تقرير: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – أصدر موقع “زمان التركية” بالتعاون مع مركز “نسمات” للدراسات الاجتماعية والحضارية تقريره الثالث لهذا العام الذي يحاول الكشف فيه عن خيوط ما يسمى بـ”الانقلاب الفاشل” الذي شهدته تركيا في 15 تموز / يولويو 2015.
يتكون التقرير من 70 صفحة ويضم 5 محاور رئيسية وهي ” الخدمة في مرمى الانقلابيين منذ 1997″ و”لماذا الخدمة؟” و”خطة أرجنكون للقضاء على الخدمة” و”استهداف أردوغان لحركة الخدمة” و”السعي لهيكلة الجيش”.
ومما يلفت النظر أن التقرير مدعم بالمعلومات والأدلة ومصادرها الأصلية باللغة التركية، ومما يضفي عليه الموضوعية والحيادية أنه حاول الابتعاد عن الاعتماد على مصادر تصنَّف ضمن “مصادر حركة الخدمة” المتهمة بتدبير الانقلاب الفاشل، بل 95% من المصادر المذكورة في هوامش التقرير إما مصادر مقربة من السلطة الحاكمة أو مصادر معارضة للحركة.
كشف التقرير عن غرضه قائلاً: “هذه الدراسة محاولة لإزاحة الستار عن خيوط الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في 15 يوليو/تموز 2016 والذي أسفر عن خضوع 402 ألف شخص لتحقيقات جنائية، واعتقال ما يقارب 80 ألفًا، بينهم 319 صحفيًا، وإغلاق 189 مؤسسة إعلامية، وفصل 172 ألفًا من وظائفهم، ومصادرة 3003 جامعة ومدرسة خاصة ومساكن طلابية، بالإضافة إلى وفاة نحو 100 شخص في ظروف مشبوهة أو تحت التعذيب أو بسبب المرض جراء ظروف السجون السيئة، وفرار عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد”.
وأرجع التقرير جذور انقلاب 15 يوليو / تموز 2016 إلى ما سمي بـ”انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 الناعم”، أو بشكل مختصر “عملية 28 فبراير الانقلابية” قبل 21 سنة، التي استهدفت الحكومة الائتلافية بين حزب الرفاه “الإسلامي” وحزب الطريق القويم “اليميني” في الظاهر وإن كان المجتمع المدني هو هدفها الأساسي، مؤكدًا “أن ما فعله أردوغان من خلال تدبير انقلاب صوري على ذاته ليس إلا ’تتمة دموية‘ لذلك الانقلاب في 1997”.
واستدل على صحة هذا التشخيص بتصريحات أدلى بها شخصيات عسكرية وسياسية كانت حرضت ونفذت انقلاب 1997 وتقِف اليوم في الخندق ذاته مع أردوغان وتتهم حركة الخدمة بتدبير الانقلاب الفاشل، منها زعيم حزب الوطن اليساري العلماني المتطرف “دوغو برينتشاك” الذي أكد “أن تركيا عادت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 إلى برنامج عملية 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) عقب تعرضها للانقطاع”.
ويعزز هذا التشخيص أيضًا رئيس الأركان العامة السابق “إيلكار باشبوغ” الذي سبق أن سجن في إطار قضية أرجنكون، فقد قال: “أردوغان كان أفضل شخصية لمكافحة تنظيم فتح الله، لولاه لما قطعنا شوطًا بعيدًا في هذا الصدد”.
لماذا يعد أردوغان أفضل شخصية لمكافحة حركة الخدمة؟
يجيب على هذا السؤال المثير الكاتب الصحفي من جريدة آيدينليك “صباح الدين أونكبار” بقوله: “بغضّ النظر عن حبكم أو كراهيتكم للرجل، فإن أردوغان كان الترياق الشافي لسمّ تنظيم فتح الله كولن… ولا يمكن لأحد إطلاقًا أن يحل محله في هذا الأمر. تخيلوا أن الآلاف من النساء المحجبات من هذا التنظيم قابعات في السجون! لو لم يكن أردوغانُ الحاكمَ في تركيا اليوم لكانت هناك دعاية بأن هذه الخطوة هدفها معاقبة النساء المحجبات. لذا فإن الطريقة التي يتبعها أردوغان مهمة للغاية للنجاح في تصفية تنظيم كولن…!”
