بقلم : ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – تركيا لا تشهد أزمة اقتصادية فقط وإنما تعاني كل مؤسسات الدولة من أزمات مختلفة تتفاقم يومًا بيوم جراء ابتعاد السلطة الحاكمة بقيادة رجب طيب أردوغان عن قواعد فن الإدارة الحكيمة منذ خمس سنوات.
أكثر ما يحزن أن الرئيس أردوغان يحمل الشعب التركي فاتورة أخطاءه في إدارة الاقتصاد من خلال زيادات يفرضها على السلع الضرورية، وسلب للأموال العامة ومنحها للمقربين له، في حين أنه يتخذ قرار تشييد قصر رئاسي جديد إضافة إلى قصره الفاخر ذي ألف غرفة، ما يدل على أنه بعيد عن الجدية ولا يحمل في قلبه هم شعبه وإن ادعى عكس ذلك، بل يذكرنا بالسلاطين والملوك الذين كانوا يعيشون في ترف وبذخ وأبهة بينما يرزح رعيتهم تحت مخالب الفقر والجوع.
ليس هذا فحسب، فنظام أردوغان يوظف الأزمة الاقتصادية لتشكيل نظام رأسمالي جديد في البلاد من خلال بيع عقارات ذات قيمة كبيرة إلى الموالين له، بل من خلال التلاعب بسعر صرف العملات أيضا. فهو يستغل الأزمة الراهنة في بيع العقارات والمنتجعات السياحية والمناطق الفاخرة والشركات والبنوك والنوادي الرياضية والمحلات في السوق المغطاة بمدينة إسطنبول للأغنياء الأجانب، خاصة لرجال الأعمال العرب الموالين له أو المنتمين إلى شتى التيارات الإسلامية، بثمن بخس. وهو يدعو الشعب التركي المسكين إلى استبدال عملاتهم الأجنبية بالليرة التركية المتدهورة؛ وفي الوقت نفسه يبيع الدولار بنصف ثمنه إلى الدائرة الضيقة المقربة منه من خلال بنك “خلق” الحكومي الذي سخّره فيما مضى للجاسوس الإيراني، إمبراطور الذهب “رضا ضراب” المعتقل حاليًا في الولايات المتحدة، من أجل خرق العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، والذي تخطط واشنطن لمعاقبة البنك بسبب ذلك.
“أمهات السبت” يعرون نظام أردوغان القمعي
السياسة الداخلية ليست أحسن حالاً من الاقتصاد.
يعلمنا التاريخ أن الأزمات الاقتصادية تدفع الأنظمة الاستبدادية إلى ممارسة مزيد من القمع على شعوبها في الداخل، فيما تؤدي إلى التراجع عن رهاناتها في الخارج. فقد أمر نظام أردوغان بحظر مظاهرات “بريئة” للغاية لمجموعة اشتهرت باسم “أمهات السبت” التي يشارك فيها أمهات وأقارب أشخاص مختفين قسريًا على يد الدولة في تسعينات القرن الماضي، وقامت الشرطة بفضّ المظاهرة بأسلوب عنيف جدًا استفز بعض الكتاب والمفكرين الأتراك، بينهم مصطفى إسلام أوغلو من التيار الإسلامي، ووجهوا انتقادات لاذعة للسلطة رغم ولائهم التام لها وسكوتهم على تعرّض أناس أبرياء لجميع صنوف الافتراء والقتل المعنوي والظلم والتعذيب بتهمة انتماءهم إلى حركة الخدمة قبل محاولة الانقلاب وبعدها على حد سواء. وذلك على الرغم من أن أردوغان ساند هؤلاء الأمهات وزعم أنه يشاطر همومهن والتقى معهن في السنوات السابقة، لكن يبدو أن دعمه كان من أجل تلميع صورته فقط كزعيم يحمي المظلومين!
