الخط الكوفي
اعتمد تطور الخط العربي في بداياته الكوفية، على خط البسط بشكل أساسي، وهذه التسمية سادت وأصبحت تُطلق على كل الخطوط التي تميل إلى التربيع والهندسة أينما كتبت وأيًّا كانت درجة تطورها أو اختلافها عن الخطوط الكوفية الأولى، غير أن الكوفة عرفت نوعين آخرين إلى جانب الخط القاسي؛ نوع مخفف لين هو خط التحرير، ونوع يمكن اعتباره جمعًا بين النوعين السابقين هو خط المصاحف الذي اهتمت المصادر التاريخية بتناوله، وكان معتمدًا في كتابة المصاحف الكبرى التي تُوقف للمساجد. وكان من أبرز كُتَّابه الأوائل مالك بن دينار الوراق، وخشنام البصري. أما أقدم فنان متميز في الخطوط الكوفية التي تذكره المصادر، فهو خالد بن أبي الهياج الذي كتب عددًا من المصاحف وكُتُبِ الأخبار والأشعار، وكان أول من خطَّ كتابة تزيينية على المساجد؛ حيث خطّ على جدار القبلة في المسجد النبوي الشريف أربعًا وعشرين سورة من القرآن الكريم.
واستمر الخط الكوفي في التطور وتصاعد الاهتمام بالخطوط الليِّنة، مما وضع الخطوط الكوفية في الظل لمئات من السنين.
الخط الموزون
تعود أصول الخطوط الموزونة إلى خط التقوير الذي كانت بداية ارتقائه الفني في الشام، بعد تعريب الدواوين في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، واختراع نوع من الورق عرف بالقرطاس الشامي. وتُنسب النقلة الأولى في هذا الارتقاء إلى قطبة المحرِّر، وهو أول من أطلق عليه لقب محرِّر. ابتدع قطبة قلم الطومار، واشتق منه ثلاثة أقلام أصغر ليكتب بها على قطوعٍ مختلفة من القرطاس تتفق مع أهميتها الإدارية.
وفي أوائل العصر العباسي طوّر كل من الضحاك بن عجلان الشامي ثم إسحق بن حماد ما بدأه قطبة، فبلغ عدد الأقلام اثني عشر قلمًا، وأصبحت هناك مدرسة للإبداع الخطي انتهت إلى إبراهيم السجزي (أو الشجري)، الذي استحدث قلمين أصغر من الطومار أطلق عليهما الثلثين والثلث (بالنسبة إلى الطومار).
أما النقلة الأهم فقد تمَّت على يد الأحْول المحرر، وكان تلميذًا مبدعًا لإبراهيم السجزي، قام بترتيب الأقلام الثقال بدءًا من الطومار، ثم الثلثين والسجلات فالعهود والمؤامرات ثم الأمانات والديباج فالمدمج والمرصّع ثم قلم النسّاخ. وينسب إليه اختراع خفيف النصف وخفيف الثلث، والمسلسل، وغبار الحلية، وخط المؤامرات، وخط القصص والحوائجي.
الخط المنسوب
كانت الخطوط الموزونة قد وصلت إلى درجة من التطور، فأصبح لها نسب قياسية خاصة، وبلغ عدد أقلامها أربعة وعشرين قلمًا عندما ظهر الخطاطان العبقريان الوزير أبو علي محمد بن مُقْلة ثم أخوه أبو عبد الله الحسن بن مقلة، اللذان نقلا الخط العربي نقلة فنية نوعية، فتوصل أحدهما -أو كلاهما- في بدايات القرن الرابع الهجري، إلى تأليف ستة أنواع من الخطوط هي: الثلث، والريحان، والتوقيع، والمحقَّق، والبديع، والرقاع. وهندس أحدهما مقاييسها وأبعادها، ووضع معايير لضبطها والوصول بها إلى صيغ جمالية محكمة، معتمدًا في ذلك على العلاقة بين النقطة والدائرة والخط. فجعل حرف الألف الذي حدد طوله بعدد من النقاط، قطرًا لدائرة ونسب إليه الحروف جميعًا، فكانت هذه انطلاقة الخط المنسوب الذي أبدع فيه عدد من الخطاطين طوال قرن من الزمن ليصل إلى محمد بن السمسماني ومحمد بن أسد الكاتب البزاز البغدادي الذي نقل كتابًا عن ابن مقلة، وكان هذان أستاذين تتلمذ عليهما الخطاط البغدادي المبدع أبو الحسن علي بن هلال الذي أشتهر بـابن البواب.
