القاهرة (زمان التركية) – عقب قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض حزمة قوية من العقوبات على تركيا على خلفية احتجازها القس الأمريكي أندرو برونسون، يبدو أن الأزمة تتجه نحو مستقبل غير سار على صعيد العلاقات بين البلدين والتي يمكن وصفها في بعض جوانبها بالعلاقات الإستراتيجية، ويتماشى ذلك مع حالة التشدد التي تخيّم على الطرفين، فقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر عام لحزب العدالة والتنمية بـ” أن تركيا لن تستسلم لمن يظهر نفسه كشريك استراتيجي ثم يحولها إلى هدف استراتيجي، وإن تركيا لن ترضخ لأولئك الذين أسسوا نظام رخاء لأنفسهم من خلال استغلال العالم”.
وفي البيت الأبيض قال الرئيس ترامب أمام اجتماع لأعضاء إدارته بـ” أن الولايات المتحدة لن تستكين لتصرفات تركيا لأنها لا تتصرف كصديق لأمريكا”، متوعدا أنقرة بمزيد من الإجراءات العقابية وتشديدها في حال لم تفرج عن القس.
ولا شك أن تلك العقوبات قد أوجعت تركيا، إلى الحد الذي قاد بالقصر الرئاسي إلى مناشدة دولة قطر لإنقاذ العملة التركية التي انخفضت إلى مستويات قياسية، مما أشاع حالة من الذعر لدى المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال من سيناريو الانهيار. فلم يسبق لتركيا أن واجهت أزمة بهذا المستوى ومن هذا النوع ومع دولة بوزن الولايات المتحدة التي تتزعم النظام العالمي.
عبء الماضي
لم تكن العلاقات التركية – الأمريكية حميمية أبدا، وذلك عند النظر إليها من الناحية التاريخية، فالخلافات في وجهات النظر وعلى مستوى التقييمات الشاملة للسياسات بين البلدين، قد تمخضت عنها ضبابية العلاقات الثنائية، والتأرجح في مسارها ما بين التعقيد والسلاسة، وقد لعبت الضرورات الأمنية التي نشأت بفعل الحرب الباردة الدور الأكبر في تقريب تركيا من الغرب بإدخالها ضمن حلف شمال الأطلسي بموجب استراتيجية الاحتواء والتطويق الإستراتيجي التي أعلنتها الولايات المتحدة ضد السوفيات، وبذلك دخلت تركيا ضمن الحسابات الإستراتيجية الأمريكية باعتبارها إحدى الأوراق الرابحة في المواجهة مع السوفيت. ولا ريب أن الأهمية الإستراتيجية لتركيا بهذا النحو كانت مرهونة بالحالة السائدة في العلاقات بين الأمريكيين والسوفيات، ففي ذلك الوقت حاولت تركيا التحرك في ملف قبرص وهو الأمر الذي رفضه الأمريكيون، مما آذن بتأزم العلاقات بين أنقرة وواشنطن خلال الستينيات والسبعينيات مع تداخل عناصر عديدة وسّعت من مستوى الخلاف والجفاء بينهما، في أعقاب الحرب القبرصية، حيث حظرت الولايات المتحدة تصدير الأسلحة إلى تركيا وفرضت عقوبات بحقها، وسادت مشاعر الصخب والعداء للولايات المتحدة في تركيا على خلفية ظهور حركات اليسار المتطرف في السلطة السياسية في واشنطن.
وعندما نجحت الثورة الإيرانية بإسقاط نظام الشاه عام 1979 دخلت العلاقات الأمريكية – التركية في سياق الاختبار ، فقد انهار التوازن الإستراتيجي القائم في الشرق الأوسط، وتعرضت الإستراتيجية الأمريكية إلى نكسة كبيرة، الأمر الذي دفعها إلى التوجه نحو تشكيل قواعد أمنية وعسكرية جديدة في المنطقة لمواجهة إيران، ولكن تركيا امتنعت عن تأييد تلك الترتيبات ووقفت على الحياد، فشعر الأمريكيون بخيبة أمل تجاه مكانة تركيا وانخفضت أهميتها الإستراتيجية لدى واشنطن، واستمرت حالة التباعد بينهما وصولا إلى حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت عام 1991 حيث سارعت حكومة تورغوت أوزال إلى دعم التحالف الأمريكي ضد العراق وفتحت قواعدها العسكرية للقوات الأمريكية وقوات الناتو، وآنذاك سعت تركيا لتوظيف نفسها لإنجاح سياسة الاحتواء ضد العراق، الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة إلى تأييد الوجود العسكري التركي في شمال العراق والسعي لإقامة حزام أمني بحجة مواجهة تهديدات حزب العمال الكردستاني. وعندما قررت الولايات المتحدة غزو العراق عام 2003 لم ينجح حزب العدالة والتنمية في تمرير قرار تأييد الحرب في البرلمان، فزاد السخط الأمريكي على تركيا وأُبعدت من الحسابات الأمريكية بشأن ترتيبات ما بعد صدام في العراق.
