الليل والنهار في أدبيات كولن
وإنا لنعجب من مادة “الليل والنهار” فيما استخلصناه من تراث الأستاذ فتح الله كولن، فالليل في فكر الأستاذ حاضرٌ مهيمن، مشعٌّ نيِّر، محبوبٌ عامر؛ أمَّا النهار، فهو لاحقٌ وتابع، وهو نتيجة وثمرة؛ الليل حامل والنهار محمول؛ يقول فتح الله: “أحلك وقت للظلام هو في الوقت نفسه بشائر أنوار الفجر. والليل يحمل جنين نور النهار، ويحمل بردُ الشتاء وثلجُه جنين الربيع”. ويصفه أبلغ وصف في موطن آخر، ويقول: “أمَّا الليل فهو أوانٌ لأنواع لا يستوعبها العقل والإدراكُ من ألوان جمال الخلوة. وكلُّ وقت من هذه الأوقات يمرُّ بطعم وبلذَّة مختلفة، ثم يذهب ويغيب”.
الليل في فكر الأستاذ كولن حاضر مهيمن، مشعّ نيّر، محبوب عامر. أمّا النهار، فهو لاحق وتابع، ونتيجة وثمرة.
إنَّ للّيل “سرٌّ خاصٌّ” لا يحسُّه من يغُطُّون في فرشهم أبدَ المدَّة، ولا يعرف معناه مَن وصفهم الواصف بقوله: “نوام الضحى، سُمَّار الليالي”؛ أمَّا العاشق “فيشمُّ في كلِّ شيءٍ عطرَ حبيبه. في النسيم الهابِّ، وفي المطر الهاطل، وفي الجدول المنساب، وفي صوت الغابة، وفي غبش الصبح، وفي ظلمة الليل. وعندما يرى جماله المنعكس حواليه يجتاحه الوجد…”؛ بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم “كان يقطع المسافات المادية والمعنوية في الليل”، ولذا يحسُن بالذي يروم قطع المسافات أن “يقطعها ليلا.. ففي الليل تبتلُّ سجَّادته بالدموع عندما يخرُّ للسجود.. هنا يستطيع روحه أن يرتفع ويقطع المسافات”.. كذا “الذي تعوَّدت جدران بيوته على سماع تأوُّهاته يستطيع التسلُّق إلى آفاق تقصُر دونها المسافات.. أمثالُ هؤلاء يقطعون هذه المسافات في الليل.. والذين قطعوا هذه المسافات قطعوها ليلا. أمَّا الذين ناموا في الليالي فقد بقوا في وسط الطريق”.
رهبان في الليل فرسان في النهار
انظر مثلا إلى صحابة رسول الله رضوان الله عليهم تجدْهم أخدان ليلٍ، أبطال نهار، فترى الواحد منهم “إحدى عينيه عينُ الرهبان، والأخرى عين الفرسان؛ ففي الليل كانوا رهبانًا يذرفون الدموع في عبادتهم وسجودهم، وفي النهار كانوا فرسانًا يصولون ويجولون ويهاجمون الأعداء كالأسود”؛ وبعبارة أخرى “كان أناسيّ خير القرون -عصر النبوة- كالأُسْد في الوغى، ولكن ما إن يُرخي الليلُ سدوله حتى تراهم كالرُّهبان المتبتّلين يقيمون الليل كلَّه، في عبادة وذكرٍ وتسبيح إلى الفجر، وكأنهم كانوا فارغين في النهار”. لا عجب أن يكونوا كذلك، وقد وعوا توجيه معلِّمهم وسيدهم وإمامهم، وهو يروي حديثا عن الربِّ الكريم، ويقول فيه: «عجِب ربُّنا من رجلين: رجلٍ ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربُّنا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه، ومن بين حِبّه وأهله إلى صلاته، رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي» بخ… بخ، أولئك الخيِّرون، وألئك الفائزون!.
بهذا النفَس النبوي، وبنفحات أصحاب النبي، قاس فتحُ الله أداء “أصحابه”، وتشوَّف إلى “أبطال الخدمة ورثةِ الأرض”؛ فأصدر أمره بقوله: “يا أيها الخليل المتدثِّر في الليل بِردائه… إنَّ مهمَّةً شاقَّة مثل مهمَّة النبوة في انتظارك… قُم واعبُد ربك… فأنت في حاجة إلى أن تُشحَن من قِبل ربك؛ لأنَّ بانتظارك وظائف كبيرة عليك أن تنجزها”. وما كان “الأخلة والأصحاب” ليعصوا أوامر القائد، ولا كان بمقدور الواحد منهم أن يتلكَّأ طرفة عينٍ، وهو يعلم علم اليقين أنَّ فتح الله لا يأمر بشيءٍ إلاَّ إذا ألزم نفسه به، وهو في هذا يقول: “إذا أردتَ أن تشرح لأحدهم معنى مخافة الله والبكاء من خشيته، فعليك أولاً أن تقوم في الليل وتبلل سجادتك بالدموع”.
