تقرير: ياوز أجار
نقدم اليوم لمتابعي موقع “زمان التركية” الحلقة السادسة من التقرير الذي يحاول تحليل أبرز الأحداث التي شهدتها تركيا منذ الانقلاب الناعم في 1997 حتى الانقلاب الفاشل في 2016.
6ـ فضيحة تسليح التنظيمات الجهادية
بحلول عام 2014 زادت ضغوطات أردوغان وإعلامه على الجيش التركي للتدخل العسكري في الأزمة السورية، إلا أن رئيس الأركان الحالي “خلوصي أكار” رفض ذلك في فبراير/ شباط 2016 بصورة قاطعة معلنًا استحالة هذا الأمر ما لم يكن هناك قرار صادر من الأمم المتحدة(64)، الأمر الذي أحبط آمال أردوغان من جهة ودفعه إلى البحث عن بدائل أخرى في هذا الصدد من جهة أخرى.
رئيس الأركان خلوصي أكار: لن ندخل سوريا أبدًا ما لم يكن هناك قرار صادر من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة!
نظرًا لأن امتداد العمال الكردستاني في سوريا؛ حزب الاتحاد الديمقراطي، لم يرض بالاشتباك مع قوات الأسد بدأ أردوغان يعول على التنظيمات الجهادية كجبهة النصرة وأحرار الشام وداعش أكثر في عام 2014 لتوسيع نفوذه على الأراضي السورية.
وفي 19 يناير/ كانون الثاني 2014 شهدت مدينة هاتاي الحدودية حادثة مدوية صادمة للشارع التركي والدولي، فقد نفذت قوات الشرطة بالتعاون مع قوات الدرك عملية بأمر النيابة العامة ضد ثلاث شاحنات كبيرة تابعة للمخابرات محملة بالأسلحة والصواريخ في طريقها إلى الأراضي السورية. وقد حاول أردوغان في البداية التكتم على الموضوع، ونفى إيقاف الجيش لهذه الشاحنات، وكذب كونها تابعة للمخابرات، مدعيًا أنها شاحنات مساعدة تابعة لهيئة الإغاثة الإنسانية (IHH)، ثم اضطر إلى القبول عقب نشر الوثائق الخاصة بها، وزعم هذه المرة أن حمولة هذه الشاحنات كانت مساعدات إنسانية وليست أسلحة. لكن بعد ثلاثة أيام (21 يناير/ كانون الثاني) نشرت صحيفة “آيدينليك” الموالية لأرجنكون صورا فوتوغرافية لحمولة الشاحنات لتكشف أن “المساعدات” المزعومة ما هي إلا عبارة عن صواريخ. ثم نشرت صحيفة جمهوريت في 29 مايو/ أيار 2014 مقطع فيديو يكشف ملابسات إيقاف شاحنات المخابرات والأسلحة بداخلها.
ساق أردوغان ومسئولون حكوميون مزاعم مختلفة بل متناقضة لما كانت تحويه تلك الشاحنات، حيث ادعى أردوغان في 24 يوليو/ تموز 2014 أن الشاحنات كانت تحمل مساعدات إلى التركمان، وهذا كان رأي رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ووزير الداخلية الأسبق “أفكان علاء” أيضا. لكن “ياسين أقطاي”؛ نائب رئيس حزب العدالة والتنمية وأحد مستشاري أردوغان، صرّح بأن الشاحنات كانت محملة بالأسلحة ومتجهة إلى الجيش السوري الحر. بينما أنكر “إبراهيم كالين”؛ كبير مستشاري أردوغان والمتحدث باسم الرئاسة تلك التصريحات، زاعمًا أن المخابرات لم ترسل قط شاحنات أسلحة إلى أي مجموعة من المجموعات المعارضة المقاتلة ضد النظام السوري. ثم خرج عضو حزب الحركة القومية السابق الذي تسلم فيما بعد منصب نائب رئيس الوزراء طغرول توركاش نافيًا كل هذه المزاعم ومقسمًا: “والله إن تلك الشاحنات لم تكن مرسَلة إلى التركمان أبداً.” كما خرج نائب رئيس المجلس التركماني السوري حسين العبد الله لينفي صحة كل مزاعم أردوغان في تصريحات أدلى بها في 4 يناير/ كانون الثاني 2014 قائلاً: “لم نحصل من حكومة أنقرة على أي مساعدات مسلحة أو أي شكل من أشكال المساعدات”(65).
