا التقليد.
كان رمضان والصيام والإفطار وسيلة لانفتاح السياسيين على جميع فئات المجتمع على اختلاف أيديولوجياتها، فمناخ الصيام يرقق القلوب، ويحيي روح الأخوة، وكانت هذه المشاهد هي أساس نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات طيلة الفترة الماضية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]كان رمضان والصيام والإفطار وسيلة لانفتاح السياسيين على جميع فئات المجتمع على اختلاف أيديولوجياتها، فمناخ الصيام يرقق القلوب، ويحيي روح الأخوة، وكانت هذه المشاهد هي أساس نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات طيلة الفترة الماضية.[/box][/one_third]لكن حزب العدالة والتنمية تغيّر كثيراً في الآونة الأخيرة، ونسي موائد إفطار الفقراء، ولم يعد رئيس الوزراء يزور أكواخ الفقراء والمحتاجين، ليبدأ في حضور موائد إفطار الجمعيات والأوقاف، وانظروا بهذه النظرة إلى برنامج رئيس الوزراء في رمضان هذا العام إذا أردتم.
ولسنا مخطئين إن قلنا إن رئيس الوزراء انغلق على حيّه، ولم يستقبل على مائدته من لم يعجبه، وعلى سبيل المثال، أقام حزب العدالة والتنمية حفل إفطار في أنقرة، وطُبّق في حفل الإفطار هذا أسلوب منحاز، والذي لم يكن يخطر على بال أحد.
لقد تحولت موائد الإفطار إلى لقاءات انتخابية، حيث تم تدشين موائد رمضانية ضخمة في ساحات مفتوحة، وأنا لا أستغرب هذه الوسيلة الطبيعية للانتخابات؛ إذ أن السياسي يستغل كل مناسبة لتحقيق مصالحه السياسية، لكن المشكلة تكمن في أن “اللغة السياسية” الاستقطابية، الهادفة لإسعاد الأنصار فقط، لا تتوافق مع مناخ الرحمة في هذا الشهر الفضيل.
زاد ثراء قوائم الطعام، ويمكننا قراءة “التغير الكبير” الذي طرأ على الحزب الحاكم من خلال موائد الإفطار التي ينظمها، ويمكننا تطبيق المبدأ ذاته على البقية وليس حزب العدالة والتنمية فحسب، فقد ابتعد حزب الشعب الجمهوري عن موائد الإفطار منذ سنوات طويلة بحجة عجيبة مثل “عدم استغلال العلمانية أو الدين لتحقيق أغراض سياسية”، وأشهد أن الرئيس السابق للحزب دنيز بايكال يصوم رمضان كل عام، ولا أتذكر بالضبط عدد المرات التي التقينا فيها على مائدة الإفطار نفسها، وهذا ليس تقليدًا، بل ما يفرضه الدين، وكان بايكال يتجنب إظهار ذلك للرأي العام.
أما الرئيس الحالي للحزب كمال كليتشدار أوغلو فقد تصرّف بشجاعة، حيث ينظم موائد إفطار يشارك بها علماء دين وصحفيون منذ عامين، ولم يفعل الحزب ما فعله نظريه الحاكم، فدعا جميع المسؤولين الصحفيين لحضور حفل الإفطار الذي نظمه نهاية الأسبوع الماضي دون أن يستثني أحدًا، وكان عدد المشاركين لا بأس به.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لقد تحولت موائد الإفطار إلى لقاءات انتخابية، حيث تم تدشين موائد رمضانية ضخمة في ساحات مفتوحة، وأنا لا أستغرب هذه الوسيلة الطبيعية للانتخابات؛ إذ أن السياسي يستغل كل مناسبة لتحقيق مصالحه السياسية، لكن المشكلة تكمن في أن “اللغة السياسية” الاستقطابية، الهادفة لإسعاد الأنصار فقط، لا تتوافق مع مناخ الرحمة في هذا الشهر الفضيل.[/box][/one_third]وبدأت مراسم الحفل بتلاوة آيات من القرآن الكريم وإذاعة بعض الأناشيد الدينية، وتواصل بكلمات مقتضبة ألقاها علماء الدين أمام الحضور، وقال كليتشدار أوغلو في كلمته إن موائد الإفطار بدأت خلال فترة تولي حزبه السلطة، وكأنه يقول: “لقد تأخرنا”، وتوجّه بالحديث إلى علماء الدين قائلًا: “يا له من يوم جميل، يا ليت لدينا الإمكانية كي نجتمع سويًا في مناسبات أكثر، فنحن نعرف بعضنا بعضا من خلال الأحكام المسبقة والمفاهيم الراسخة في أذهاننا”.
وقد تطرق زعيم المعارضة في حديثه إلى قضية الحجاب، التي شغلت تركيا على مدار العقود الثلاثة الماضية، وذكّر الحضورَ بأن حزبه ناقش مسألة ارتداء المِلحفة في عهد الرئيس الأول كمال أتاتورك عام 1934، لكنه قرر عدم التضييق على النساء فيما يخترن من ملابس، هذه الرسائل مهمة، إلا أن “مائدة الإفطار” في حد ذاتها لها معان عميقة.
يعتبر اللقاء الذي جمع كليتشدار أوغلو مع علماء الدين على مائدة إفطار واحدة، دون تردد أو خشية، ودون النظر إلى عمائمهم ولحاهم، خطوةً كبيرة بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري، وإن كانت تعدّ خطوة صغيرة بالنسبة لتركيا، وقد سادت أجواء الصراحة بين الحضور من الجانبين، وقال علماء الدين ما يريدونه في وجه كليتشدار أوغلو .
وأريد أن أنقل لكم صورة من صور موائد الإفطار الأخرى، فقد بادر رئيس بلدية حي تشانكايا بالعاصمة أنقرة ألبير طاشدلن بنصب خيم إفطار في عدد من مناطق الحي، وربما كان هذا مألوفًا بالنسبة للمجتمع، لكن هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها حي تشانكايا حدثًا كهذا؛ إذ لم يبادر أي رئيس من رؤساء الحي المنتسبين لحزب الشعب الجمهوري قبل ذلك للقيام بهذه الخطوة التي سنّها طاشدلن، الذي وصل إلى منصبه بفوزه في الانتخابات المحلية الأخيرة التي أجريت يوم 30 مارس / آذار الماضي. ولم يكتفِ رئيس البلدية الجديد بهذا فحسب، بل أوصل الحقائب الرمضانية حتى القرى.
وخلاصة القول هي أن بإمكاننا قراءة التغيير الذي طرأ على الأحزاب من حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى حزب الشعب الجمهوري من خلال موائد الإفطار.