والطامة الكبرى أن وزير الداخلية سليمان سويلو وصف هؤلاء الأمهات المكلومات بـ”الفاجرات”، دون حياء من الخلق أو الخالق، بل إن كلمة (paçoz) التي استخدمها الوزير بحقهنّ تأتي بمعنى “العاهرة”، بحسب قاموس مجمع اللغة التركية الرسمي.
يا لها من وقاحة!
وهذا الوزير لا يزال في منصبه للأسف الشديد. هذا هو المستوى الذي هبط أسلوب السياسة إليه في ظل حكم أردوغان.
حسنًا، لماذا يخاف أردوغان من مظاهرة سلمية وبريئة إلى هذا الحد يا ترى؟ لأنه بات لا يتحمل أدنى نقد أو معارضة أو احتجاج، وجهاز مخابراته يفعل الشيء نفسه الذي كان يحدث في تسعينات القرن الماضي. إذ يقوم باختطاف أناس أبرياء كل يوم وتنقطع عنهم الأخبار، وفق ما ورد في تقارير دولية، وهذا يؤدي إلى ارتفاع عدد المنضمين إلى “أمهات السبت” واتساع نطاق الاحتجاجات بمرور الوقت بصورة تثير قلق السلطة من أن تكسب تلك الاحتجاجات صفة عامة وتتحول إلى “عصيان مدني” في جميع أنحاء البلاد.
رهانات أردوغان تفشل
أما السياسة الخارجية فتعيش أسوأ أيامها منذ تأسيس الجمهورية؛ لأن قراءة نظام أردوغان لمسارات الأحداث لم تتوافق مع الوقائع بالفعل، ما أسفر عن فشل كل السياسات التي طورها وطبقها طبقًا لهذه القراءة. فقبل كل شيء، رهان أردوغان على رحيل بشار الأسد في سوريا كان من قبيل وضع كل البيض في سلة واحدة وكان خاسرًا منذ البداية. ولعل إقدام نظام أردوغان على تصنيف هيئة تحرير الشام منظمةً إرهابية، بعد أن وظفها وأمثالها من التنظيمات الجهادية الأخرى في إسقاط الأسد، بالتزامن مع استعداد الأخير لهجوم عسكري في شمال غرب سوريا، خضوعًا لمطالب أو ضغوطات المحور الروسي الإيراني، شكل نقطة النهاية لمسلسل الأخطاء التي ارتكبها –أردوغان- في الملف السوري.
يعلم المتابعون للشأن التركي أن أردوغان لما وقع في الشباك التي نسجها الجاسوس الإيراني سالف الذكر عبر شبكة فساد وغسيل أموال دولية لخرق عقوبات أمريكا على بلاده، اضطر إلى التحول من المعسكر الغربي إلى المعسكر الشرقي / منظمة شانغهاي، ثم تغيرت تبعًا لذلك السياسات التي اتبعها في الداخل والمنطقة والعالم.
هذا المسار الجديد لأردوغان أفضى إلى تغير المعادلة في سوريا لصالح روسيا وإيران وضد الولايات المتحدة والغرب عمومًا. كما أن توجه واشنطن لمعاقبة نظام أردوغان بسبب خرقه عقوباتها على إيران دفعه إلى صفوف المحور الإيراني الروسي أكثر، كما رأينا في معركة إدلب. لذا ليس من المفاجأ أن تأتي كل خطوة خطاها أردوغان في سوريا والمنطقة لصالح روسيا وإيران، وتؤدي في نهاية المطاف إلى استرداد الأسد كل المناطق التي كانت انتقلت إلى يد المعارضة السورية المسلحة المكون مظعمها من الجماعات الجهادية.
وهنا يبرز سؤال مهم: كيف سيجمع أردوغان بين سياساته الموالية لنظام الأسد وإيران وروسيا والسياسات الداعمة للتنظيمات الجهادية بعد إعلانه تحرير الشام منظمة إرهابية؟ أو كيف سيكون مصير العناصر الجهادية المتعاونة معه في المستقبل خاصة في ظل التقارير التي تتحدث عن محاولة المخابرات التركية إقناع تلك التنظيمات بحل نفسها ورفض ذلك من قبل بعض القيادات الجهادية.