ورغم هذه التصريحات المتناقضة، ونشر صحيفتي آيدينليك وجمهوريت المعارضتين بشكل صارخ لحركة الخدمة لهذه الأخبار، فإن أردوغان المسيطر على معظم وسائل الإعلام سوق هذه الحادثة باعتبارها دليلاً على تغلغل ما أسماه “الكيان الموازي” داخل المؤسسة العسكرية وانتهز هذه الفرصة لإعداد الرأي العام وتوجيهه إلى ضرورة إجراء التصفيات التي كان يخطط لها منذ زمن وإعادة هيكلة كافة الأجهزة لتتوافق مع المشاريع التي يريد تنفيذها على الأراضي السورية. ومن الغريب جدا اتهام أردوغان لجريدة “جمهوريت” المعروف عنها عداؤها الشديد لحركة الخدمة طوال تاريخها بالتبعية للكيان الموازي، والكشف عن أسرار الدولة. وعدم تعرضه لصحيفة آيدينليك مع أنها كانت أول من نشر خبر الشاحنات قبل جمهوريت بنحو 5 أشهر.
رئيس المخابرات هاكان فيدان: من الممكن أن نرسل أربعة من رجالنا إلى الجانب السوري،
ليقوموا بإلقاء صواريخ على الجانب التركي من هناك، من أجل خلق ذريعة لازمة للتدخل العسكري في سوريا
7ـ اختلاق ذريعة للدفع بالجيش إلى سوريا
في 24 من مارس/آذار عام 2014 اهتزت تركيا أيضًا إثر تسريب تسجيل صوتي رُفع على موقع يوتيوب من حسابٍ بعنوان “@secimgudumu”، تضمن المحادثات التي جرت في اجتماعٍ حضره كلٌّ من وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو ومستشار وزارة الخارجية فريدون سنرلي أوغلو ورئيس المخابرات هاكان فيدان والقائد الثاني للأركان فريق أول ياشار جولر.
ورغم الفضيحة التي شكلتها إمكانية تعرض اجتماع مهم وسري إلى هذه الدرجة للتنصت وتسريبه إلى الإعلام الاجتماعي فإن محتوى المحادثات التي تضمنها هذا الاجتماع كان أفدح وأخطر، فقد كشف داود أوغلو في التسجيل الصوتي عن رغبة أردوغان في تنفيذ عملية عسكرية في سوريا، بينما قال فيدان: “من الممكن أن نرسل أربعة من رجالنا إلى الجانب السوري، ليقوموا بإلقاء صواريخ على الجانب التركي من هناك، من أجل خلق ذريعة لازمة للتدخل العسكري في سوريا إن تطلب الأمر ذلك”. وأكد أن الحدود التركية – السورية لا تفرض عليها رقابة صارمة، وأن تركيا من الممكن أن تشهد تفجيرات في أي مكان؛ فيما كان الجنرال جولر يلفت الانتباه إلى ضرورة نقل أسلحة وذخائر إلى المعارضة السورية تحت إشراف المخابرات، وأوضح أن القطريين يبحثون عن ذخائر مقابل أموال، وأنه في حال إصدار وزراء معنيين تعليمات يمكنهم أن يطلبوا من مؤسسة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التابعة للجيش تصنيع أسلحة. بالإضافة إلى ذلك، فقد اعترف فيدان بإرسال نحو ألفي شاحنة من الذخيرة إلى سوريا. وفي إطار بحثهم عن “ذريعة” للتدخل العسكري في سوريا، اقترح فيدان أيضًا “شنّ هجوم على ضريح سليمان شاه”؛ جد أول سلطان للدولة العثمانية، الموجود على الأراضي السورية، وهو ما تم لاحقا، ثم نقل الضريح إلى مكان قرب الحدود التركية (66).
هذا التسجيل الصوتي يحتوي على معطيات رائعة لتحليل “العقلية” التي كان أردوغان وفريقه يديرون بها تركيا وكيف يتعاملون مع القضايا الداخلية والخارجية.
