برلين (زمان التركية) – سلط تقرير أعده موقع (أحوال تركية) الضوء على التأثيرات السلبية لوضع الاقتصاد التركي السيئ، على القطاع الاستثماري في البلاد، والذي ظهر في إفلاس آلاف الشركات، وتسريح 159 ألف عامل، بينما ارتفعت أسعار الأغذية بما يزيد عن الخمس، في أزمة تتعامل معها الحكومة بأسلوب “الكنس تحت السجادة”، بحسب كاتب متخصص.
ووفقا لتقرير (أحوال تركية):
جاء في نشرة هيئة الضمان الاجتماعي أن عدد العمال المُؤمَّن عليهم تراجع من 14.729.306 في شهر مارس 2018 ليسجل 14.570.283 عاملاً في شهر يونيو من نفس العام؛ أي أن هناك ما يقرب من 159 ألف شخص على الأقل قد فقدوا عملهم.
واللافت للانتباه في الموضوع أن هذا الانكماش في عدد الأيدي العاملة في تركيا قد حدث خلال شهر يونيو الذي من المفترض أن يزيد فيه عدد العمالة مقارنة بباقي شهور السنة؛ بسبب توافر فرص العمل في الأعمال الموسمية؛ حيث ينتعش خلال هذا الشهر العديد من القطاعات، مثل قطاع السياحة والزراعة والإنشاءات، مما يساعد على ارتفاع عدد العاملين في هذه القطاعات.
لهذا السبب كان الانخفاض في أعداد العاملين المقيدين في شهر يونيو من الأمور التي لفتت الانتباه كثيراً في بيان نشرة هيئة الضمان الاجتماعي، والتي يجب التوقف عندها قليلاً، حيث إنه من المتوقع، حسب هذا البيان، أن تعاود نسبة البطالة ارتفاعها اعتباراً من شهر نوفمبر المقبل.
وعندما نمعن النظر في البيانات الخاصة بالعمال المُؤمَّن عليهم، نجد أن نسبة العمال الذكور الخاضعين لنظام التأمين قد بلغت 10.550.098 خلال شهر مايو، في حين سجلت نسبة الإناث العاملات 4.179.208 في الشهر نفسه، في حين بلغت نسبة الذكور العاملين قد سجلت انخفاضاً خلال شهر يونيو لتصل إلى10.437.158 بانخفاض قدره 112.940، كما تراجعت نسبة الإناث العاملات أيضاً لتبلغ 4.133.125 بانخفاض قدره 46.083 شخصاً.
وفي السياق نفسه، تراجعت أعداد الشركات ومحال العمل، هي الأخرى، خلال شهر يونيو بمقدار 10.272 لتسجل 1.878.361 شركة مقارنة بعددها في شهر مايو، الذي بلغ حينها 1.888.635. وتُرجِع هذه النشرة الانخفاض في عدد العاملين خلال شهر يونيو إلى الاستغناء عن هذا العدد من العاملين بالتوازي مع إغلاق هذه الشركات ومحال العمل.
وتدعم بيانات القطاع الحقيقي ما يتردد عن وجود انخفاض حاد في عدد العمال المُؤمَّن عليهم؛ حيث تشير البيانات الواردة في هذا الشأن إلى تخلي أصحاب الأعمال عن عدد كبير من العمال لديهم، في الوقت الذي خفَّض فيه عدد آخر من الشركات، خلال الشهر الماضي، رواتب العاملين لديهم بمقدار النصف؛ الأمر الذي جعل أصحاب الأعمال في وضع لا يحسدون عليه، وهم يتطلعون إلى تحسن الأحوال خلال الأشهر المقبلة. ومن المنتظر، إذا سارت الأحوال على نفس الوتيرة، أن يشهد قطاع الأعمال استبعاد أعداد أكبر من العمال خلال الفترة القادمة.
من ناحية أخرى، لفتت النشرة الصادرة عن هيئة الضمان الاجتماعي إلى انخفاض أعداد صغار التجار والحرفيين والمزارعين بحوالي 100 ألف شخص؛ فقد تراجعت أعداد صغار التجار والحرفيين من 2.069.427 خلال شهر مايو، لتبلغ 1.988.370 في يونيو، كما تراجعت أعداد المزارعين من 709.685 خلال شهر مايو، لتصل إلى 690.116 في شهر يونيو.