بعد التغيير الذي حصل في العراق، حاولت أنقرة استمالة واشنطن بشأن تسويات العراق، وقد كانت تركيا تتوجس من إمكانية استخدام الولايات المتحدة للورقة الكردية وسيلة ضغط تجاهها، والحقيقة أن ملف الأكراد لطالما اعتبر أحد الملفات الشائكة ومثار تناقض دائم في مسار العلاقات بين تركيا وواشنطن. ولعل ما ضغط أكثر على تلك العلاقات هو محاولة تركيا أداء دور في العراق يتجاوز ما هو مفهوم عادة بحماية الأمن القومي ورعاية الاستقرار والأمن الإقليمي، غير أن الولايات المتحدة كانت تتجنب الصراع الحاد مع تركيا وتتجنب تجاوزاتها الدبلوماسية والسياسية في محاولة لتحقيق نوع من الموائمة ضمن محركات الصراع المضطرد بين السعودية وايران.
ومنذ اندلاع الأزمة في سوريا مروراً بتشكيل الولايات المتحدة تحالف دولي لقتال تنظيم داعش في العراق وسوريا، انعطفت العلاقات التركية – الأمريكية في مرات عديدة نحو التناقض والخلاف، وسادتها أجواء من الاتهام والتجريح. وقد وصل الأمر ذروته في أكتوبر/تشرين الأول 2017 عندما أوقفت الولايات المتحدة الخدمات القنصلية الأمريكية في تركيا، على خلفية صدور حكم قضائي بحق موظف في القنصلية الأمريكية بإسطنبول بتهمة الجاسوسية. وفي المقابل ردت تركيا بالمثل بإيقاف اصدار التأشيرات للأمريكيين، مما أضاف مزيدا من التعقيد للموقف.
ويصح القول بأن العلاقات التركية – الأمريكية تندرج ضمن الدوائر القابلة للانفجار في أي لحظة ومع أبسط احتكاك.
الأساسات المنطقية
يقول خبراء السياسة والاقتصاد في الغرب بأن الولايات المتحدة الأمريكية لطالما كان لديها قائمة متنوعة من التحفظات بشأن سياسات تركيا، إذ أن هناك مقولات سائدة في الأوساط الدولية والإقليمية بأن تركيا تحاول استخدام بعض أدوات السياسة الخارجية في سياق إعادة تشكيل قواعد ومؤسسات النظام الدولي، عبر التحالف مع روسيا وإيران والصين.
تقوم سياسة تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان على تأمين القدر الأكبر من النفوذ الإستراتيجي للبلاد وفق مقتضيات صيانة مصالح الأمن القومي التي ينادي بها حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة، ومرد ذلك إلى تصور ثابت في صميم العقيدة السياسية الأردوغانية، حيث ينطلق من أهمية الوضعية الجيوبوليتيكية لتركيا في السياسة العالمية، والتي أرخت بظلالها على تحديد خيارات السياسة الخارجية وصياغتها، بل وكان لها بالغ الأثر على صعيد أولويات الإستراتيجية الإقليمية التركية من جهة، وعلى نمطيتها الوظيفية في مسرح السياسة الدولية من جهة أخرى. وكل ذلك كان مدفوعا باعتبار أن تركيا دولة كبرى لا ينبغي الاستهانة بها، وليس من المقبول تجاهل دورها في أي حسابات استراتيجية إقليمية ودولية. والحقيقة أن هذا الدور الذي تولته تركيا قد أكسبها زخما ملحوظا مما ساعدها في توسيع ساحات تأثيرها وبناء محاور وتحالفات لجهة التأثير في موازين القوى، في ضوء تنامي حركة الاستقطاب الدولي والإقليمي، ولكن هذا المنطق تجاوزته الظروف الموقفية الحاكمة للسياسة الدولية، حيث أدى تشعّب المصالح لدى تركيا إلى تصادمها مع مصالح القوى الدولية والإقليمية الأخرى، وهو ما بدا جليا في كثير من التصدعات في صرح العلاقات الثنائية بين تركيا والولايات المتحدة من جهة، وبين تركيا وأوروبا من جهة ثانية، وبين تركيا ودول عربية – خليجية من جهة أخرى، حيث لا تزال تطارد ذلك الصرح التناقضات والتعرجات وفقاً لتعقيدات الحالة السياسية الدولية، وهذا ما يعطي حكومة أنقرة تحذيرا استراتيجيا كافيا لجهة إحداث تغيير جذري في سياستها.
