(زمان التركية)ــ قرر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في مطلع أغسطس/ آب 2018 فرض عقوبات على تركيا شملت تجميد حسابات وزير العدل “عبد الحميد غول”، ووزير الداخلية “سليمان صولو” ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، عقابًا لأنقرة علي رفضها المستمر الإفراج عن القس الأمريكي “أندرو برانسون” رغم تبرئته من المحكمة التركية واستمرار وضعه قيد الإقامة الجبرية بتركيا.
ضاعف ترامب العقوبات وفرض المزيد من الرسوم الجمركية على واردات تركيا من الصلب والألمونيوم الأمر الذي أعلن نظيره التركي “رجب طيب أردوغان” رفضه بل وتعهد بمنع الأفراج عن “برانسون” وجدد الإتهامات الموجه للقس بالتجسس والتورط مع جماعات إرهابية هي (حزب العمال الكردستاني، حركة الخدمة وملهمها المفكر الاسلامي التركي “فتح الله كولن”). وقد أدت الأزمة إلى إنهيار أسعار الليرة التركية بشدة وخسرت في أسبوع واحد 40% من قيمتها ومازال الاقتصاد التركي يعاني جراء تلك الأزمة السياسية التي تعد الأعنف بين الحليفين في حلف الناتو (واشنطن، أنقرة) منذ إجتياح تركيا لقبرص في 1974. وهناك توقعات أن هذه تدفع الأزمة أنقرة للتحول التام نحو روسيا والصين لاسيما في حال قبلت عضويتها في منظمة “البريكس” وبهذا ربما تخرج تركيا من حلف “الناتو” وتخسر واشنطن كحليف إستراتيجي.
* حقيقة الأزمة المفتعلة:
منذ بدء الأزمة وكافة الأوساط السياسية ووسائل الإعلام الدولية تتناقل تصريحات “أردوغان” و”ترامب” في مباراة واضحة بينهم، فكلا منهم نموذج للقائد الشعبوي الذي يستخدم الخطابات ذات النزعة القومية الرنانة لكسب المزيد من أصوات الناخبين، لاسيما وأن حزب “أردوغان” مقبل علي الإنتخابات البلدية في تركيا ويرغب في كسب المزيد من الاصوات وتعويض الأصوات التي خسرها في الانتخابات البرلمانية ولذا شكل لجنة لإعادة هيكلة حزب “العدالة والتنمية” ولا يوجد أفضل من تحدى دولة كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وسيلة جيدة لكسب الأصوات، أما “ترامب” فهو أيضا مقبل علي إنتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي ويرغب في كسب المزيد من أصوات “الإنجيليين” الذين ينتمي إليهم “برانسون”، إذن كلا منهم يستخدم الأزمة لصالحه ولتحقيق أهدافه الداخلية، لأن “ترامب” لا يهدف لإسقاط “أردوغان” أو دفع الإقتصاد التركي للإنهيار، وهناك العديد من الأدلة على ذلك:
العقوبات التي فرضها “ترامب” علي أنقرة غير مؤثرة ولم تكن السبب الرئيسي في تراجع سعر الليرة، لأن السبب الرئيسي هو تراجع ثقة المستثمرين في الإقتصاد التركي، كما أن الليرة التركية تنخفض منذ نهاية عام 2013. ثم انخفضت منذ مطلع 2018 بنحو 30%، وبعد الإعلان عن تولى وزير المالية “بيرات ألبيراق” (صهر أردوغان) منصبه، نظرًا لأنه يفتقد أى خبرات إقتصادية. واصلت الليرة الانخفاض. كما أن الحكومة التركية الجديدة كلها تفتقد للكفاءات الاقتصادية الهامة التي ساهمت في إحداث طفرة بالاقتصاد التركي خلال الفترة (2002-2010) مثل (علي باباجان).
العقوبات الإقتصادية تعد أداة دبلوماسية يستخدمها “ترامب” مع كافة حلفائه وأصدقائه وأعدائه، فقد فرضها علي (كندا، دول الإتحاد الأوروبي، الصين، روسيا). وتركيا ليست إستثناء من بينهم، فمازال “ترامب” يفكر بعقلية “رجل الأعمال” الذي يرغب في تحقيق مكاسب فورية وعاجلة ولذا يفرض العقوبات للضغط علي الدول وتحقيق مكاسبه.
