مصطفى أونال
أُغلق ملف الفساد والرشوة الذي جرى الكشف عنه في تركيا يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وأصدر النائب العام قرارًا بوقف الدعوى بعدما لم يجد أي عنصر للجريمة أو دليل على وجود تنظيم فاسد. فهل تسألون عن صناديق الأحذية والخزائن التي عُثر بداخلها على ملايين الدولارات واليوروهات؟ فقد أصدر النائب العام حكمًا بأن الأدلة جُمعت بطريقة غير قانونية، وهل هذا التطور مفاجئ؟ لا؛ إذ أن هذا كان واضحًا منذ البداية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لقد بدأت السلطة الحاكمة في تركيا “الهجوم المعاكس” بذريعة تدبير محاولة انقلاب ضدها، فالأجواء استثنائية وملبدة بالغيوم في البلاد منذ 10 أشهر، وإن كنا سنطلق وصف “انقلاب” على شيء في هذه العملية، فلن يكون من المناسب أن نطلقه على تحقيقات الفساد التي تولتها الشرطة والنيابة العامة، بل سيكون حريا بنا إطلاقه على خروج الحكومة عن المألوف من أجل التستّر على فضيحة الفساد التي طالت بعض أعضائها.[/box][/one_third]لاشك في أن تحوُّل التحقيق في قضية الفساد إلى مذكرة ادعاء ومثول شخصيات مرموقة أمام القضاء، أمر ما كنا نتوقعه ولو كان وقع لكنا تفاجأنا كثيرا، ما كان أحد يتوقع بعد تلك التدخلات من طرف ذوي المناصب العليا أن يعامَل أبناء الوزراء، الذين ألقي القبض عليهم في إطار التحقيقات، معاملة المواطنين العاديين أمام السلطات بطبيعة الحال، ورأى الجميع أن وتيرة المحاسبة القانونية لم تسِر بشكل طبيعي.
لقد شهدت تركيا تطورات استثنائية بمجرد الإعلان عن بدء عملية الفساد، فنُفي المدعون العموم من إسطنبول بعدما سُحب منهم ملف التحقيق في القضية، وطُلب تسريح المدعي العام الذي تولى ملف قضية الفساد التي كُشف عنها يوم 25 ديسمبر الماضي، مثلما فعل بالمدعي العام فرحات صاري كايا من قبل، كما طُرد رجال الشرطة من وظائفهم، ونُفي رجال الأمن الذين يتابعون ملف رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضراب، أحد أبرز الشخصيات المتهمة بالفساد، إلى أقصى شرق تركيا.
وأطلق حزب العدالة والتنمية الحاكم لفظ “الانقلاب” على عملية الفساد التي ورد بها أسماء أربعة وزراء، وكانت تركيا قد شهدت جميع أنواع الانقلابات والتدخلات العسكرية، لكن هذه هي المرة الأولى التي يوصَف بها تحقيق في فضيحة فساد على أنه “انقلاب” ضد الحكومة، ولا أعتقد أن لهذه الواقعة مثيلًا لا في تركيا فحسب، بل كذلك في تاريخ السياسة العالمية، ولاريب في أن الحزب الحاكم يستغل قوته الدعائية استغلالًا جيدًا لإقناع الرأي العام بهذا الادعاء.
لقد بدأت السلطة الحاكمة في تركيا “الهجوم المعاكس” بذريعة تدبير محاولة انقلاب ضدها، فالأجواء استثنائية وملبدة بالغيوم في البلاد منذ 10 أشهر، وإن كنا سنطلق وصف “انقلاب” على شيء في هذه العملية، فلن يكون من المناسب أن نطلقه على تحقيقات الفساد التي تولتها الشرطة والنيابة العامة، بل سيكون حريا بنا إطلاقه على خروج الحكومة عن المألوف من أجل التستّر على فضيحة الفساد التي طالت بعض أعضائها.