الشرق الأوسط تحديدا، هو المسرح الواقعي للكثير من التناقض في علاقات تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية، بحكم التأثير الكبير لتفاعلات الشرق الأوسط على مستوى الشؤون الإستراتيجية العالمية برمتها، فقد كشفت الأزمة السورية عن حجم التصدع والضغط الهائل للعلاقات بين البلدين، والذي اكتنفه الكثير من فقدان الثقة بينهما. وجو هر المسألة أن تركيا تسعى بشكل قوي للاستفادة قدر الممكن من حالة الضعف الإستراتيجي التي اتسمت بها المنطقة عقب الثورات العربية، ولقد ارتبطت تلك التحركات بتوجهات من قبيل العمل المباشر وبمعزل عن توجهات السياسة الدولية، ولسبب ما، اتجهت الولايات المتحدة نحو دعم فصائل كردية بالأسلحة والمعدات للمشاركة في قتال داعش، في حين رفضت واشنطن مقترحات تركية متكررة لبناء منطقة عازلة في شمال سوريا.
بالنسبة لتركيا، هناك معادلة واضحة، فتعزيز العلاقات الأميركية مع الأكراد هو نذير خطر حقيقي يهددها، باعتباره أداة مفتوحة لكل أوجه الاستغلال ضد تركيا، وهي من المسائل التي تؤرق الساسة الأتراك منذ وقت طويل. ولذلك بدت المهمة الأمريكية بتوفير بيئة أمنية متعددة الأطراف ومتناقضة من حيث المصالح والسياسات في سوريا، مهمة شاقة إلى حد بعيد، تخللتها ردود فعل صاخبة حول تجاوز واشنطن المخاوف الأمنية الإستراتيجية لتركيا. الأمر الذي كان يدفع بحكومة أنقرة إلى التقارب مع روسيا وايران لجهة إزعاج الولايات المتحدة. حيث استطاعت تركيا من خلال الاتفاق مع موسكو وطهران أن تنفذ عملية عسكرية في مدينة إدلب السورية لتشكيل حزام خفض تصعيد واحتواء المساعي الكردية من الحصول على ممرات حيوية في شمال سوريا. ومن خلال هذا التفاهم التركي مع روسيا وايران، اندفع الجيش التركي لشن عملية عسكرية في مدينة عفرين لمواجهة مساعٍ أمريكية بتشكيل قوة عسكرية كردية على طول الشريط الحدودي مع تركيا. وثمة مشكلة أكبر في هذا الصدد، وهي مثار نقاش واسع في الأوساط السياسية والإستراتيجية الأمريكية، وهي اتجاه تركيا لشراء منظومات صواريخ S400 من روسيا بقيمة 2,5 مليار دولار، وقد حددت روسيا موعد تنفيذ هذه الصفقة بحول العام المقبل 2019، وهنا ينبغي الانتباه للنتائج السلبية التي قد تنشأ بفعل هذا النزوع من جانب تركيا، وهي الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، ويقع عليها من الالتزامات ما يجعلها في دائرة المسائلة عن توجهاتها تجاه روسيا بوجه خاص، ويعتقد الأمريكيون والغربيون بأن حركة الاندفاعات غير المتوازنة في سلوك تركيا تعتبر اختراقا خطيرا للقواعد الحاكمة لعمل أعضاء الحلف الأطلسي، من حيث التأثير على جودة العمليات لصالح روسيا. وهذا الوضع أقرب ما يوصف في أدبيات السياسات التحالفية إلى الانسلاخ، بكل ما يترتب عليه من ضعف في بنية الحلف وزيادة القابلية للتعرض للخطر.