قام أمير قطر “تميم بن حمد آل ثاني” بزيارة قصيرة لتركيا يوم 16 أغسطس/ آب 2018، أعلن خلالها عن ضخ إستثمارات في الإقتصاد التركي بنحو 15 مليار دولار. مما يثير التساؤل، هل يجرؤ تميم علي ذلك دون موافقة ضمنية من واشنطن التي تمتلك أكبر قاعدة عسكرية في الدوحة هي (قاعدة العديد) وفي ظل التحالف الاستراتيجي بين الامارة الخليجية وواشنطن؟ بالطبع لا أذن التحرك القطري كان بدعم أمريكي وهذا يؤكد أن واشنطن لا ترغب في إفلاس تركيا او تهديد إقصادها.
العقوبات الأمريكية لم تشمل أى إجراء سياسي أو عسكري ضد واشنطن، فلم يتم علي سبيل المثال تبادل سحب السفراء أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي أو وقف التعاون العسكري، وما أعلن عنه من وقف توريد صفقة الطائرت الأمريكية (اف35) لانقرة هو عقاب للاخيرة لاصرارها علي الحصول على صفقة صواريخ (اس400) الروسية وليس له علاقة بقضية القس. كما أن أنقرة أرسلت وفدًا دبلوماسيًا لحل الأزمة مع واشنطن، كما أن أنقرة أعلنت استمرار التعاون الأمني مع واشنطن في سوريا (مدينة منبج بالشمال)، وهذا دليل علي أن الدولتين لا يرغبان في تصعيد الأزمة حتى حال فرض عقوبات جديدة علي أنقرة ستبقي عقوبات رمزية وليست مؤثرة ولا تقارن مثلا بالعقوبات التي تفرض علي إيران وكوريا الشمالية. لان واشنطن وأنقرة مازال بينهما العديد من نقاط التفاهم في (سوريا، العراق، الشرق الأوسط ككل) ولذا فالتواصل بينهما الأمني والاستخباراتي لن يتوقف وبالتالي العلاقات السياسية بينهما ستستمر، ربما تمر بأزمة كالحالية وربما يتعنت كل طرف لتحقيق اقصى استفادة منها ولكن سيحافظ كل طرف على الحد الادني من التعاون مع الاخر.
تهديد “أردوغان” المستمر بتحويل تحالفه إلى الشرق مع روسيا والصين، لا يمثل مصدرًا لقلق “ترامب”، لأن الأخير يرى أن “روسيا صديقة جيدة أفضل من الأوروبيين” ويسعى للإنفتاح عليها، وقد كانت قمة “هلسنكي” بين الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره الأمريكي “ترامب” دليلا على ذلك. وفي حال طرح الفرض المعاكس أن روسيا أصبحت مصدر تهديد وخطر علي الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لاسيما في شمال شرق أوروبا، فإن الأهمية الاستراتيجية لأنقرة سترتفع وتعود لفترة الحرب الباردة التي كانت فيه تركيا خط الدفاع الأول عن المعسكر الغربي. ولذا فإنه في الحالتين هناك أهمية للدور التركي في حلف الناتو أو المعسكر الغربي، والدليل علي ذلك أن قمة “الناتو” الأخيرة ببروكسل عقدت في يوليو 2018 قد منحت أنقرة مهام عسكرية جديدة تقوم بها.
هناك دليل ليس بأخير على إفتعال الأزمة بين أنقرة وواشنطن، أن البيئة الاقليمية والدولية لا تحتمل إنهيار الدولة التركية أو عدم إستقرارها، نظرًا لأهميتها التاريخية والآنية، فهي دولة تستضيف 3 مليون لاجىء سوري، وشعبها مكون من عدة عرقيات وأثنيات ولا يوجد بالمعارضة التركية بديلا “لأردوغان”، والاخير له علاقات واسعة مع تيارات الإسلام السياسي بالشرق الأوسط وتمدد إقليميا وتوغل عسكريا بسوريا والعراق وأصبح لأنقرة علاقات متشعبة كثيرا ربما تعوض قليلا عن العقوبات الأمريكية.