تصفية الجيش الوطني وتوظيف داعش
هذه التطورات الأخيرة أعادت إلى ذهني موقف تنظيم داعش بعد عام 2015 حيث حاول أردوغان قطع علاقاته معه أو بعبارة أصح قرر توظيفه بمهام أخرى بعيدًا عن الأراضي السورية. ومنذ تلك الفترة بدأ نفوذ داعش وأمثاله من التنظيمات الأخرى يتضاءل بصورة تدريجية في سوريا، لكن زادت أنشطته في الداخل التركي. هذا التنظيم شعر في البداية بأنه تعرض للخداع والخيانة من قبل أردوغان، وتوجه إلى تنفيذ هجمات إرهابية في المدن التركية من أجل الثأر والانتقام، الأمر الذي حمل أردوغان إلى توظيفه في أمور أخرى. ولعل أبرز الخدمات التي قدمها أردوغان لتنظيم داعش هو السلك الأمني في تركيا، حيث ضمّ أنصارهم إلى صفوف الشرطة، وكلفهم خاصة بوظائف “مدنية” في صورة مليشيات مسلحة. ومن ثم استخدم هذه المليشيات في إثارة مشاعر الشعب أثناء محاولة الانقلاب في 15 تموز / يوليو 2016 من خلال قطع رؤوس الجنود وما إلى ذلك من الممارسات الوحشية. ومن جانب آخر، قام أردوغان بتصفية الجيش الوطني من خلال تدبير هذه المحاولة الانقلابية التي صممها بالتعاون مع عناصر أرجنكون الموالين لإيران وروسيا على الفشل، وأحل محل المطرودين من الجيش الجنرالات والضباط الذين خضعوا في وقت سابق للمحاكمة في قضايا انقلابية مثل أرجنكون والمطرقة. بمعنى أن أردوغان أذاب معظم عناصر داعش في وظائف مدنية ضمن جهاز الأمن، وأبقى قسمًا منهم ضمن تحرير الشام، وأرسل قسمًا آخر إلى سيناء شمال شرق مصر وليبيا، كما اعترف بذلك في شريط فيديو، فيما سلم الجيش التركي لجنرالات أرجنكون.
أردوغان على مفترق الطرق مجددا
والآن وضعت الأحداث الأخيرة أردوغان على مفترق الطرق مجددا! كيف سيكون موقف أردوغان من القيادات والعناصر الجهادية التي رفضت فكرة حل منظمة تحرير الشام؟ هل سيتخلى عنهم رغم كل شيء ويستحمل كل تبعات ذلك؟ ألن تشعر تلك القيادات والعناصر الجهادية بالخيانة كما سبق أن شعر به داعش من قبل أم أن أردوغان سيكلفهم بمهام جديدة في الداخل التركي ومناطق أخرى من العالم سعيًا لاحتواء المشكلة؟ وكيف سيتمكن من التأليف بين جنرالات أرجنكون الموالين لروسيا وإيران وهذه التنظيمات الجهادية التي تقاتل ضد النظام الأسدي المدعوم من قبل هاتين الدولتين؟ ألن يسعى جنرالات أرجنكون الذين قلبوا الطاولة في سوريا لصالح بشار الأسد إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي؟ كيف سيحل أردوغان صراعًا محتملاً بين أرجنكون الطوراني العلماني الممسك بزمام الأمور في المؤسسة العسكرية وتلك التنظيمات والجماعات الراديكالية الجهادية المسيطرة مع أردوغان على الحياة المدنية يا ترى؟
إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار كل ما سلف ذكره، بالإضافة إلى استعداد الإدارة الأمريكية لفرض عقوبات اقتصادية على نظيرتها التركية، فإنه يمكن القول إن عام 2019 سيكون مسرحًا لفوضى عامة في تركيا إن لم تسعفها العناية الإلهية بسبب مطامع رجل فقد اتزانه وجماعته اللاهثة وراءه والتي لا تفكر إلا في كسب مزيد من الأموال.