ومع عدم وجود أدلة قاطعة على الجهة التي سربت هذا التسجيل، لكن من المرجح أن تكون القيادة العسكرية العليا التي كانت على خلاف مع أردوغان بشأن التدخل العسكري في سوريا هي من سربت مقطع الفيديو الخاص بشاحنات المخابرات وهذا الاجتماع السري لتشكيل رأي عام معارض. لكن أردوغان كعادته اتهم حركة الخدمة بالوقوف وراء هاتين الحادثتين ووظفهما في تعزيز مصطلح “الكيان الموازي” الوهمي وتضخيمه لتهيئة الأرضية للتصفيات التي يعتزم إجراءها في صفوف الجيش والتي خطط لها مع حلفائه من عصابة أرجنكون، والإسلاميين الذين كانوا يسعون إلى توجيه أردوغان من المعسكر الأطلسي إلى المعسكر الأوراسي.
أردوغان اعتقل الزعيم الكردي صلاح الدين دميرتاش بعد أن أفسد اتفاقيته السرية مع أوجلان واتهمه بتدبير الانقلاب الفاشل
8ـ دميرتاش يفسد اللعبة بين أردوغان وأوجلان
كلما اقترب أردوغان من التنظيمات الجهادية في سوريا ابتعد عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المدعوم من التحالف الدولي لمكافحة داعش، وهذا أدى إلى تفاقم صراع النفوذ بين التنظيمين، لكن همّ أردوغان كان منصبًّا على السعي للاستفادة منهما واستخدامهما في سبيل تحقيق أهدافه في الداخل التركي وخارجه.
بالتوازي مع التوجه إلى القوى غير الديمقراطية كأرجنكون بنوعيه التركي والكردي في الداخل، والمعسكر الأوراسي في الخارج، خسر أردوغان حلفاءه الديمقراطيين والليبراليين في تركيا. وقد انعكس هذا الأمر على نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 7 حزيران 2015؛ إذ فقد حزب أردوغان أغلبيته البرلمانية لأول مرة منذ وصوله إلى الحكم بحصوله على 40 % من أصوات الناخبين فقط، الأمر الذي منع حزبه من تأسيس حكومة منفردة. وهذا الأمر كان يشكل خطرًا كبيرًا على مستقبل أردوغان والنظام الذي يتطلع إليه حتى ولو كان حزبه الشريك الأقوى في حكومة ائتلافية محتملة؛ فقد كان بحاجة إلى حكومة منفردة قوية لحزبه حتى ينقذ نفسه من احتمالية المحاكمة على جرائمه في الفساد والإرهاب من جهة ويضمن نقل تركيا إلى النظام الرئاسي من جهة أخرى.
كان حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بقيادة صلاح الدين دميرتاش هو من تسبب في حصول هذه النتيجة الكارثية لأردوغان. فرغم الاتفاقية بين أردوغان وأوجلان القاضية بدعم الأكراد لحزب أردوغان مقابل حرية أوجلان والحكم الذاتي في المناطق الكردية، فإن دميرتاش تغاضى عن هذه الاتفاقية السرية وتحدى أردوغان قائلا: “لن نسمح لك بإقرار النظام الرئاسي في تركيا”، فتخطى حزبه العتبة الانتخابية وحقق نجاحًا كبيرا بحصوله على 80 مقعدًا ودخوله إلى البرلمان كحزب مستقل بعد أن كان الأكراد يدخلون البرلمان فرادى كمرشحين مستقلين، الأمر الذي دفع أردوغان إلى الانتقام منه باعتقاله بذريعة دعمه لتنظيم إرهابي تفاوض هو نفسه معه لإقامة السلام الكردي.
وبعدما نقض الأكراد بنود هذه الاتفاقية، سواء كان برضا أوجلان أو رغم أنفه، زال “السبب” الذي كان أردوغان يجري مفاوضات السلام معه من أجله، فزعم في 17 يوليو/ تموز 2015 أنه لم يكن على علم بمحادثات “دولما باهتشه” التي أجرتها حكومة داود أوغلو مع النواب الأكراد لإضفاء الصفة الرسمية على تلك المفاوضات، وأكد أنه لا يوافق عليها، رغم أنه من أطلق تلك المفاوضات وأعلن دعمه لها طيلة السنوات الماضية. لكن أردوغان كان بحاجة إلى ذريعة لإنهاء المفاوضات بشكل رسمي، كما احتاج من قبل إلى ذريعة لوقف العمليات الأمنية والعسكرية لإطلاق تلك المفاوضات.