ومن المحتمل أن يكون السبب وراء الانخفاض في أعداد صغار التجار والمزارعين هو عجز هؤلاء الأشخاص عن سداد قيمة الأقساط التأمينية، وبالتالي تم إلغاء قيدهم من قائمة العمال المُؤَمَّن عليهم؛ حيث أتاح العفو، الذي صدر قبل انتخابات 24 يونيو، الفرصة لإسقاط قيد التجار والمزارعين الذين عجزوا عن سداد قيمة الأقساط التأمينية مقابل ما عليهم من ديون. وهذا يعني أن الحكومة جرَّدت هؤلاء العمال، تجاراً كانوا أو مزارعين، من حقوقهم التأمينية مقابل التغاضي عما عليهم من ديون عجزوا عن سدادها.
ويمكن النظر إلى الانخفاض في عدد محال العمل والعاملين على حدٍ سواء، كما نشرته هيئة الضمان الاجتماعي، على أنه مؤشر آخر على وجود أزمة ربما تفوق توقعاتنا. وعندما نقارن بين زيادة أعداد المستفيدين من معاش البطالة خلال شهر يوليو بنسبة 26%، والبيانات الصادرة عن هيئة الضمان الاجتماعي ندرك، بما لا يدع مجالاً للشك، أن قطاع الأعمال لم يشهد خلال هذه الفترة أي تطورات إيجابية تدعو للتفاؤل؛ فلغة الأرقام تشير إلى اتجاه تركيا صوب أزمة كبيرة، حتى إن لم يرق هذا للقائمين على الحكم في البلاد.
وعندما ننظر، من ناحية أخرى، إلى البيانات الخاصة بشهر يونيو، كما أوضحتها هيئة الضمان الاجتماعي، ندرك أن متوسط إجمالي المكسب اليومي للعمال، وهو 109 ليرة تركية، قد تراجع إلى 131 ليرة بالنسبة للعاملين في الدولة، و112 للعاملين من الذكور و112 للعاملات، كما تراجع إلى 93 ليرة تركية بالنسبة للعمالة المؤقتة. ومن ناحية أُخرى، تُقتطع قيمة الضريبة وقيمة التأمين من أجور العاملين بنسبة لا تقل عن 30%. وهذا يعني أن صافي ما يحصل عليه العامل يومياً في يده لا يتعدى 70-75 ليرة تركية. ومن الطبيعي، مع الارتفاع المضطرد في نسبة التضخم، أن يقابله ارتفاع سريع ومتتال في أسعار جميع المنتجات، وعلى رأسها أسعار المواد الغذائية.
وفي السياق نفسه، أشار تقرير عن نسبة الجوع والفقر في تركيا، نشره اتحاد نقابات العمال في شهر أغسطس، إلى حدوث ارتفاع في أسعار المواد الغذائية على النحو التالي: 13% زيادة في سعر الحليب، 21% زيادة في سعر اللبن الرائب، 17% زيادة في سعر الجبن. وهذا يعني أن المواد الغذائية المستخدمة في المطبخ قد شهدت زيادة قدرها 20.45%.
وبحساب حجم الإنفاق الشهري لأسرة مكونة من أربعة أفراد على شراء مستلزماتها من المواد الغذائية، فلن يقل ما تدفعه هذه الأسرة عن 1812 ليرة تركية، أي بزيادة قدرها 204 ليرة، مقارنة بما كانت تتكلفه الأسرة نفسها في مطلع العام الجاري. من ناحية أخرى، يمكن القول إن أعباء إضافية لا تقل عن308 ليرة قد لحقت، خلال العام الماضي فقط، بميزانية شراء مستلزمات المطبخ، في الوقت الذي تتحمل فيه الأسرة أعباء إضافيةً لا تقل عن 1002 ليرة شهرياً.
وفي الوقت الذي أثَّرت فيه الأزمة الاقتصادية سلباً باتجاه ظهور مئات الآلاف من العاطلين عن العمل كرد فعل طبيعي على الانكماش الحاصل في عدد العمالة في تركيا، نجد أن هناك انكماشاً شهده دخل العاملين تسبب فيه الارتفاع الجنوني في الأسعار. وهذا يعني أن قطاع الأعمال كان أكثر القطاعات التي تضررت من الأزمة الاقتصادية، كما أن التحاق العمال، الذين فُصِلوا من أعمالهم، بأعمال أخرى ليس بالأمر الهين؛ لأنه قد يستغرق في بعض الأحيان سنوات.
لقد شهدت تركيا ظروفاً مماثلة بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2009؛ حيث وصلت نسبة البطالة إلى 16%، واضطر الكثير من الشركات، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، إلى التخلي عن مئات الآلاف من العمال والموظفين كل شهر. ومع هذا، فقد كانت مؤشرات الاقتصاد الكلي في تركيا (مصطلح تم التعارف عليه من قبل النرويجي ركنر فرش، وهو عبارة عن مجموعة حلول نظرية تتعامل مع الاقتصاد ككتلة واحدة، وتلامس النظرية موضوعات عدّة منها الناتج المحلي والأرقام القياسية للأسعار بهدف فهم الاقتصاد المحلي والعالمي)، بما فيها الإنفاق العام، جيدة بدرجة سمحت باحتواء آثار الأزمة الاقتصادية بشكل فعّال؛ وهو أمر لا يمكن مقارنته بما يحدث اليوم في تركيا.
