بقلم: سليمان صارجين
انغمس قوم سيدنا موسى عليه السلام في ظُلمات التمرد عقب انطلاقه نحو أفق روحه، واتخذوا من كنعان، المنطقة الواقعة بين لبنان وفلسطين، موطنًا لهم. وكانت تجاورهم دولة اسمها “العماليق”، وكان يرأس العماليق رجلٌ يُدعى جالوت. وكان حاكمًا ظالمًا غدّارًا عديم الرحمة؛ وسلّط الله تعالى جالوت على قوم بني إسرائيل، كما فعل مع كل الأقوام الأخرى التي حادت عن طريقه وبدأت في الاسترخاء والانكماش والابتعاد عن قيمه التي نظمت أُطر معيشتهم، ونزلت بهم هزيمة نكراء عندما قاتلوا جيش طالوت.
استولى جالوت على الصندوق المُسمّى بالتابوت الذي كانوا يعدونه شيئًا مُقدسًا، وما أن استعاد بنو إسرائيل عافيتهم حتى ذهبوا إلى نبيّهم وقالوا له: “ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” ، فأجابهم: “هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا” ، فقالوا: “وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ”. (سورة البقرة: 246)
ولم يرق لهم قول نبيُّهم: “إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً”، واعترضوا عليه قائلين: ” أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ”. قال: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ”. (سورة البقرة: 247-248)
وما أن رأى بنو إسرائيل التابوت الذي فقدوه تشجعوا من جديد، والتفّوا حول طالوت جيشًا وساروا نحو قبيلة العماليق، ساروا في طريق طويل ومداه بعيد ولم يكن به ممرات، وقد جمع طالوت جنوده قبل أن يتأهب للخروج لهذه الرحلة الطويلة، وخطب فيهم خُطبة مؤثرة، وحذرهم قائلًا: “سنصادف نهرا بارداً فى الطريق، وإني أعلم أنكم ستعطّشون كثيراً حتى الوصول إليه، فمن شرب منه فليخرج من الجيش، ومن لم يذقه إلا غرفة بيده فليبق معي فى الجيش، لأني سأواصل الطريق مع أولو العزم والإرادة العظماء الذين لا يشربون من الماء إلا غرفة بأيديهم، وذلك هو نذر النفس في سبيل الله.
والهدف الأساسي هنا هو عدم التفكير في الحصول على أية مصلحة شخصيّة بأي شكل من الأشكال، وهم يسعون في سبيل الجهاد ومن أجل الخدمة.
وكان طالوت أعدّ هذا الاختبار ليعلم من سيطيعه من الجنود ومن سيعصاه، وليعرف أيهم أقوى إرادة، وكان يريد أن يواصل سيره مع مثل هؤلاء الأبطال، إذ لم يكن لمن سوّلت لهم أنفسهم وشربوا أكثر من حفنة ماء بارد أن يواصلوا الطريق مع هؤلاء الشجعان في طريق محفوف بالمخاطر، فماذا يمكن أن يفعل من يفقد صوابه واهتزت إرادته أمام حفنة ماء، في سوقٍ تباع فيها الأرواح لبارئها؟ وكيف يتم الاعتماد على مَن تميل نفسه لمال الدنيا ويصرف عمره في جمع الثروات وينتظر لقاء كل ما أسداه من خدمة في الدنيا! وهل بوسع عُبّاد الثروة والصيت والشهوة أن يعوا جيّدًا المعنى العميق لعبودية الواحد الأحد؟
لم يخاطب طالوت رفقاء دربه فحسب، وإنما كانت تلك خطبة موجّهة لأبطال كل العصور أصحاب المُثل العُليا، خطابه كان لجميع الذين كرّسوا أنفسهم من أجل رسالته التي خرج من أجلها، وبما أنهم كانوا رجال طريق الحق فإنهم إذن كانوا مستعدين لأي ابتلاءات قد يتعرّضون لها، إذ لم يقتصر الابتلاء على النهر فقط.