ويمكن تلمّس بعض الصدى السلبي لهذه الاندفاعات، من تسريب تركيا معلومات سرية تتعلق بالقوات الأمريكية المتواجدة في سوريا، دل هذا على أن تصرفات تركيا لا تستند إلى المسؤولية والثقة تجاه صداقة الولايات المتحدة. ومن ثم تتسع دائرة انعدام الانسجام والثقة في ظل اتهام واشنطن لتركيا بمساعدة إيران على الالتفاف على العقوبات، وهناك قضايا قضائية أثيرت لدى القضاء الأمريكي بشأن مسؤولين أتراك ساعدوا طهران على كسر العقوبات. ولاحقا كشفت الحكومة التركية عن موقفها من تجدد فرض عقوبات على ايران على خلفية انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، حيث أعلنت أنقرة أنها لن تشارك في هذه العقوبات في محاولة لاستمساك بعض أوراق الضغط تجاه الولايات المتحدة.
أثارت هذه الخطط أسئلة أوسع حول ما إذا كانت تركيا تحول توجهها الاستراتيجي بعيداً عن توجهات الولايات المتحدة، وقد انعكس هذا كله على تقييمات الإدارة الأمريكية لسياسة تركيا بأنها اكتسبت مزيجا من الإشكالية والتشدد، وتغيرت معها النظرة الأمريكية تجاه رئيس تركيا رجب طيب أردوغان، من أنه بات يقود تركيا بمعزل عن التوافقات الدولية التي ترعاها الولايات المتحدة، ويدل لذلك انجذاب تركيا نحو الدول البغيضة لدى الأمريكيين، مثل فنزويلا.
هناك مسألتان على درجة من الأهمية في تناول هذا المضمون، ترتبط أولاهما بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو المسار الطويل والثقيل بالنسبة لعلاقة تركيا بالغرب الأوروبي، ويدخل أيضا ضمن العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث يدرك الأتراك بأن واشنطن غير راضية إلى حد ما عن فكرة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي لأسباب بنيوية، وهو ما يضاعف من درجة التمنع لدى الأوروبيين، ويضع قيودا أمام الضالة المنشودة لتركيا بالانضمام في المنظومة الأوروبية. وهناك مقولات سائدة في الولايات المتحدة وأوروبا مفادها أن انضمام تركيا بعضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي يكتنفه الكثير من الغموض بشأن الاندماج والتعايش مع الهوية الأوروبية، والتي تتعارض إلى حد بعيد مع منطلقات السياسة التركية القديمة والراهنة، بالنظر إلى مستوى المخالفات والتجاوزات في إدارة الدولة ونظام الديمقراطية ومنظومة العدالة.
لقد كان المجتمع الغربي يراقب عن كثب ما يجري في تركيا في 15 تموز 2016، على وقع حادثة انقلاب قام بها ضباط من الجيش للإطاحة بحكم أردوغان، وللوهلة الأولى ألصقت التهمة بجماعة الخدمة التي يتزعمها فتح الله غولن، وأطلق أردوغان حملات اعتقال واسعة النطاق في جميع أجهزة الدولة والمؤسسات الخاصة والجامعات والمساجد والمعاهد الدينية، بصورة أثارت حفيظة المراقبين في الولايات المتحدة والدول الغربية بشأن الحقائق الواردة من تركيا ومدى موثوقيتها، وقد رافق ذلك مطالبات حثيثة من حكومة أردوغان بملاحقة عناصر جماعة الخدمة في الدول الأخرى ومصادرة ممتلكاتها، ونتيجة لانعدام الموثوقية التامة أحجمت الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعديد من الدول الأخرى عن التجاوب مع المطالب التركية بشأن جماعة الخدمة، ولكن الأمر الذي زاد من حنق تركيا هو الحياد المطبق من جانب واشنطن بالاعتراف بأن ما جرى هو انقلاب ضد الحكومة، بينما نددت الولايات المتحدة باختلال ميزان الديمقراطية والحرية عقب هذه الإجراءات وبوجه خاص العمل وفق حالة الطوارئ. ولهذا جاءت اتهامات أردوغان للموقف الأمريكي بالازدواجية في المعايير.