9ـ توظيف الإرهاب لإعادة الحكومة المنفردة
في 22 يوليو/ تموز 2015 وقع هجوم انتحاري نسب إلى تنظيم “داعش” الإرهابي، استهدف شبابًا مناصرين للقضية الكردية بمركز ثقافي في بلدة سوروتش الحدودية مع سوريا، وأودى بحياة 32 شخصًا على الأقل. كما عثرت القوات الأمنية في صبيحة هذه الواقعة على شرطيين قتلا في فراشهما ببلدة “جيلان بينار”. ومع نسبة هذا الهجوم إلى العمال الكردستاني بادعاء الانتقام من شرطيين كانا على اتصال بداعش الذي قتل 32 كرديًّا أمس، إلا أن “ديمهات آجيت” المتحدث باسم اتحاد المجتمعات الكردستاني نفى صحة هذا الادعاء(67)، ونوّه الكاتب الكردي المعروف “أميد فرات” بأن الأسلوب المستخدم في قتل الشرطيين ليس من أساليب العمال الكردستاني المعهودة، مؤكدًا أن “الجهة” التي أمرت بتنفيذ الهجوم جعلت بعض المجموعات المرتبطة بالعمال الكردستاني تتبنى هذا الهجوم(68).
مقتل 32 شخصًا على الأقل في هجوم انتحاري نفذه “داعش” على مجموعة من الشباب الأكراد في حفل ثقافي ببلدة سوروتش
بعد أسبوع من هذين الهجومين المنسوب أحدهما لداعش والآخر للعمال الكردستاني، وعلى وجه التحديد في 28 يوليو/تموز 2015، أعلن أردوغان بشكل رسمي انتهاء مفاوضات السلام الكردية، مما يدل على أنه نجح في اختلاق الذريعة اللازمة للنكوص عن سياسته القديمة وليبدأ بعدها فترة جديدة مليئة بالاشتباكات الدموية. ومن اللافت أيضا في هذا الصدد ما قاله يالتشين أكدوغان، كبير مستشاري أردوغان لصلاح الدين دميرتاش عقب تحديه أردوغان ودخوله البرلمان وعرقلته تشكيل حكومة منفردة: “إذا قلتم إننا لن نسمح لك بفرض النظام الرئاسي، فإنه لا يمكن أن يحدث غير ما حدث اليوم! فليس بمقدور حزب الشعوب الديمقراطي بعد اليوم إلا أن يصوّر فيلمًا سينيمائيًّّا بعنوان مسيرة السلام الكردية فقط”(69).
ولما فقد أردوغان دعم الأكراد احتاج إلى موجة قومية ليعوِّض خسارته هذه بالحصول على أصوات القوميين الأتراك، كما عوّض خسارته دعم الليبراليين والديمقراطيين بالتحالف مع أرجنكون التركي والكردي والإسلاميين من قبلُ. وبعد الإطاحة بطاولة مفاوضات السلام الكردية اتخذ أردوغان قرارًا بالعودة إلى العمليات المسلحة ضد العمال الكردستاني، لكن الفارق هذه المرة أن العمليات الأمنية الجديدة لم تقتصر على المناطق الجبلية فقط وإنما وسع أردوغان نطاقها لتشمل المناطق والبلدات المأهولة بالسكان “المدنيين” من المواطنين الأكراد. وبعد عودة النزاع المسلح بين الطرفين مرة أخرى تحولت كل أنحاء تركيا إلى ساحة دماء بسبب الهجمات المنسوبة للعمال الكردستاني والتي حصدت أرواح أكثر من ألف فرد من عناصر الأمن وحوالي 10 آلاف من عناصر العمال الكردستاني، بالإضافة إلى مئات المواطنين المدنيين.