لقد حاول التقرير الإجابة على سؤال: “لماذا حركة الخدمة مستهدفة من قبل العلمانيين المتطرفين من خلال انقلاب 1997 والإسلاميين المتشددين من خلال الانقلاب الفاشل في 2016؟” أيضًا، إذ نوه بأن العلمانيين “المتطرفين” كما تذرعوا بوجود “رجعية دينية” تتمثل في “حركة الخدمة” للانقلاب على الحكم في تركيا عام 1997 والانفلات من قيود القانون والدستور، كذلك حكومة الإسلاميين المتطرفين زعمت أن ما سمته “الكيان الموازي” دبر “انقلابًا أمنيًّا وقضائيًّا” عليها من خلال تحقيقات الفساد والرشوة في 2013 و”انقلابًا عسكريًّا” في 2016، وذلك من أجل إعلان حالة الطوارئ في البلاد بغية إعادة تصميم أجهزة الأمن والقضاء والجيش على مقاسها ومن ثم تأسيس النظام الجديد الذي أعلن عنه رسميا بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في حزيران الماضي.
وانتهى التقرير إلى أن حركة الخدمة في كلتا الحالتين لم تكن إلا ذريعة تشبث بها العلمانيون المتطرفون والإسلاميون المتشددون على حد سواء من أجل تنفيذ مشاريعهما المعارضة للقانون والدستور.
لتحميل التقرير بصيغة بي دي أف انقر
مواضع الخلاف بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية
ثم تطرق التقرير إلى مواضع الخلاف بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية قبيل محاولة الانقلاب، والتي تمثلت في رغبة أردوغان إجراءَ تصفيات في الجيش بحجة الكيان الموازي على غرار ما جرى في جهازي الأمن والقضاء من قبل، ليعزل من يريد ويحل محلهم موالين له، كما كانت هناك إرادة لأن يتحول الجيش من الحاضنة الأطلسية إلى الحاضنة الأوراسية، خاصة بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا عام 2015، بالإضافة إلى التعاون مع التنظيمات الإرهابية في الداخل والخارج، ودفع الجيش للتدخل العسكري في سوريا، وكل هذه الأمور شكلت أبرز نقاط الخلاف الرئيسية بين الطرفين، خاصة بعدما عبرت قيادات نافذة في المؤسسة العسكرية عن معارضة هذه الأمور علنا، فقد ذكر التقرير التصريحات التي أدلى بها المسئول والقائد الأعلى في الجيش رئيس الأركان حينها نجدت أوزل بخصوص مسألة تصفية قيادات وضباط في الجيش التركي بذريعة الكيان الموازي في سبتمبر/ أيلول 2014 إذ قال: القوات المسلحة لا تتحرك إلا في إطار الأدلة والوثائق. لقد طالبنا كلاًّ من الأمن والاستخبارات بتزويدنا بمعلومات في هذا الموضوع، غير أنه لم تصلْنَا أية معلومات عنهما، فلا يمكننا إطلاق عمليات بناءً على بلاغات غير موقعة. نحن نقوم بما يلزم في إطار القوانين”.
أما في ملف المسألة الكردية فقد نقل التقرير عن رئيس الأركان أوزل قوله بحق إجراء أردوغان ما سماه “مفاوضات السلام الكردية” مع زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل عبد الله أوجلان: “نحن لا علم لنا بخارطة الطريق للحكومة فيما يتعلق بمفاوضات السلام الكردي مع حزب العمال الكردستاني، لذا لا دور لنا في هذه العملية. لكن إذا تم تجاوز خطوطنا الحمراء فإننا لن نتردد في القيام بما يجب”.
كما اعتبر التقرير تنفيذ قوات الشرطة بالتعاون مع قوات الدرك عملية بأمر النيابة العامة ضد ثلاث شاحنات كبيرة تابعة للمخابرات محملة بالأسلحة والصواريخ في طريقها إلى الأراضي السورية بمدينة هاتاي الحدودية ضمن مساعي الجيش التركي للكشف عن تورط أردوغان في التعاون مع التنظيمات الإرهابية وتشكيل رأي عام معارض له.
وتابع التقرير: “بحلول عام 2014 زادت ضغوطات أردوغان وإعلامه على الجيش التركي للتدخل العسكري في الأزمة السورية، إلا أن رئيس الأركان الحالي خلوصي أكار رفض ذلك في فبراير/ شباط 2016 بصورة قاطعة معلنًا استحالة هذا الأمر ما لم يكن هناك قرار صادر من الأمم المتحدة، الأمر الذي أحبط آمال أردوغان من جهة ودفعه إلى البحث عن بدائل أخرى في هذا الصدد من جهة أخرى”.
