بقلم: *أكرم دومانلي
برلين (زمان التركية) – استخدم النظام الحاكم في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016 كذريعة لإطلاق حركة تصفية موسعة في الجيش.
فبعد انقلاب 2016 تعرض 6 آلاف 511 عسكريا لتصفية مشينة. ماذا تعني هذه التصفية الكبيرة على الرغم من أن ضباط الجيش الذين شاركوا بالفعل في محاولة الانقلاب كانوا قليلين للغاية؟ فضلاً عن أن حركة التصفية الشاملة لم تقتصر على ضباط الجيش فقط، بل شملت أيضًا 4 آلاف و90 طالبًا من طلاب المدارس الثانوية العسكرية، و6 آلاف 100 من طلاب أكاديمية الرقباء و6 آلاف و179 طالبًا في أكاديمية الحرب.
أرقام ضحايا حركة التصفية المذكورة مصدرها وزير الدفاع السابق فكري إيشيك، وقد كشف عن التقرير الرسمي النهائي لوزارته في هذا الصدد بعد تأسيس لجنة التحقيق البرلمانية في محاولة الانقلاب الفاشلة.
وهناك سؤالان يتطلبان الإجابة عليهما لفهم انقلاب تركيا الأخير:
1) من يقرر هذه التصفية الضخمة في الجيش التركي وما هي المعايير المعتمدة في عمليات الفصل والطرد؟
2) مَنِ الكوادر الجديدة التي تم تعيينها في مناصب هؤلاء الضباط المفصولين، وما هي معايير قبول الموظفين الجدد؟
تركيا والناتو
هناك مواقف وتصريحات باعثة على الحيرة والارتباك في الأذهان أثناء البحث عن إجابة لهذا السؤال. فزعيم حزب الوطن “دوغو برينتشاك” الذي لا يجد دعمًا شعبيًّا يذكر في تركيا يعلن صراحة أنهم من أعدوا قوائم التطهير والتصفية وأحالوا هذه القائمة السوداء إلى حكومة أردوغان. إذن من هو دوغو برينتشاك؟ إنه أحد أشدّ المعارضين لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ويدعم دائمًا خطاباته بتصريحات مناهضة للولايات المتحدة والغرب عمومًا. والنزعة القومية المتطرفة ظاهرة لديه.
أنشطة برينتشاك القديمة ومواقفه الحالية تضعه في مرمى الشكوك والشبهات. فوفقًا له يجب على تركيا ترك المعسكر الأطلسي والغربي وتحفظ نفسها من الأمبريالية الأمريكية. حسنًا إلى أي معسكر يجب على تركيا أن تنضمّ إليه بحسب رأي برنتشاك إذن؟
إنه يرى أنه ينبغي على تركيا أن تختار موقعها ضمن جيوسياسي جديد داخل مثلث روسيا – إيران – الصين، أو ما يسمى بالمعسكر الأوراسي. ويدعي برينتشاك أن انقلاب 15 يوليو/ تموز تآمرٌ يقف وراءه حلف (الناتو) وحظي بدعم حكومة الولايات المتحدة. لذا تعتبر عمليات التطهير والتصفية في الجيش التركي فرصة سانحة لخروج تركيا من الناتو والتوجه إلى المحور الأوراسي. وإذا نظرنا إلى طبيعة حركة التشريد والإحلال في الجيش التركي فإنه تتبين صحة هذا الادعاء.
قد يتساءل القراء: ما هو نوع العلاقة الموجودة بين أردوغان المعروف بخطاباته الإسلامية وبين برينتشاك الذي كان من الماويين الاشتراكيين في الماضي، ثم أصبح اليوم العلماني المتشدد والعنصري المتطرف (القومية التركية الطورانية)؟ فكيف يمكن هذان المتناقضان أن يبادرا إلى إجراءات وخطوات مشتركة يا ترى؟
بعد ذكر اسم أردوغان وأقاربه ووزرائه في قضية الفساد والرشوة التي انطلقت عام 2013 حيث تبنى أردوغان نهجًا انتهازيًّا برجماتيًّا وأسس تحالفًا مع مجموعة كان وصفهم بـ”الأعداء” في الماضي القريب.