درس ابن البواب خطوط ابن مقلة دراسةً معمقة مدققة استطاع بعدها أن يطور أسلوبه والقواعد التي وضعها للخط المنسوب، ولقد دقق ياقوت المستعصمي خطوط ابن مقلة، وخطوط ابن البواب بشكل خاص، وتوصل إلى اختراع طريقة غير مسبوقة في بري القلم؛ مما شكل نقلة جمالية كبرى في تجويد الأقلام الستة المنسوبة جميعًا.
ونافست مصر العراق فطورت أنواعًا جديدة من الكوفي، وتطور تدريسه فيها حتى أصبح له معلمون متخصصون متفرغون لتعليمه، يعملون بناء على أسس محددة، وقد أدى هذا إلى تطور كبير في خطي الثلث والثلثين. وفي الوقت نفسه، ظهر وتطور في فارس خط التعليق، وقد اكتسب خصائصه المعروفة في القرن السابع الهجري، ليقوم خطاط مبدع في القرن التاسع الهجري هو مير علي التبريزي بابتداع وتجويد خط متطور عنه سمي نسخ التعليق أو نستعليق، يمتاز بالرقة والرشاقة والتناغم الجميل بين الرقة والغلظ في كتابة حروفه ومدّاته، ووضع له نسبًا خاصة، وقد اشتهر باسم الخط الفارسي.
المدرسة العثمانية
يمكن القول إن تطور خط النسخ في الشام، والثلث والثلثين في مصر، شكّلا منهلاً نهل منه الخطاطون الأتراك، وأساسًا اعتمدوا عليه ليحدثوا نقلة مهمة في تجويد بعض أنواع الخط المنسوب. وقد برز في أواخر القرن التاسع خطاطان اتبعا طريقة عبد الله الصيرفي البغدادي كان لهما دور كبير في تطور تجويد الخط العربي. أولهما الشيخ حمد الله الأماسي الذي جمع خطوط ياقوت، المحفوظة في الخزانة العثمانية، فدرسها وانتقى من حروفها أجمل الأشكال والأساليب، لتكون هاديًا ودليلاً له في تطويره للأداء الجمالي للخطوط المنسوبة، وثانيهما الخطاط أحمد القره حصاري الذي برع في التراكيب والتشكيلات الخطية. وقد أدى التنافس بينهما إلى توسيع دائرة المجودين لتنتهي في أواخر القرن الحادي عشر الهجري إلى الحافظ عثمان بن علي الخطاط المجود الشهير، صاحب المصاحف الذي استقرت الأقلام الستة بطريقته.
ثم أتى الخطاط المبدع مصطفى راقم في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، ليضع اللمسات الأخيرة على طريقة تجويد جليّ الثلث التي لا تزال متبعة حتى الآن. وقام الخطاط سامي أفندي بتطوير الأرقام وعلامات التشكيل وإشارات الحروف المهملة، حتى بلغت شكلها المعروف اليوم.
وقد تسابق الخطاطون في تراكيب خط الثلث وجليّه، مما أدى إلى تطور جمالي كبير فيها كان من نتيجته إجراء بعض التعديلات في مقاييس بعض الحروف بما يخدم التشكيل الخطي، وإحداث علاقات من التناغم بين غلظ القلم ورقة التشكيل وإشارات الحروف المهملة. وانتهى تجويد الثلث والنسخ والرقاع إلى فرعين على درجة عالية من الجمال، يقف على رأس أولهما الخطاط قاضي العسكر مصطفى عزت، ويقف على رأس الثاني الخطاط محمد شوقي.