فرسان العمل الدؤوب
وعن الدليل الناصح الناصع على اتباع الجند أوامر الرائد، وعلى اقتفاء المقودين آثار القائد، ما حققه الشباب المهاجرون من فتوحات قلبية إيمانية لا حصر لها؛ وإنا لنقرأ لفتح الله وصفًا عزيزا، يعرِض فيه ملحمة “المهاجرين إلى أواسط آسيا وإلى مختلف أصقاع العالم”، من “جيل الأبطال”، فيقول عنهم: “هذا ما يعمله أصدقاؤنا الآن. فهم يعملون ليل نهار، وقد تركوا منازلهم وهاجروا إلى أواسط آسيا أو إلى مناطق أخرى في العالم، غير آبهين بالضيق المادي، وحاضرين حتى للتضحية بالفيوضات المعنوية… أظن أنَّ أصدقاءنا هؤلاء قد عدُّوا ما يقومون به -والذي يبدو للغير أنه في غاية الصعوبة- جزءًا لا يتجزَّأ من حياتهم، لِذا تراهم مشغولين به ليل نهار، في قيامهم وقعودهم.. في حركاتهم وفي سكناتهم”.
أولياء الحق قطعوا المسافات في الليل. أمَّا الذين قضوا لياليهم نياما فقد علقوا في وسط الطريق.
ومن أغرب ما نطالع عن الليل في فكر فتح الله، تلكم الرواية التي وردت في المصادر عن ابن مسعود رضي الله عنه والحوار الذي دار بينه وبين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولليل فيه نصيب وأيُّ نصيب، مما جاء فيها:
“بعدَ مضيِّ عدة أيام مرض ابن مسعود رضي الله عنه الذي كان من أوائل المسلمين، والذي كان من أبرز طلاب مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجأه عثمان بن عفان رضي الله عنه -الذي لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه إلى القبلتين وشهد معه معظم المشاهد- عائدا وقال له:
– ما تشتكي؟
– ذنوبي.
– فما تشتهي؟
– رحمة ربي.
– ألا آمر لك بطبيب؟
– الطبيب أمرضني.
– ألا آمر لك بعطائك؟ (وكان قد تركه سنتين)
– لا حاجة لي فيه..
– يكون لبناتك من بعدك؟!.
– أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أَمَرتُ بناتي أن يقرأن كلَّ ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من قرأ الواقعة كلَّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا”، وتوفي ابن مسعود رضي الله عنه..
ترى، مَن مِن الناس اليوم يحمل بين جنبيه قلبا خفَّاقا باليقين، كقلب ابن مسعود رضي الله عنه، وهو الذي حوى من العلم ما لم يحوه غيره، وروى من الحديث الكثير، ولازم رسولنا الكريم ثلاثا وعشرين عاما؟!
الليل والأم
والغريب أنَّ الأستاذ فتح الله يروي لنا حالةً تصيب الأمهات والآباء في “جوف الليل”، ليوظِّفها في استنفار الناس إلى “الحبِّ، والعطف، والحنان”، على شاكلة الأمِّ الرؤوم، فيقول: “عندما يبدأ الطفل بالبكاء في الليل، قد يضطرُّ الأب إلى ترك غرفة النوم إلى غرفة أخرى. ولكنَّ الأمَّ تُسرع إلى غرفة الطفل، وقد تبقى معه حتى الصباح، لأنها تحمل حنانًا لا يوصف نحو طفلها”.
وليست تلكم الرواية، ولا هاتيكم الحالة، لمجرَّد التسلية وصفِّ المعلومات، لكن ليعتبر كلُّ من عمرُه “ليل ونهار”، أنَّ “الزمن” له قدر وقيمة، وأنَّ سعادته وشقاءه متعلقان بمدى استثماره له. والحكمةُ تقضي أن نستوعب أنه “لا تبقى نقطة سوداء في حياة مَن وهب نفسه في سبيل الله، فلَيله كنَهاره. نعم إنَّ كلَّ ثانية من عمره بمثابة سنين من العبادة، كيف لا وهو في طريق الخير…”؟!
بقلم/ محمد باباعمي