الطب بين المادي والمعنوي
وإذا كان كما قيل: العلم علمان؛ علم الأبدان وعلم الأديان، فإنه يتبادر إلى الذهن أن الطب يمكن أن يعرض على شكلين اثنين؛ طبٌّ مادي يستعمل الجراحة والعقاقير، وطبٌّ معنوي ينطلق من الذهن والإرادة العازمة إلى الخشوع والتفكر العميق بمقتضى عقيدة معينة ومعرفة راسخة. فقد استفاد مالك بن نبي من الهندسة في تنظيم وتحليل الأفكار، واستفاد الدكتور زغلول النجار من العلوم والجيولوجيا في دراسة الأفكار وبالذات في تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم. كما استفاد أيضًا، الطبيب والجراح “ألكسيس كاريل” من تعرّفه على الإنسان، فخرج لنا بتلك الفلسفة الناقدة والناقمة على المدنية الغربية، مقترحًا رؤية جديدة لحياة الإنسان.
فهناك أزمة الضمير والوجدان البشري الذي لم يذق طعم الراحة والسعادة رغم كل هذه التيسيرات المادية الهائلة. إنه مريض يعاني من مرض عضال قد استعصى حله. وكل ما نرى في واقع الحياة البشرية، إنما هو من نتائج هذه الأزمة. وإنك لتسمع صيحات الخطر والإنذار من العقلاء في الأرض جميعًا من الشرق والغرب على حد سواء، ومن أبرزها صيحة الدكتور “ألكسيس كاريل” الفرنسي الذي قضى عمره في دراسة الطب في كتابه “الإنسان ذلك المجهول”، ودعا فيها إلى تغيير الحضارة التي نعيشها وإبراز فكرة أخرى للتقدم البشري.
إن منشأ هذه الأزمة هو أن كل ما درس عن الإنسان ناقص مشوّه، وخاصة في علم النفس الذي اعتبر علمًا خاضعًا للدراسة، فقد كان العلماء يتعثرون جدًّا فيه كما تضاربت نظرياتهم وآراؤهم، والسبب في ذلك هو أن عالم النفس ليس كعالم المادة، فدراسة المادة بلغت حدًّا هائلاً من التقدم، ولكن علم النفس يقف كالقزم المشوه الصغير أمام دراسات عالم المادة.
هذه الأزمة هي أزمة الشرود عن الله تعالى، هي المعرفة الناقصة المشوهة التي ليس لها علاقة بالذي صمم هذا الوجود وفطره… فجل الأطباء الذين يدرسون في كليات الطب، يكتسبون أكداسًا من المعلومات المفرقة المجزأة، لا يشعر الإنسان بعد أن ينتهي منها بالقصد والتصميم في خلق الإنسان العجيب. وكان لهذه الدراسة النتائج السيئة في العقل والقلب، وأعطت نتائج معاكسة للشيء الذي يجب أن يصل إليه الدارس للطب.
أولاً: أهملت الدراسة النفسية الروحية في الطب. فالدراسة المادية واسعة جدًّا وكل فرع له كتابه، بل كتبه التي لا تنتهي، أما الدراسة النفسية والروحية فكتاب واحد صغير أو ملخصات بسيطة، وهكذا يخرج الذي يدرس هذه المادة وهو متضخم في جانب وضامر بشدة في جانب آخر.
ثانيًا: إن الدراسات والأبحاث في هذا المجال، كأنها تتعمد إغفال محصلة هذه الأبحاث وتجعله يخرج بنتيجة سلبية عما رأى وعاين، ومع هذا فإن الفلتات تبدو هنا وهناك، وهي تقر وتعترف -ولو رغمًا عنها- بعظمة الإحكام والبناء وروعة التناسق والعمل… فالذي يعلم أن هناك ثلاثة عشر مليار خلية عصبية، تعمل بشكل دقيق محكم متناسق متعاون لتأدية الأغراض الحيوية والفكرية، فالإنسان يدهش للرقم أولاً ثم لكيفية عملها وترابطها وإبداعها.
فالطب الإسلامي يتميز عن غيره بصورة الإنسان الشاملة المتكاملة الجامعة للجسم والنفس والعقل والقلب والروح، كوحدة متماسكة لا تتأثر بتغييرات التيارات الفكرية المتقلبة والمحدودة في قفص المادة أو النسق المذهبي كما هو الحال في الغرب. فلو نظرنا إلى المدارس العلمية والطبية والفلسفية والنفسية الغربية، لوجدنا أنها ما زالت تبحث عن صورة الإنسان التي يقول عنها الفيلسوف الألماني “كارل جاسبرز” (Karl Jaspers): إنها بعيدة المنال صعبة الإدراك، تنفلت من قبضة البحث. وكما هو موقف “كاريل” من الإنسان الغربي، فالفكر وراحة البال والرجاء والتفاؤل وأداء العبادات والجمع بين الطب المادي والطب المعنوي اتباعًا للسنـة النبوية، كلها تعيدنا إلى النظرة الشمولية، حيث أثبتت التجارب الحديثة صحة دور العلاج الروحي -فيما يتعلق بالإرادة والتأمل والخشوع- في شفاء كثير من الأمراض. فقد شرع بعض الأطباء في إجراء اختبارات، لرؤية ما يحدث في الجسم من تغيرات بيولوجية وكهربائية إثر تركيز الفكر في التأمل والخشوع في الصلاة حتى يقوم البرهان على المنفعة العلاجية للوسائل الروحية.