من يمكنه أن يعتبر أن ما يحدث في البيروقراطية التركية حاليًا شيئًا عاديًا؟ فلم تتدخل أية حكومة في عمل القضاء كما فعل حزب العدالة والتنمية اليوم، هذا فضلًا عن أن الحكومة انتهكت القوانين علنا وبشكل متهور للغاية؛ إذ أنها لم تحتج حتى إلى “التكتيكات الدقيقة”، وما أن تسلّم وزير العدل الجديد بكر بوزداغ منصبه حتى أصبح هدفا لملفين من الاستجوابات في البرلمان بسبب ما قام به من إنجازات مزاجية لا تستند إلى القوانين، أثناء تدخله في عمل القضاء.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن إغلاق ملف الفساد في تركيا حدث بموجب الظرف الحالي، لكن المؤكد أن هذا الملف لن يغلَق في الضمائر بعدما رأى الجميع كمية هائلة من الوثائق والمستندات التي تم الكشف عنها، ولا يمكن التستر على صناديق الأحذية والخزائن المليئة بالأموال، ولا شك أن عجلة الدنيا ستدور يومًا من الأيام، وسيكون للتاريخ حكم في المستقبل.[/box][/one_third]أصدر وزير العدل قانون الهيئة العليا للقضاة والمدعين العموم، على الرغم من علمه أنه مخالف للدستور، وغيّر طريقة عمل الهيئة في سبيل تغيير سير التعاملات في تعيينات القضاة والمدعين العموم، وأطلق عملية مضادة لاستهداف رجال الشرطة الذين شاركوا في الكشف عن فضيحة الفساد، وذلك من خلال مداهمة منازلهم في منتصف الليل. واستحدث “محاكم الصلح والجزاء” خصيصًا من أجل التحقيق مع مسؤولي الأمن الذين قاموا بتلك العمليات، واعتُقل منهم 52 شرطيًا.
تم نقل رجال الأمن المعتقلين أمس الأول إلى سجن سيلفري، شديد الحراسة، في أطراف إسطنبول، وقوبل ذلك بفرح كبير في أوساط الحزب الحاكم، لكن حتى قرار النقل هذا يثبت أن “قانون الانتقام” هو المسيطر حاليًا في تركيا، ولقد شهدت البلاد خلال الأشهر العشرة الماضية تنفيذ إجراءات لم تشهدها حتى إبان الانقلابات العسكرية. ولا تزال هذه الإجراءات متواصلة إلى اليوم، هذا فضلًا عن أن الحزمة القضائية الأخيرة هي نتاج هذه الفكرة، ولاشك في أن توابعها آتية في الطريق.
أصدر المدعي العام قرارًا بوقف متابعة ملف الفساد، وفي الواقع، لم يكن أحد ينتظر أن يتحول ملف القضية إلى مذكرة ادعاء وأن يمثل أبناء الوزراء المتهمون أمام السلطات ليحاسبوا، لا سيما بعد كل ما شهدناه من محاولات التستر على فضيحة الفساد… وقد حان الآن دور البرلمان.
كان حزب العدالة والتنمية تقدّم بمقترح لتشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق، ويبدو أن هذا كان تكتيكًا آخر خطط له الحزب الحاكم؛ إذ لم تزاول هذه اللجنة عملها، وحصلت على مهلة إضافية، لكن النتيجة واضحة، ولقد رأيت، للمرة الأولى، لجنة “مشلولة” كهذه، وإن قرار المدعي العام سيسهّل عمل اللجنة.
وإذا كان ملف قضية الفساد قد أُغلق، وفُهم أن التحقيق فيها “انقلاب” ضد الحكومة، فلماذا لم يُرد اعتبار الوزراء الأربعة الذين اقترنت أسماؤهم بملف القضية، وأعتقد أنه يجب أن يتسلم الوزراء الأربعة مناصبهم، ولو لبضعة أيام، لتتويج هذه العملية، ما دام لا يجلس في مقعد رئاسة الجمهورية من يحتمل رفضه لإجراء كهذا مثل الرئيس السابق عبد الله جول.
إن إغلاق ملف الفساد في تركيا حدث بموجب الظرف الحالي، لكن المؤكد أن هذا الملف لن يغلَق في الضمائر بعدما رأى الجميع كمية هائلة من الوثائق والمستندات التي تم الكشف عنها، ولا يمكن التستر على صناديق الأحذية والخزائن المليئة بالأموال، ولا شك أن عجلة الدنيا ستدور يومًا من الأيام، وسيكون للتاريخ حكم في المستقبل، ومن المؤكد أن قرار إلغاء متابعة ملف الفساد يضر بحزب العدالة والتنمية في المقام الأول، وياليت العملية القانونية كانت قد سارت بشكل طبيعي، ومُنحت فرصة “تبرئة” للوزراء وأبنائهم الذين اتهموا ووردت أسماؤهم في ملف القضية، على أقل تقدير.
وخلاصة القول، لا يمكن غلق ملف الفساد17 ديسمبر، ما دام هناك ضمير وتاريخ…