*حقيقة “كولن – برانسون”:
وجهت المحكمة التركية بأزمير اتهامات للقس الأمريكي “أندرو برانسون” (مقيم بأزمير التركية منذ 30 عامًا ويرعي كنيسة صغيرة بها 30 فرد) إتهامات بالتجسس ودعم تنظيمات إرهابية، وقد نفي جيمع هذه الإتهامات الغير منطقية، فكيف لقس أمريكي يتعاون مع مفكر إسلامي تركي للقيام بانقلاب بدعم الجيش التركي ضد “أردوغان”؟! وهنا نعود لنقطة البداية وهي .. الإنقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو/تموز 2016 وإتهام “جولن” بالتحريض عليه، وهو الإتهام الذي أطلقه “أردوغان” بعد 10 دقائق من إعلان فشل الإنقلاب دون أى أدلة تذكر. ومطالبة واشنطن بإعادة “برانسون” بعد تبرئه هو أكبر دليل علي رفض خدعة الانقلاب التي سعى أردوغان لتسويقها للمجتمع الدولي واصبحت ذريعة يستخدمها لقمع المعارضين وتمرير ما يرد من قوانيين يحكم بها سيطرته التامة على الحكم وليس ادل على ذلك من تحويل نظام الحكم من البرلماني للرئاسي، بيد ان المجتمع الدولي رفض تصديق هذه الخدعة رغم المحاولات المستميتة التي بذلها “أردوغان” لاقناع المجتمع التركي والدولي بتورط “جولن” فيها بيد أن هناك بعض الحقائق التي تؤكد كذب هذه الادعاءات ومنها:
اعترف “مايكل فلين” مستشار الامن القومي الامريكي السابق في عهد “ترامب” أنه تلقي عرض رشوة من “أردوغان” تقدر بنحو 15 مليون دولار لحث “ترامب” علي تسليم “جولن” لتركيا وكان هذا أحد أسباب إقالة “فلين”. فلو هناك أدلة فعلية تؤكد تورط جولن لماذا يقدم “أردوغان” رشوة لتسليمه لأنقرة؟
ينظم “أردوغان” حملات موسعة داخل وخارج تركيا “لشيطنة” “جولن” وحركة “الخدمة”، حيث تشن مواقع إخبارية وأكاديمية تابعة للتيارات الإسلامية والقومية والعلمانية حملات معادية “لجولن” بإنتظام رغم تعارض هذه التيارات فيما بينها، إلا أنها تفعل ذلك لكسب ود الدولة و”أردوغان” تحديدًا.
لا توجد أى أدلة قانونية موثقة يمكن الأعتماد قانونيًا عليها في إدانة “جولن” أو أيا من أعضاء حركة الخدمة وإثبات تورطهم في الإنقلاب الفاشل، وهذا ما أعلنته كافة المحاكم الأوروبية والامريكية والدولية، وأثبتت أن القضاء التركي أصبح قضاء “مسيس” وخاضع لرئيس الدولة.
ختاما، أن الأزمة الحالية بين أنقرة وواشنطن تضعنا أمام مقارنة بين محورين الأول هو محور “جولن – برانسون” من جهة و”أردوغان – ترامب” من جهة أخرى، فالنموذج الأول يمثله رجل الدين المثقف الساع لخدمة دينه وربه دون أى أهداف أخرى وهذا النموذج يتواجد في أى دين إسلامي أو مسيحي، والنموذج الثاني يمثله رجل السياسي الشعبوي الساع للفوز في أى معركة بأي ثمن حتى لو كان التضحية بأمن واستقرار شعبه.
كما أن الوضع الإقتصادي والسياسي التركي الحالي ليس بأسوء مما كان عليه عام 2002 عندما أوشكت الدولة على إعلان إفلاسها، بيد أن سياسات “أردوغان” آنذاك اعتمدت علي القبول بكافة طوائف الشعب وفتح المجال للعمل المدني واعتماد سياسات إقتصادية رشيدة مما حقق استقرار سياسي وطفرة تنموية وإقتصادية بالبلاد فهل يفعلها مرة أخرى.
بقلم: منى سليمان*
*باحثة في العلاقات الدولية والشأن التركي.