الصلاة والشفاء من الأمراض
وأثبتت التجارب فعالية الصلاة في الشفاء من كثير من الأمراض كما يقول الدكتور كاريل: “لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت إلى يومنا هذا. وقد رأيت -بوصفي طبيبًا- كثيرًا من المرضى فشِلت العقاقير في علاجهم، فلما رفع الطب يديه عجزًا وتسليمًا، دخلت الصلاة فبرأتهم من عللهم”. ويقول الأخصائي في جراحة العيون الدكتور محمد السقا: “إن الصلاة هي الدواء الناجح والشفاء الرباني لكل أمراض الدنيا البدنية والعضوية والنفسية والعصبية، وفيها الوقاية من حدوث كل هذه الأمراض… ففي عملية الصلاة تتحرك كل عضلة من عضلات الجسم وفي هذا صيانة لها وتدريب لتقويتها”.
وفي تحديد العلاقة بين الطب والإيمان، نذكر هذه القصة الشاهدة على الارتباط الوثيق بين الطب والإيمان. يقول الدكتور الأمريكي “بول إرنست أدولف”: “عندما كنت أعمل جراحًا في إحدى المستشفيات، جاءتني ذات يوم جَدّة جاوزت السبعين تشكو من شدخ في عظام ردفها، وبعد أن وضعت فترة تحت العلاج أدركت من فحص سلسلة الصور التي أخذت لها على فترات تحت الأشعة أنها تتقدم بسرعة عجيبة نحو الشفاء، ولم تمض أيام قليلة حتى تقدمت إليها مهنئًا بما تم لها من شفاء نادر عجيب. عندئذ استطاعت السيدة أن تتحرك فوق المقعد ذي العجلات، ثم سارت وحدها متوكئة على عصاها… وقررنا أن تخرج تلك السيدة في غضون أربع وعشرين ساعة وتذهب إلى بيتها، فلم تعد حاجة إلى بقائها في المستشفى.
وكان صباح اليوم التالي هو الأحد، وقد عادتها ابنتها في زيارة الأحد المعتادة، حيث أخبرتها أنها تستطيع أن تأخذها (والدتها) في الصباح إلى المنزل لأنها تستطيع أن تسير متوكئة على عصاها. لم تذكر لي ابنتُها شيئًا مما جال في خاطرها، ولكنها انتحت بأمها جانبًا وأخبرتها أنها قد قررت -بالاتفاق مع زوجها- أن يأخذاها إلى أحد ملاجئ العجزة. ولم تكد تنقضي بضع ساعات على ذلك، حتى استدعيت على عجل لإسعاف السيدة العجوز. ويا لهول ما رأيت… لقد كانت المرأة تحتضر، ولم تمض ساعات قليلة حتى أسلمت الروح. إنها لم تمت من كسرٍ في عظام ردفها ولكنها ماتت من انكسارٍ في قلبها. لقد حاولت دون جدوى أن أقدم لها أقصى ما يمكن من وسائل الإسعاف ولكن دون جدوى. إن أهم عامل في شفائها لم يكن الفيتامينات ولا العقاقير ولا التئام العظام، ولكنه الأمل… وعندما ضاع الأمل تعذر الشفاء.
الطاقة الروحية
ومن هنا ندرك تلك الصلة التكاملية بين الإيمان وعلم الطب، فقد يحدث الإيمان في شفاء الأمراض ما لا يحدثه الطب. فإننا نشق طريقنا نحو الشفاء، وبخاصة إذا كان العلاج الروحي مصحوبًا بتناول المواد ضد الحامضية وغيرها من العقاقير التي تساعد على الشفاء من هذه القرح”.
ولقد أخذت هذه الفكرة الأخيرة تتبوأ -تدريجيًّا- مكانًا مرموقًا عند عدد وافر من الأطباء في العالم كله عندما يقولون: لو علم الناس ما للطاقة الروحية من فائدة علاجية على الجسم والنفس، لتخلوا واستغنوا عن استعمال كمية وافرة من الأدوية التي في معظمها لا تعالج إلا الأعراض، ولا تنفذ إلى الأسباب بأي وجه من الوجوه.
وليس المقصود من كلامنا التقليل من أهمية دور الطب والأطباء والدواء، ولكن نبين أن الجسم يجب أن يعتمد على نفسه لكي يرجع إلى حالته الطبيعية ويستعيد توازنه مما يتطلب طاقة روحية ونفسية، وهو الأمر الذي أمسى معروفًا لدى أطباء الغرب والشرق في هذا العصر. ولا زلنا نجهل الكثير من قدرة الروح وتأثيرها في سير وظائف الجسم، لهذا فلو رجعنا إلى تاريخ الأطباء المسلمين في العصور الذهبية، لوجدنا أنهم تحلوا بالإيمان والتقوى والورع والأخلاق الحميدة… فكان الطبيب المسلم يتحلى بالأخلاق الطيبة والتقوى.. وبهذا الصدد يقول الطبيب يعقوب بن إسحاق الكندي نقلاً عن كتاب “السلوك المهني للأطباء”: “ليتق الله تعالى المطبب، ولا يخاطر فليس عن الأنفس عوض…” ويوصي ابن سينا صديقه أبا سعيد بن أبي الخير الصوفي نقلاً عن كتاب “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”: “ليكن الله تعالى أول فكر له وآخره، وباطن كل اعتبار وظاهره، ولتكن عين نفسه مكحولة بالنظر إليه، وقدمها موقوفة على المثول بين يديه، مسافرًا بعقله في الملكوت الأعلى وما فيه من آيات ربه الكبرى… ومعرفة الله أوّل الأوائل، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه”.
فالعلاقة وثيقة بين الطب والإيمان، وإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تنفصل هذه العلاقة، وإلا يصير المرء كمن يسير بسيارة في الظلمات، ويبقى مهددًا بالخطر على الدوام… قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾(الشعراء:78-80).
بقلم/ العطري بن عزوز