خلوق أوزدالجه، نائب برلماني
أضحت تركيا اليوم جزءًا من العالَم الغربيّ بعد نهاية تَوَجُّه دام لعِدَّة قرون. وتربطها، في الوقت ذاته، روابط تاريخيَّة وثقافيَّة مع الشرق الأوسط، مركز الإسلام، لا يُمكن إهمالها.
ولا شكّ أن بناء علاقات متينة مع هاتين الثقافتين العريقتين سيصب في مصلحة تركيا في المقام الأول. ولا شك كذلك أن أشياء كثيرة يمكن لكل من الشرق الأوسط والغرب أن يربحاها من تركيا. وهذا يعني أنّ هذه العلاقات مُربحة للأطراف الثلاثة.
ويتمثل المطلب الأول لتحقيق هذه الرؤية، في أن تكون تركيا دولةً قانونيَّة ديموقراطيَّة تتمتع بالحقوق والحُريّات الأساسيَّة. وإلاَّ لن نتَمَكَّن من الوصول إلى الأهداف المنشودة في الغرب والشرق الأوسط. والمطلب الثاني هو تنفيذ هذه الرؤية، بأقلِّ الأخطاء، وعلى نحو يرتكز على تحاليل مدروسة ومؤكَّدة لإجراءات السياسة الخارجية. أمّا المطلب الثالث، والأخير، فهو ضرورة مُراعاة استخدام خطاب أكثر عناية ودقة في العلاقات الدوليَّة، والتعبير عن اختلافاتنا بأسلوب حضاريٍّ. واليوم، من أجل أن نُغيِّر الأسلوب الذي شوَّه علاقاتنا الخارجيَّة من برلين حتّى بغداد، ينبغي لنا أن نعود إلى أسلوب دبلوماسيتنا التراثيَّة الخاصَّة بنا، أي التي كان ينتهجها رجال دولتنا في عهد الجمهوريَّة والدولة العثمانيَّة. إلاَّ أن هذه المطالب الثلاثة آخذة في التدهور في السنوات الأخيرة، وقد بدأت في الانحدار متجهة نحو السقوط.
وإذا ما قُورِنَ هدف انضمام تركيا إلى عضويَّة الاتحاد الأوروبي اليوم، وعلى الرغم من أنه قد فتحت أربعة عشر فصلاً جديدًا ضمن فصول المفاوضات، بما كان عليه عند بدء مناقشة المفاوضات للانضمام في عام 2005، نجد أنَّ الهدف بات بعيدًا. كما أن الحزب الحاكم في أنقرة فقَد كرامته لدى ألمانيا التي تُعَدُّ أقوى دولة في الاتحاد الأوروبي. وإذا استمر الوضع على هذا الحال، فستتعمّق الأزمة أكثر فأكثر، ولن تكون لتركيا عضويَّة في النادي الأوروبي. وإنها لفرصة عظيمة لتركيا أن يجلس أوباما، زعيم العالَم الغربي، على كُرسيّ الرئاسة مُنذ عام 2008 في الولايات المتحدة الأمريكية. لأنه من الصعب أن نتصور، اليوم على الأقل، أن تقوم تركيا بمزيد من التعاون مع رئيس للولايات المتحدة الأمريكية لديه رؤية للتوجُّه إلى العالَم الإسلامي. ونعرف أن أوباما أيضًا يفكِّر على النحو ذاته منذ تَوَلِّيه منصب الرئاسة. وتتضح لنا جليًّا هذه الفكرة من أول زيارة لأوباما خارج البلاد إلى أنقرة في عام 2009. غير أننا لم نتمكن من تقييم هذه الفرصة أيضًا. وإن الوضع الذي آلت إليه تركيا اليوم يجعل الغرب ينظر إليها كدولة يمكن التعاون معها بالقدر اللازم لمصالحها الاستراتيجيَّة والاقتصاديَّة، بدلاً من أن تكون شريكًا فاعلاً.
أصبحت علاقات تركيا بالشرق الأوسط أشد وطأة؛ إذ يَشهد الشرق الأوسط ثلاثة صراعات جارٍ البحث في المحافل الدوليَّة عن حلول لها: “الحرب الأهليَّة في سوريا”، و”الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”، و”برنامج إيران النووي”. وثمَّة قضية حرجة أخرى، وهي المرحلة الغامضة التي تمرُّ بها مصر، رائدة العالَم العربي، والمصير الذي ستؤول إليه. ويمكن القول إن تركيا اختزلت نفسها في وضعيَّة حرجة في جميع هذه المشكلات.
فقد أفلسَت سياسة حكومة أردوغان نحو سوريا، إذ كان من الخطأ الكبير محاولة تغيير النظام الحاكم من خلال تَدَخُّل عسكري خارجي. وحتى إن سقط نظام الأسد في وقت مبكِّر، فلم تكُن أمام الجيش السوري الحر فرصة للنجاح.
