(زمان التركية)-نشر موقع أحوال تركيا مقالاً مطولاً حول الأزمة السياسية التي تمر بها تركيا بقلم كاتب وأكاديمي وباحث تركي غوكهان باجيك.
وإليكم المقال:
الأزمات الاقتصادية ليست بالشيء الجديد على تركيا، فقد عايش الأتراك العديد من مثل هذه الأوضاع الصعبة في العقود الأخيرة.
وعلى الرغم من وجود اختلافات بين كل أزمة اقتصادية وأخرى، فإن جميعها تتقاسم العديد من العوامل المشتركة. ومن بينها، يبرز بشدة عامل فشل الدولة في الحفاظ على ما يطلق عليها السياسات المؤيدة للسوق، إذ يبدو أن هناك تقليدا ما لدى الدولة التركية يدفعها لعدم ترك أي مساحة لعمل الكيانات الاقتصادية المستقلة بحرية وفعالية.
وعمل حزب العدالة والتنمية الحاكم لبعض الوقت على إضعاف بيئة السوق في تركيا، ولعبت تلك السياسة بجانب عدد من العوامل الدولية، دورا رئيسيا في الأزمة الاقتصادية الحالية. لكن من المنظور التاريخي، فإن الأمر يعود في الحقيقة إلى ذلك التقليد الذي تتبناه الدولة التركية في انتهاك قواعد السوق عندما يكون القادة السياسيون في حاجة إلى ذلك.
في الوقت نفسه، كان للمجتمع التركي، الذي يفتقر إلى وجود طبقة برجوازية قوية على النمط الأوروبي، دور في تمكين الدولة من تدمير بيئة السوق دون أي مقاومة اجتماعية كبيرة.
وذلك لأن قطاعا كبيرا من شعب الأناضول لا يزال يمكن تصنيفه كقرويين أو سكان بلدات صغيرة أو حتى سكان مدن دخلوا حياة الحضر حديثا، فيما يفتقر المجتمع بشكل كبير إلى تلك النخب الاجتماعية التي تتميز بها المجتمعات الأوروبية. ونتيجة لذلك، لم تكن هناك أبدا في تركيا طبقة اجتماعية قوية قادرة على إجبار الدولة على تبني موقف مؤيد للسوق أو مؤيد للعمالة.
وتعكس الأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا أيضا هذه المعضلة الكلاسيكية للدولة. فمثلما كان الأمر في الحالات السابقة، دمرت حكومة حزب العدالة والتنمية جميع الأسس السليمة التي تقوم عليها العلاقة بين الدولة والاقتصاد.
واليوم، لم تعد الدولة الخاضعة لسيطرة حزب العدالة والتنمية قادرة على الحفاظ على علاقة سوية مع الاقتصاد، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى مشكلتين رئيسيتين: التوسع المفرط لهيمنة الدولة والزيادة غير الطبيعية في الإنفاق العام.
وأدى ذلك التوسع الهائل للدولة إلى إفساح المجال لنموذج من التنمية غير العقلانية يمكن أن يطلق عليه من قبيل السخرية اسم “نموذج التنمية الفاخرة”، ويتمحور مثل هذا النموذج عادة على تحقيق أهداف طموحة وغير مجدية في الأغلب مثل بناء مستشفى لكل بلدة أو تشييد مطار لكل مدينة.
ويطبق بالفعل العديد من رؤساء البلديات ممن يملكون مثل هذه “الأفكار العبقرية” لمدنهم هذا النموذج بحذافيره، لدرجة أنهم لن يتوانوا عن إنفاق ملايين الدولارات على تنفيذ مشاريع من نوعية خطوط التلفريك والترام وشلالات المياه الاصطناعية.
وإذا ما تجوّلت في أرجاء تركيا، فسوف يمكنك بسهولة تمييز الكثير من تلك “المشاريع العملاقة” الفاشلة التي تكلفت المليارات، مثل حلبة سباق فورمولا 1 في إسطنبول أو مطار ظافر في بلدة كوتاهيا بغرب البلاد.
فحلبة سباق فورمولا 1 في إسطنبول، على سبيل المثال، تكلفت نحو 250 مليون دولار وتستخدم حاليا كمرآب للسيارات. أما مطار ظافر، الذي كان من المفترض أن يكون رابع أكبر مطار في تركيا، لا يستقبل سوى 5 في المئة أو أقل من العدد المتوقع للمسافرين من خلاله.