إن جل ما يستنبط من هاتين المسألتين ومما ذكرناه سابقا، هو عدم ارتياح يراود الأمريكيين والأوروبيين على حد سواء من النسق العقيدي الذي يتبعه رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، في ضوء انكشاف السياسة التركية على الكثير من الصدمات والتعرجات في علاقاتها الدولية والإقليمية. وهكذا تتداخل كل تلك المفاعيل لتخلق درجة عالية من الهشاشة في صرح العلاقات التركية – الأمريكية وتجعلها عرضة للمد والجزر تبعا للمؤثرات والمضاعفات المحيطة. وهذه المفاعيل تجد ما يغذيها من الناحية العملية إذا ما نظرنا إلى التصريحات التي تصدر عن البيت الأبيض حيال التأزم في العلاقة مع تركيا، حيث تتحدث الإدارة الأمريكية والكونجرس عن نفاذ الصبر الإستراتيجي تجاه تصرفات تركيا، وكان لا بد من اتخاذ تدابير قاسية لاستعادة الرشد للسياسة التركية.
هذا الخلط المزدوج بين استخدام المنهج الشعبوي الأردوغاني في تعبئة الجماهير التركية لمواجهة المؤامرة الخارجية من جهة، ونزوع أردوغان أيضا لاستخدام دبلوماسية الرهائن في لعبة المساومة السياسية والإكراه، ومن ثم القفز إلى سياسة الاستدارة بين المحاور الدولية لممارسة الضغط، كل ذلك مرجعه، وفقا للنظرة الأمريكية، هو أولا، تجاوز مسار العلاقة التحالفية بين تركيا والولايات المتحدة لعدم التجانس بين الطرفين في قضايا السياسة الإقليمية والدولية، ومرجعه ثانيا إلى النبرة القومية الراسخة في توجهات أردوغان والتي تدفعه لرفع سقف التحدي وعدم الخضوع.
هناك سؤال بات حاضرا في كل المداولات لدى النخبة السياسية في تركيا، وقد تطرق له أردوغان بنفسه في تصريحاته عقب اشتداد الأزمة، وهو الارتباط بين التحرك الأمريكي والتوقيت على وجه التحديد، فالأتراك يرونه مناورة انتخابية يروجها ترامب لاستمالة الوسط الإنجيلي المتدين في الولايات المتحدة للسيطرة على أصواتهم في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس خلال نوفمبر المقبل. وحتى إذا كان هذا الأمر صحيحا، فإن الأزمة يتداخلها ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي، وهذا ما يجعل الشقاق والخلاف صفة دائمة في بنية العلاقات التركية – الأمريكية.
مخرج مشرف
قال الرئيس ترامب في أحد تصريحاته أن تركيا “استغلت الولايات المتحدة الأمريكية لسنوات عديدة، وحان وقت العقاب”، وفي المقابل قال الرئيس أردوغان في مقالة نشرت في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أنه “إذا لم تغير الولايات المتحدة مسارها، فإن تركيا ستبحث عن صداقات وحلفاء جدد”.
علينا ألا نفترض جدلا أن أحدا ما من الجانبين يرغب في حدوث قطيعة مستحكمة، ومن وجهة نظر استراتيجية، فإن من الخطير للغاية أن تستمر الأزمة على هذا النحو، فالبنية الاقتصادية لتركيا بدت هشة جدا مع أول حزمة من العقوبات الأمريكية، وهو أمر لا ينبغي التراخي فيه على المدى القريب، وفي حال فشلت أنقرة في التخفيف من حدة التصعيد مع الولايات المتحدة، فإن فرض مزيد من العقوبات الأمريكية يمكن أن يخلّف تأثيرات مدمرة على اقتصاد تركيا، بما يحمله من تقويض ثقة المستثمرين في القطاع المالي التركي والدفع نحو هروب رؤوس الأموال، ولو نظرنا إلى مدى تأثر السياسة التركية بالاقتصاد، فسوف ندرك أن العبء على تركيا يبدو ثقيلا جدا، والاختبار الحقيقي في هذا المجال يكمن في مدى تحمل تركيا للضغوط وقدرتها على تأمين البدائل، ولكن هذا ليس بالأمر السهل. وقد رأينا كيف حققت روسيا نتائج مرضية عندما فرضت عقوبات اقتصادية وقيود دبلوماسية على تركيا على إثر اسقاط الدفاع الجوي التركي طائرة سوخوي 24 الروسية، وقد أدت في النهاية إلى تقديم اعتذار من أردوغان على الحادثة.