والفلسطينيون في غزَّة في فقر مُدقِع منقطع النظير؛ يعانون نقصا في الطعام والأدوية والوقود والاحتياجات الأساسيَّة. وباءت المباحثات الإسرائيليَّة-الفلسطينيَّة الأخيرة، التي بدأت بمبادرة الولايات المتحدة الأميركيَّة، بالفشل قبل مُدَّة ليست ببعيدة. نتنياهو ينفِّذ خُطَّته خُطوة بخطوة، وقريبًا ستنعدم شروط دولة فلسطينية مستقلَّة، ولن تكون لها القدرة على العيش على أرض الواقع. لا جرم أن في أنقرة حكومة تحمل القضيَّة الفلسطينيَّة في قلبها، إلا أنّ تمسُّكها بالقضيَّة لم تنتج عنه منافع ملموسة، لأن المساعدات والإعانات تصل إلى غزَّة عن طريق إسرائيل ومصر فقط، وأنقرة على خلاف مع الدولتين. ويمكن أن يكون الحل هو إقامة الدولتين، بمعنى إقامة دولة فلسطين أيضًا، ولكن ذلك سيتم في حالة واحدة فقط، هي انحدار وتراجع نتنياهو. ولا تستطيع تركيا بمفردها القيام بذلك، إلا إن كان بإمكانها أن تقوم بمبادرة ذات دلالات مفيدة، في إطار التعاون مع كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركيَّة على وجه الخصوص. بَيْد أنها استنفدَتْ بالفعل رصيدها مع الغرب، ولولاه لكانت حقَّقَت تعاوُنًا معه.
عندما أسقط الانقلاب العسكري في مصر حكم الإخوان المسلمين، هاجمت أنقرة الجميع بلهجة شديدة، خصوصا الذين لم يفكِّروا مثلها ولم يستخدموا الكلمات التي تردِّدها. بل شجّعت الإخوان المسلمين على مقاومة الحكم العسكري، ولم تستطع قراءة وفَهْم مصر، ولا إخوانها، ولا الجيش المصري، بالقدر الكافي. فقد عاشت مصر تحت الحكم العسكري طوال 61 عامًا خلال السنوات الـ62 الأخيرة، كما أيّد الإخوان المسلمون أول انقلاب عسكري وقع في مصر. وكان من الواضح أن تحدِّي الإخوان المسلمين الحكمَ العسكريَّ بدلاً من الحوار، سيؤدِّي إلى قمعهم وإلى شِدَّةٍ واستبدادٍ في الحكم. وهل قاومت النماذج المثاليَّة لحزب العدالة والتنمية مثل المرحومَين نجم الدين أربكان، وطورغوت أوزال، الانقلابات العسكرية؟ ولماذا إذًا شجَّعْنا بحماسةٍ شديدةٍ العقيد عمر البشير الذي تَوَلَّى السلطة في السودان، جنوب مصر، على أثر انقلاب؟ فبات من المستحيل لتركيا، مستَنْفذة العلاقات، أن تُسهِم في تَحَوُّل مصر إلى الديمقراطيَّة.
ويبدو من المرجَّح أن تنجح المباحثات، التي تستهدف منع إيران من إنتاج أسلحة نوويَّة، بالتوافق. وهذه المباحثات ليست من أجل برنامج الأسلحة النوويَّة فحسب، بل في الوقت ذاته تُعتبر مرحلة لعودة إيران لاعبًا مؤثرًا في المنطقة. لكننا نتابع عن بُعدٍ هذه المباحثاتِ التي تعنينا بكل جوانبها، وليس لدينا أي تأثير عليها، ولو كان غير مباشر.
إن الذين يُدِيرُون سياستنا الخارجيَّة حاليًّا، لطالما انتقدوا الحكومات السابقة لأنها لم تنتهج سياسة فاعلة في الشرق الأوسط. كانوا على قدر من الصواب في هذه الانتقادات، فعلى الرغم من الرغبة الشديدة لدى الحكومة في لعب دور في المنطقة، فإن وزن تركيا في المنطقة هبط إلى أدنى مستوًى. والشرق الأوسط يشهد فترة تَحَوُّل حيويَّة، ويحتِّم التاريخ والجغرافيا على تركيا، أن تقدم إسهامات في الشرق الأوسط، خلال فترة التحوُّل، خصوصا أن على رأس تركيا حزب حاكم ذو مرجعيَّة إسلاميَّة. ولكن تركيا تعجز بشكل مأساوي، عن أداء المهمة التي تقع على عاتقها تجاه الشرق الأوسط، خلال هذه الفترة.
حقّقت تركيا بعد عام 2002، أي نحو عقد من الزمن، تطورا كبيرًا. وإذا كُنّا استمررنا عشر سنوات أخرى على هذا النحو لقفزت تركيا قفزة في الديموقراطيَّة والاقتصاد إلى مستوى اللارجعة، وانفتح الطريق أمامها على اتساعه. ولشهدنا ميلاد تُركيا إسلاميَّة في وضعيَّة قوية داخل العالَم الغربي. ولكانت تركيا قادرة على القيام بإسهامات حقيقيَّة في بحث شعوب الشرق الأوسط عن الحقوق والديموقراطيَّة والرخاء. لكننا الآن نشهد تركيا آخذة في الانحدار متجهة نحو السقوط.
دعونا الآن ننظر إلى الأمام. إن التطورات الخطيرة التي نجمت عن هجومات تنظيم داعش في العراق، تحتِّم علينا التعاون الدوليّ الشامل. وأول خطوة في هذا التعاون، ولعلها أصعبها، هي تأسيس خطة سياسيَّة صُلْبَة ترتكز على اتفاق جماعي مُتعدد الأطراف. والقضايا السوريَّة والعراقيَّة أصبحت متشابكة بعضها في بعض، وتركيا مُضطرَّة الآن إلى القيام بأقلِّ الأخطاء قدر المستطاع، لأن ثمن الخطيئة قد يكون باهظًا وقاسيًا.
ـــــــــــــــــــ
جريدة زمان التركية