وبالإضافة إلى الزيادة غير الاعتيادية في الإنفاق الحكومي، فإن ما يبعث على القلق بدرجة كبيرة هو ضعف الدولة والتدمير الممنهج للأسس القانونية لاقتصاد السوق، وهي عوامل تضر كثيرا بالعديد من الشركات التركية التي تسعى إلى الإنتاج والتصدير دون الاستعانة بالأموال العامة.
وبالتالي، في حالة الدولة التي يديرها حزب العدالة والتنمية، فإننا نواجه في الأساس مشكلتين رئيسيتين مرتبطتين ببعضهما البعض، فالدولة لا تكتفي حاليا بتوسيع هيمتنها وسيطرتها على مقاليد الأمور الاقتصادية فحسب، وإنما أيضا تعمد إلى تدمير الأساس المعياري لاقتصاد السوق. وبطبيعة الحال، تتسبب تلك السياسات التعسفية للدولة في إثارة الذعر بين رجال الأعمال في جميع أنحاء البلاد.
وكعادتها، تعجز الدولة التركية مجددا عن إدراك أن إدارة الشؤون الاقتصادية ليست فقط عملا يتطلب جهدا مكثفا، وإنما أيضا فنا يتطلب بعضا من الرؤية الفكرية.
فأي نشاط اقتصادي صحي أصبح مقرونا في عالمنا اليوم بتمتع القضاء والصحافة والدوائر الأكاديمية بالاستقلالية والحرية والحماية القانونية. وللأسف، أصبح مصطلح “الاستقلالية” غير موجود في قاموس تقاليد الدولة التركية.
ولجأ بالفعل العديد من رجال الأعمال إلى الهروب بثرواتهم واستثماراتهم إلى بلدان أخرى بعد أن أصابهم الإحباط جراء التدخلات التعسفية الأخيرة للحكومة في الأسواق. وبالمثل، فإن العديد من الأشخاص المتعلمين ذوي المهارات العالية والذين يعتمد عليهم الاقتصاد التركي بشدة غادروا البلاد بأعداد كبيرة في الفترة الأخيرة.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تعد العودة إلى السياسات التي تراعي اعتبارات السوق احتمالا واقعيا في ظل هذه الظروف؟
الجواب هو “لا” لأربعة أسباب:
أولا، يتطلب هذا التحول من الرئيس رجب طيب أردوغان الاعتراف بأن سياساته الاقتصادية قد فشلت. وأردوغان لن يفعل ذلك أبدا.
ثانيا، زيادة الإنفاق الحكومي هو شريان الحياة لشبكة كبيرة يسيطر عليها أنصار حزب العدالة والتنمية، ولن تقبل أبدا هذه الشبكة الضخمة المتشابكة، والتي تعتمد في عملها ببساطة على استنزاف الأموال العامة، بالعودة إلى نظام تنافسي ذي توجه سوقي.
ثالثا، بالنظر إلى أن الكيانات الاقتصادية الحقيقية تمر بأزمة عميقة، فإن مسيرة التنمية الاقتصادية في تركيا تتواصل بشكل رئيسي بالاعتماد على الإنفاق العام في تركيا. وبالتالي، فإن التوقف عن هذه السياسة سيكون انتحارا بالنسبة لحزب العدالة والتنمية. فالحزب الآن يشبه رجلا يعيش بسكين مغروزة في بطنه لكنه يتحمل الألم رغما عنه لأن إزالة السكين تعني موته بسبب فقدان الدم.
رابعا، أصبحت تركيا الآن دولة استبدادية. ويتطلب التحول إلى سياسات مواتية للسوق درجة معينة من تطبيع الأوضاع، أو بعبارة أخرى الأخذ بالديمقراطية، وهو ما قد يكون أيضا بمثابة انتحار سياسي بالنسبة لأردوغان.
أخيرا، الأيديولوجية أيضا لها أهميتها. فحزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي له أجندة محددة تسعى لأسلمة تركيا، وهو ما يتطلب فرض درجة معينة من الاستبداد. ويجب ألا ننسى أبداً أن الإسلام السياسي ينظر إلى الدولة باعتبارها المحرك الرئيسي للتغيير الاجتماعي. ولذلك، فإن الإسلام السياسي دائما ما يسعى إلى إرساء سيطرة الدولة على الاقتصاد، سواء في شكلها الراديكالي أو الشعوبي.