وهناك مثال آخر، فقد فرضت ألمانيا عقوبات اقتصادية على تركيا على خلفية اعتقال نشطاء سياسيين وحقوقيين بينهم مواطن ألماني داخل تركيا خلال العام الماضي، وقد ارتفعت حدة الخلافات السياسية بين البلدين، حيث أطلق أردوغان تصريحات حادة تجاه الحكومة الألمانية ووصفها بـ “النازية” مستحضرًا منعها وزراء أتراك من عقد تجمعات انتخابية للجالية التركية في ألمانيا بشأن الاستفتاء الدستوري. وإلى حد ما نجحت استراتيجية ألمانيا في الضغط على أنقرة من خلال القيود على الاقتصاد والمساعدات للتجارة التركية، حيث بادرت تركيا إلى اطلاق سراح السجناء السياسيين والصحفيين الألمان وأعلنت رفع حالة الطوارئ، في محاولة لتحسين العلاقات مع ألمانيا. والحقيقة أن الجانب الأمريكي يدرك أنه إذا أُصيب اقتصاد تركيا في مقتل، فإن حضور أردوغان السياسي سيكون في دائرة الخطر.
وفي هذا السياق، فإنه من المرجح أن تؤدي الإجراءات الأمريكية إلى إحداث تغيير اضطراري في بعض سياسات تركيا، حتى وإن تأخرت النتائج، فليس من مصلحة تركيا في نهاية المطاف الذهاب بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية. والحال هذه، فإن إن الحس السياسي الإقليمي والدولي يجب أن يدفع أنقرة نحو إحداث هيكلة شاملة لسياساتها الداخلية والخارجية عبر تبني التوازن والاعتدال في النهج الدبلوماسي، بحيث يكون مجديا أكثر، وعلى نحو يساعدها في استعادة الثقة المفقودة بينهما وبين المجتمع الدولي، وإنه من المتعين على القادة في تركيا التخلي عن النظرة الذاتية في مشكلاتهم مع العالم الخارجي.
الواقع أن الرئيس أردوغان بالرغم من كثافة تصريحاته النارية نحو الولايات المتحدة، إلا أنه يبحث عن مخرج مشرف من الأزمة بحيث يحفظ له ماء الوجه أمام أنصاره والعالم، وكل ما في الأمر هو شعور ذاتي بعدم الانهزام السريع، مع إمكانية اللجوء إلى مسارات غير معلنة تؤدي إلى تسوية الأزمة.
إن عملية البحث عن موائمة شاملة ومرضية لكل من الطرفين، سوف تعتمد على عرض كل مصادر الخلاف وفق تراكمات الزمن، مع اسناد كل مصدر منها إلى آليات وافية للمعالجة.
بقلم:ـ نوح فسيفس -باحث في العلاقات الدولية-
———————————————————————————————————–
أعمال سابقة منشورة للكاتب
- دراسة استراتيجية : (توازنات الإقليم .. الدور التركي في المعادلة الإستراتيجية الروسية)، منشورة في مجلة “شؤون تركية” وهي فصلية تصدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإسترايجية، العدد الرابع – ربيع 2016.
- دراسة استراتيجية : (المعطيات والآفاق .. تحولات سياسة تركيا الشرق الأوسطية)، منشورة في مجلة “شؤون تركية” وهي فصلية تصدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإسترايجية، العدد الخامس – صيف 2016.
- دراسة استراتيجية : (المتغير الإيراني في سياق السياسة الخارجية الإيرانية)، منشورة في مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، بيروت. العدد 58 – ربيع 2017، 1438ه.
- دراسة قيد التجهيز : (مرتكزات الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط .. قراءة في ضوء محركات الصراع والهيمنة).
- تحليلات وتقديرات مواقف منشورة في معهد العربية للدراسات (قبل اغلاقه).