استطاعت تركيا، في ذلك الحين، أن تجتذب استثمارات أجنبية على الرغم من وجود الأزمة، ونجحت في تعويض الانكماش في سوق الاتحاد الأوروبي عن طريق فتح أسواق جديدة لصادراتها في دول الشرق الأوسط وعلى رأسها إيران والعراق وسوريا، كما دخلت إلى أفريقيا؛ فكانت تلك الأسواق بمثابة قبلة الحياة للاقتصاد التركي في ذلك الوقت.
أما الآن، فالوضع مختلف تمام الاختلاف؛ فقد صرنا نعيش في دولةٍ حادت عن طريق دولة القانون، وعلَّقت العمل بأسس الديمقراطية؛ دولة لها عداءات مع الكثير من الدول، ولاسيما مع جيرانها؛ لذا كان من الطبيعي، مع السياسة العشوائية التي تنتهجها تركيا منذ فترة طويلة، أن تختل كافة الموازين الاقتصادية الأساسية، وينتهي بنا الحال إلى هذا الخلل الخطير في الإنفاق العام، وفي تغطية نفقات موظفي الدولة والضمان الاجتماعي.
لقد صار سوق الأيدي العاملة في تركيا أحد أخطر المشكلات المزمنة التي وقفت حجر عثرة أمام الدولة للتصدي إلى أية موجة بطالة أخرى محتملة. وقد عكس هذا الوضع تقريرٌ أعده مكتب منظمة العمل الدولية في تركيا بالتعاون مع وزارة العمل التركية تحت عنوان “مساهمة الحوار المجتمعي في تحقيق التنمية والنهوض الاقتصادي” في عام 2018، وجاء فيه:
على الرغم من أن عدد العمالة غير المقيدة آخذ في التراجع في تركيا، إلا أنها لا تزال تشكل نسبة كبيرة في سوق قوة العمل في تركيا، كما أنها ساهمت، من ناحية أخرى، في تعميق مشكلة البطالة: بلغت نسبة البطالة بين الشباب أعلى من نسبة البطالة لمن هم في سن 25 وما فوقها. (بلغت 2.3 ضعف النسبة خلال الفترة 2007-2016).
أضف إلى هذا أن هناك حالة من عدم المساواة القائمة على التمييز بين الجنسين؛ حيث بلغت نسبة البطالة بين الإناث نسبة أعلى بكثير من نظيرتها بين الذكور. وتشير هاتان المشكلتان إلى أن مشكلة البطالة في تركيا لن تقتصر على مرحلة بعينها تختفي بعدها. ويمكن إرجاع هذه المشكلة إلى عدة أسباب هيكلية أهمها عدم وجود توافق بين الأعمال المتاحة والخبرة المهنية لهؤلاء العمال.
يمكننا أن نضيف إلى التقرير السابق كذلك أن هناك ما يقرب من 600-700 ألف من الشباب يتقدمون كل عام للالتحاق بسوق العمل، ولا يجد غالبيتهم فرصة العمل الملائمة لدراستهم وخبراتهم، كما يضطر العمال، الذين لا يريدون ترك عملهم بسبب الأزمة الاقتصادية التي تؤثر بشكل مباشر على سوق العمل، إلى القبول بأجور متدنية.
الكنس تحت السجادة
تؤثر الأزمة الاقتصادية على سوق العمل من نواح عديدة؛ فهي تقلل من حجم الضرائب التي تحصلها وزارة المالية من ناحية، وتضطر الدولة في المقابل لدفع بدل بطالة لجزء من العاطلين عن العمل من ناحية أخرى.
وإجمالاً لما سبق، يمكن القول إن تركيا ظلت تتقمص دور من يقوم بكنس الأرض، ثم يقوم بدفع ما يكنسه تحت السجادة بدلاً من البحث عن حلول للمشكلات المزمنة التي تعاني منها، حتى وجدت نفسها في نهاية المطاف في مواجهة أزمة اقتصادية خطيرة، ولم يكن لديها القوة الكافية لمجابهة تلك الأزمة الاقتصادية التي يزداد تأثيرها يوماً بعد يوم. والسبب في هذا أنها انحرفت عن طريق القانون والديمقراطية. وإذا استمرت على هذا المنوال، ولم تتخذ خطوات عاجلة لمعالجة هذه الأزمة، فربما يمتد تأثيرها إلى أجيال قادمة.