لكي يتجنب أردوغان تهمة الفساد كان بحاجة إلى الهروب والتخلص من قواعد القانون الدولي. هذا الهروب دفع بأردوغان إلى الابتعاد عن حلف (الناتو) والانضمام في النهاية إلى محور روسيا والصين وإيران. ومنذ ذلك الحين بدأ أردوغان يتخذ خطوات وفقا لهذا المحور والمسار. وسعْي أردوغان مؤخرًا لشراء أنظمة الدفاع الجوي S-400 الروسية ومن ثم قتاله ضد حلف الناتو ليس إلا نتائج طبيعية لاختياره هذا المسار الجديد من أجل إنقاذ نفسه.
اضغط لقراءة المقال باللغة الإنجليزية
جيش بلون سياسي واحد
والآن جدير بنا أن نطرح هذا السؤال الحاسم. من هم الذين يتم تعيينهم في المواقع الفارغة والوظائف الشاغرة بعد تسريح عشرات الآلاف من الضباط العسكريين وطلاب المدارس الثانوية العسكرية؟
غني عن البيان أن الأشخاص الراغبين في الانضمام إلى الجيش التركي يجب عليهم الحصول على “تزكية” من حزب العدالة والتنمية الحاكم. لذا لا يمكن لمن لا يستطيعون الحصول على تزكية الحزب الحاكم العثور على مكان لأنفسهم في الجيش التركي إذا لم تعتبر المخابرات التركية آراءهم متوافقة مع وجهة نظر أردوغان. وفي ظل هذه الظروف من المستحيل أن يعكس الجيش التركي بعد الآن التنوع السياسي الملون للشعب التركي.
من الواضح أن حزب العدالة والتنمية من سيصمّم مستقبل الجيش التركي والجنرالات والضباط الذين سيشرفون على إدارته. أما النهج العام الذي يتبناه الحزب الحاكم هو أنه معارض للمسلمين المعتدلين ومتعاطف جدا مع الجماعات الإسلامية المتطرفة. ومن المعروف كيف أن أردوغان وحزبه يميلان نحو المنظمات المسلحة الإرهابية مثل “جبهة النصرة”، وكيف سمحا لداعش بالمرور عبر الحدود السورية والعراقية بسهولة، وقدما مساعدات إلى مقاتلي داعش الجرحى في مستشفيات تركيا.
بعد الكشف عن شحنات الأسلحة التركية المرسلة إلى الجماعات المسلحة المتطرفة في سوريا قام الحزب الحاكم بإرسال النواب العامين وضباط الشرطة الذين أقدموا على هذا الفعل إلى السجن. وصرح أردوغان بوضوح في برنامج تلفزيوني مباشر بأنه سيعاقب إدارة صحيفة “جمهوريت” التي كانت قد نشرت أخباراً عن تلك الأسلحة المملوكة للمخابرات التركية. وبعد تصريحات أردوغان هذه أمرت السلطات القضائية باعتقال “جان دوندار”؛ رئيس تحرير صحيفة “جمهوريت” أشهرًا عديدة، ثم قضت المحكمة الدستورية بانتهاك حقوقه وبأن ما فعله دوندار يقع ضمن “العمل الصحفي”، مما دفع المحكمة إلى الإفراج عنه، ليضطر بعد ذلك إلى مغادرة تركيا والعيش في الخارج. وتبع ذلك اعتقال أنيس بربروغلو؛ نائب من حزب الشعب الجمهوري بتهمة الكشف عن “أسرار الدولة” بعد أن وردت مزاعم بأنه من زود الصحفي دوندار بالصور والفيديو الخاصة بأسلحة المخابرات التركية المرسلة إلى الجماعات المسلة في سوريا.
لم تفتح السلطات القضائية أي تحقيق بحق الأشخاص الذين أشرفوا على شاحنات المخابرات المحملة بالأسلحة. وأنكر أردوغان أولاً وجود أسلحة على متن الشاحنات، وقال إنها كانت تحتوي على مواد طبية وكانت ترسل إلى المجموعات التركمانية في سوريا. لكن لما كشفت لقطات الفيديو عن حمولة الشاحنات زعم هذه المرة أنها من “أسرار الدولة”، واعتبر الشرطيين وقوات الدرك الذين اعترضوا الشاحنات في مدينة هاتاي الحدودية مع سوريا “خونة” للوطن! مسئولو الحزب الحاكم ومؤيدوه تجاهلوا هذه التصريحات المتضاربة وقدمت الأكاذيب حقائق؛ ذلك أنهم رأوا قتال الجماعات المسلحة معقولاً ومشروعًا.