عندما وصل الجنود إلى مقدمة النهر شربوا منه إلا قليل منهم؛ إذ عجزوا عن أن يصمدوا أمام تلك المياه الجميلة الرقراقة وانهزموا أمامها، وبقي إلى جانب طالوت حفنة من الأبطال المغاوير، واصل معهم دربه، وما أن عبر الضفة الأخرى للنهر والتقى جيش جالوت، انتاب جنود طالوت خوف عظيم، كان جيش طالوت قليلا وجيش العدو كثيرا وقويا، فشعر بعض هؤلاء الصفوة أنهم أضعف من جالوت وجيشه، وقالوا: “(لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)، وحينها بدأ ابتلاء الخوف، إلّا أن النجاح الحقيقي هو هزيمة الخوف، وعدم السماح له بالسيطرة عليهم.
كان طالوت واثقا من مهمته وصحة رسالته، وسرعان ما جمع جنوده أمامه، وقال لهم: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)، فرُبَّ جماعات صغيرة استهان بها العدو، هزمت جيوشاً جرّارة بمشيئة الله، والنصر ليس بالعدة ولا العتاد وإنما النصر من عند الله فاثبتوا. “إن الله مع الصابرين”.
نعم، كل هذه الابتلاءات كانت تحتاج إلى صبر ورباطة جأش، كان يجب الصبر على الضعفِ والهوان والعجز والبقاء في العزلة، وكان يجب أيضًا تحمّل هجوم العدو الخادع دون الانشغال بقلة عدد الجنود، رجولة الدعوة والتضحية والتطوّع وروح الاستغناء عن الناس والاعتماد على الله كانت تقتضي ذلك.
استعاد الجنود حالتهم النفسيّة من جديد، ورفعوا أيديهم إلى السماء، وشكوا حالهم إلى القادر القهار لِيُعينهم، وطلبوا الصبر والتحمل من مالك الملك، وخشوا أن تتعثر أو تذل أقدامهم بعد طول طريق قطعوه .. (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
وهنا برز من جيش طالوت فتىً، هو داود عليه السلام، كان داود مؤمنا بالله وكان يعلم أن العبرة ليست بكثرة السلاح ولا ضخامة الجسم وخداع المظهر، وبينما كان القتال على أشدّه ضرب داود جالوت في وسط جبهته بحجر فسقط قتيلًا؛ الأمر الذي أدّى إلى فرار جيش جالوت بعدما شعروا بخوف شديد، وكان النصر حليف هذه الحفنة من الأبطال، وانتصر جيش طالوت على جيش جالوت، وأظهر الله تعالى للجميع أن القوّة والثراء والغطرسة والاستكبار وحب الذات والمفاخرة لا تنفع ولا تفيد، فالله وحده من يعلم القويّ مِن الضعيف، وهل رأيتم الله تعالى لا يستجيب لمن توكل عليه وقرع مِطرقة بابه بلسان العجز والفقر؟ هذا كان نصر من كبحوا ملذات ميلهم إلى الدنيا، وهزموا الخوف الذي كان يراودهم لأن العدو أكثر منهم عددا وطرقوا باب الله بالصبر، لقد انتصر الأقوياء الحقيقيون مرة أخرى.
ودار اسم سيدنا داود على ألسنة الجميع بعدما قتل” جالوت”، وبدأ الناس يكنون له كل الحب والاحترام والتقدير، لقد وهب الله تعالى داود العلم والحكمة، واختاره نبيًّا، وعقب وفاة طالوت، اتخذ بنو إسرائيل داود ملكاً، وحكمهم طيلة 40 عامًا ملكًا ونبيًّا، واستطاع أن يوسّع من رقعة حدوده حتى وصل إلى أرمينيا، وشرع في إنشاء المعبد الكبير الذي نطلق عليه اليوم” المسجد الأقصى”، وكان إتمامه من نصيب سليمان عليه السلام.
وقد حظي سيدنا داود بالزبور، أحد الكتب السماويّة الأربعة، ولم تكن هناك أحكام شرعيّة في الزبور، لأنه عمل بشريعة سيدنا موسى، وكان الزبور كتابًا للأدعية والتضرع لله عزّ وجل.
كان سيدنا داود يتردد بكثرة على الجبال ويقرأ آيات من الزبور بمزماره، وكان صوته عذبًا جميلًا يسر الطيور والبلابل، وتشاركه الأشجار والطيور عند قراءته، وهذا النبي العظيم صعدت روحه إلى الرفيق الأعلى وهو في سن المئة بعدما أدّى مهمته وبلّغ رسالته التي استمرت 40 عامًا.
(قصة طالوت وجالوت مذكورة في القرآن الكريم في سورة البقرة الآيات 246-252).
صحيفة” زمان” التركية