وانطلاقًا مما سبق تبين أن العلاقات بين أردوغان وقيادات القوات المسلحة لم تكن مريحة لكليهما. فأردوغان كان يسعى لتحويل الجيش إلى “أداة طيعة” في يده باستغلال ذريعة “الكيان الموازي” ليحقق طموحه الداخلي في انتقال البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي؛ وحلمه الخارجي في إسقاط النظام السوري برئاسة بشار الأسد الذي بات يمثل له مسألة شخصية وعقدة نفسية، غير أن أردوغان شعر بأن الجيش لن يسمح له باستغلاله لتحقيق هذه الطموحات.
وأفاد التقرير أن ما أدلى به أردوغان من تصريحات ليلة الانقلاب الفاشل على نيته المبيتة في إعادة هيكلة الجيش وفق أهوائه حيث قال: “هذه المحاولة في التحليل الأخير لطف كبير من الله من أجل تطهير القوات المسلحة من العناصر التي من المفترض أن تكون خالية ونقية منها أصلاً.” كما يدل قوله في ذات التصريح: “واتخاذُ مثل هذه الخطوة قبيل عقد مجلس الشورى العسكري مطلع شهر أغسطس/ آب المقبل (2016) له دلالته؛ فالبعض توقعوا ما سيحدث في هذا الاجتماع، فبادروا إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة”، على أنه كان يخاف من قيام الجيش بفتح “ملفَّات شائكة” كدعم داعش والعمال الكردستاني وتوظيفهما في ذلك الاجتماع، مع إبراز الأدلة والوثائق، ولذلك كان يبحث عن “ذريعة” قبل انعقاد هذا الاجتماع ليقوم بحركة استباقية وينقذ نفسه من الضغوطات العسكرية المحتملة.
ولفت إلى أن التصريحات الصادمة التي أدلى بها زعيم حزب الوطن “دوغو برينتشاك” المحكوم عليه سابقًا في قضية أرجنكون في اجتماع عقده مع كبار المسئولين الإيرانيين بطهران حول التصفيات الشاملة في الجيش وأجهزة الدولة الأخرى تكشف الصورة الكاملة لهذا الانقلاب المدبر؛ إذ أعلن أنهم مَنْ أعدوا قوائم الأسماء التي تمت تصفيتها وأنهم استطاعوا تصفية “30 ألف جنرال وعسكري موالين للناتو” بعد الانقلاب الفاشل. بمعنى أن برينتشاك أعلن من “إيران” أنهم قاموا بتصفية الجنرالات والضباط الأتراك الموالين للناتو بعد هذا الانقلاب المدبر بفضل لافتة “جريمة الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن” الجاهزة من جانب، ويفتخرون من جانب آخر بأنهم عينوا مكانهم الجنرالات والضباط الموالين للمعسكر الأوراسي ممن كانوا حوكموا سابقًا في قضية أرجنكون بتهمة التجسس العسكري وتسريب وبيع “الوثائق السرية للأمن والجيش التركي، إلى ستّ دول بينها إسرائيل واليونان”.
الانقلاب الذاتي من أجل توسيع الصلاحيات
وتعرض التقرير في خاتمته لما ما وصفه الكاتب “بروس. و. فاركا” بـ”الانقلاب الذاتي” (Self- coup) إذ يعرفه بقوله: “مصطلح الانقلاب الذاتي يُطلق على انقلاب يقوده الجالس على قمة هرم السلطة في أي بلد ضد نفسه من أجل توسيع صلاحياته بصورة مخالفة للدستور المعمول به”.
فيما فصل الكاتب”كارلسون أنيانغو” هذا الطرح قائلاً: “في مثل هذه الظروف التي يحاول فيها الزعيم الأعلى حبك انقلاب ضد شخصه، تحصل السلطة الحاكمة على صلاحيات فوق الدستور، فتغيّر شكل النظام المطبق تمامًا، وتقود البلاد إلى نظام جديد مختلف كاملاً، وذلك بدعم سري أو علني، وأعمال تحريضية يقوم بها الجيش. لكن ما يحدث في الأصل هو إسقاط السلطة الحاكمة للنظام الدستوري القائم وإحلالها نظامًا دستوريًّا جديدًا. ويُطلق على هذا الوضع مصطلح “الانقلاب الذاتي أحيانًا”.
واختتم التقرير الذي أشرف على إعداده الكاتب الصحفي المخضرم ياووز أجار بقوله: “وكما أن التقارير الاستخباراتية الدولية الحالية تبرئ ساحة الخدمة من تهمة الانقلاب الفاشل وتكشف يد أردوغان فيه، كذلك فلا شك أن القضاء التركي سيصدر حكم البراءة لها فور تحرره من القبضة الحديدية لأردوغان وسيكشف عن المجرمين الحقيقيين الذين دبروا ونفذوا هذه المسرحية الانقلابية”.