المدارس العربية الحديثة
استمر الخط العربي في العراق لينتقل نقلة نوعية تتميز بالقوة والجمال، على يد الخطاط الكبير هاشم محمد البغدادي الذي جود جميع أنواع الخط العربي بخصوصية كانت أساسًا لمدرسة العراق الحديثة تجمع ميزات المدرسة العراقية والمدرسة المصرية والمدرسة التركية.
وفي الشام، انتهى الأمر إلى الخطاط مصطفى السباعي الذي كان هو والخطاط التركي يوسف رسا وتلميذه ممدوح الشريف، أساتذة للخطاط بدوي الديراني الذي جود جميع الخطوط بأسلوب متميز جميل، وطبع خط التعليق بطابعه الخاص، كما طور طريقة جميلة من الخط الديواني بالإضافة إلى إجادته للخط الكوفي، مما جعله رأسًا للنهضة الخطية في الشام.
أما في مصر، فقد استمر الخط العربي عبر عدد كبير من الخطاطين، فبرز الخطاط محمد مؤنس الذي أخذ الخط عن والده وبرع فيه، وكان صاحب النهضة الخطية الحديثة في مصر، ودرّس عددًا كبيرًا من الخطاطين، ووضع كتاب “الميزان المألوف في وضع الكلمات والحروف”.
وعدد كبير من الأساتذة الذين درّسوا في مدرسة تحسين الخطوط الملكية، وكان من أبرزهم الخطاط التركي عبد العزيز الرفاعي، والخطاط مصطفى غزلان، والأستاذ يوسف أحمد، والخطاط محمد حسني الدمشقي الذي برع كثيرًا في التراكيب الخطية التي ابتدع فيها أسلوبًا خاصًا اتبُع من بعده.. ويضاف إلى هؤلاء عدد كبير من الخطاطين الأعلام، أمثال محمد إبراهيم الذي افتتح في الإسكندرية مدرسة خاصة لتعليم الخط، والأستاذ سيد إبراهيم والأستاذ محمد عبد القادر كبير مفتشي مدارس تحسين الخطوط المنتشرة اليوم في أنحاء مصر.
وفي المغرب العربي، حافظ الخط العربي على بعض سمات الخطوط الأولى، وظهرت أولى أساليبه في القيروان، كاشتقاق يحمل سمات جمالية خاصة عالية من خط المصاحف الكوفي عُرف بالخط القيرواني، ثم تطور عنه خط نُسب إلى المهديّة. وتطور في الأندلس نوعان أساسيان، أحدهما تكثر فيه الزوايا سُميّ بالكوفي الأندلسي، والآخر تكثر فيه الانحناءات والاستدارات سُمي بالقرطبي أو الأندلسي، حيث استخدم في نسخ المصاحف والكتب، وكان لتعليمه تقاليد خاصة في الأندلس والمغرب. وقد ساد هذا النوع في المغرب العربي كله حتى أواخر حكم الموحدين. ثم ظهر الخط الفاسي، ثم السوداني أو التمبكتي (نسبة إلى تمبكتو في مالي) ويمتاز بكبره وغلظه، والتونسي الذي يعد أكثر الخطوط المغربية مرونة، والجزائري وهو حاد الزوايا.
ويستخدم الخطاطون في المغرب العربي أقلامًا تختلف عن أقلام المشارقة من حيث بريها وقطتها التي تميل إلى الاستدارة. وفي العقود الأخيرة، شاع استخدام الخطوط العربية المشرقية للاستخدامات الفنية بشكل كبير، وأقبل الخطاطون المغاربة على تعلمها وتجويدها.
وقد ظهرت في البلدان العربية تصاميم فنية لخطوط جديدة، وتم إحياء وتطوير بعض أنواعها الجميلة المهملة، وانتشرت اللوحات الخطية ومعارضها، إلا أن الخط العربي لم يعد يلقى العناية والتشجيع اللازمين بما يكفي من الجهات الرسمية، وأصبح يعتمد في بقائه ونموه على الجهود الفردية لفنانيه وعشاقه ومحبيه، وبعض المدارس والمراكز التعليمية الفقيرة.
https://www.youtube.com/watch?v=rUDTsoSyFXM
بقلم/ علي عفيفي علي غازي