عسكريون راديكاليون معادون للغرب
من الآن فصاعداً بات أردوغان مشكلة ليس لتركيا فقط بل للعالم بأسره (خاصة العالم الغربي). ستضطر البلدان الغربية التي تابعت جميع عمليات التطهير والتصفية في الجيش والأجهزة الأخرى والمجتمع المدني بصمت حتى اليوم إلى العمل مع ضباط الجيش الذين تم تجميعهم من قبل الحزب الواحد وحلفاءه، ولا شك أنهم سيتخذون مواقف مناهضة للقيم الغربية.
هناك مثال صارخ أمامنا: لقد قام ضابط شرطة راديكالي معروف بتأييده الجماعات المتطرفة وحضوره دروس الشيخ “نور الدين يلديز” الموالي للحكومة التركية بعمل فظيع، حيث قتل سفير روسيا في أنقرة أندري كارلوف عندما كان يلقي خطابًا في حفل افتتاح. على الرغم من أن الحكومة حاولت إلقاء اللوم على شخص آخر إلا أن الحقيقة كانت واضحة وضوح الشمس في كبد السماء: كانت السلطة السياسية طردت عشرات الآلاف من الأشخاص من جهاز الشرطة وحلّ محلهم من الموالين لها في أعقاب تحقيقات الفساد والرشوة عام 2013. لذا كان القاتل مثالا نموذجيا لموظفي الشرطة المعينين حديثًا، إذ قتل أحد منهم السفير الروسي مع أنه كان مسئولاً عن سلامته وأمنه، ثم أطلق هتافًا راديكاليًّا عقب تنفيذه العملية. كان يجب القبض على هذا القاتل حيًّا، وكان ينبغي الكشف عن الجناة. لكن لسوء الحظ تم القبض على ضابط الشرطة المعتدي ميتاً بعد عملية بعيدة كل البعد عن الاحترافية. وحاولت الحكومة تغيير الموضوع وأجندة تركيا في البداية، ثم ألقت باللوم على أشخاص آخرين لم يكونوا على صلة بالحادث، ثم أغلقت القضية بهدوء بشكل كامل.
هناك عملية ومرحلة صعبة للغاية تنتظر كلاً من الناتو وتركيا. فبمجرد ظهور ثمار التغيير في بنية الجيش التركي ستتغير وجهة ومسار الطرفين. وسيضطر حلف الناتو للعمل مع ضباط عسكريين متطرفين معادين للغرب وقيمه. وهذا الأمر سيسفر عن مشاكل كبيرة في تحديد ووضع الاستراتيجيات وتبادل المعلومات الاستخبارية. الحقيقة أنه قد بدأ التشكيك فعلا في ما إذا كانت تركيا شريكا موثوق فيه لحلف الناتو أم لا. وبالتالي فإن تحليل المشاكل الضخمة التي تنتظر الناتو وتركيا في المستقبل القريب مطلب أمني وضروري.
على الرغم من كل هذه المشاكل أود أن أقول إن الشعب التركي لا يزال يرغب في دولة دستورية ديمقراطية تحررية من خلال حماية هويتها الثقافية الخاصة. ولا يمكن التضحية بهذه الرغبة الاجتماعية من أجل مغامرات رجل واحد يحاول إخفاء جرائمه، ولا تستطيع تركيا التضحية بديمقراطيتها للسياسيين المغامرين الذين يسعون لتحويل البلاد من مصافّ الدول الديمقراطية التي هي أكثر احتراما لحقوق الإنسان واستقلالاً لجهاز القضاء إلى فئة الدول القمعية الاستبدادية.
* رئيس تحرير صحيفة زمان التركية سابقًا
ترجمه من الإنجليزية: محمد عبيد الله