ولا شك أن استئناف أردوغان للعمليات الأمنية وتحويل شرق تركيا إلى ساحة حرب فيما يشبه العقاب الجماعي للأكراد جميعًا بسبب عدم تصويتهم له في انتخابات 7 يونيو/ حزيران السابقة أسهم في ترسيخ الانفصال الذهني والعاطفي لدى الأكراد؛ كما ساعدت هذه العمليات في الوقت نفسه على توجه القوميين بقيادة حزب الحركة القومية إلى دعم حزب العدالة والتنمية.
وفي 10 أكتوبر / تشرين الأول 2015 شهدت العاصمة أنقرة أكبر مجزرة إرهابية دموية على مدى تاريخ تركيا نسبت إلى داعش أيضًا، استهدفت عشرات الآلاف من المشاركين في تظاهرة بعنوان “العمل والسلام والديمقراطية”، مما أدى إلى مقتل أكثر من 110 أشخاص وإصابة المئات، أغلبهم من الأكراد. وكشفت التحقيقات أن منفذ العملية هو المدعو “يونس أمره آلاجوز” شقيق “الشيخ عبد الرحمن آلاجوز” الذي نفذ هجوم سروتش قبل 3 أشهر من هذا الحادث وقتل 32 شابًا كرديًّا أيضًا. لكن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش اتهم “الدولة” حينها بالوقوف وراء هذا الهجوم(70).
كما كشفت وثيقة “سرية للغاية” أعدها مركز الاستخبارات التابع للاتحاد الأوروبي أن الهجوم الإرهابي الذي وقع بالعاصمة أنقرة عام 2015 وحصد أرواح أكثر من 100 مواطن مدني تم بـ”تكليف خاص” من حكومة حزب العدالة والتنمية نفسها لعناصر داعش(71).
ومن العجيب جدًّا ما صرح به رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو بعد بضعة أيام من هذا الهجوم الدموي، حيث قال: “لقد أجرينا استطلاعًا للرأي بعد مجزرة أنقرة الإرهابية لجسّ نبض الرأي العام، ولاحظنا ارتفاعًا ملموسًا في نسبة الدعم لحزبنا”(72)، وقد دفعت هذه التصريحات المعارضة للتقدم باستفسار برلماني دعت فيه داود أوغلو إلى الكشف عن دلالة هذه التصريحات.
10ـ استعادة الحزب تشكيل الحكومة منفردًا بأصوات القوميين
رغم أن أردوغان هو من أمر بوقف العمليات الأمنية ضد عناصر العمال الكردستاني، لبدء مفاوضات السلام، وهو نفسه الذي استأنف العمليات العسكرية ضدها بعد فقدانه دعم الأكراد، فإنه حمّل الجيش فاتورة مئات القتلى من المدنيين والعسكريين في هذه الاشتباكات والعمليات الإرهابية، مما أثار استياء القوات المسلحة من هذه المواقف، ودفع قياداتها إلى التصريح مرارًا بأن مسؤولية مفاوضات السلام ونتائجها مسؤولية السلطة السياسية وحدها ولا دخل للجيش فيها، كما ورد سابقا على لسان رئيس الأركان.
آتت “لعبة الإرهاب” بين داعش والعمال الكردستاني أكلها وحققت “المطلوب” منها لحزب العدالة والتنمية وهو توجه أصوات القوميين إلى حزب العدالة والتنمية، فأعلن أردوغان عن انتخابات برلمانية مبكرة في الأول من نوفمبر / تشرين الثاني 2015 واستعاد حزبه تشكيل الحكومة منفردًا على طبق من ذهب بعد أن حصد دعم نصف الناخبين، بفضل أصوات القوميين، وهو ما فعله مجددًا قبل الاستفتاء الشعبي حول النظام الرئاسي حيث عقد تحالفًا مع حزب الحركة القومية، وأطلق أولاً عملية درع الفرات في الأراضي السورية لإثارة موجة قومية جديدة في الداخل، ثم حصل على موافقة الشعب على هذه التعديلات الدستورية بشكل أو بآخر عام 2017، ثم نفذ عملية “غصن الزيتون” العسكرية في شمال سوريا ضد مقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري، وأعلن في 18 أبريل/ نيسان 2018 عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 يونيو/ حزيران 2018 استطاع من خلال تحالفه مع القوميين أيضا أن يصبح “رئيس الدولة” في ظل النظام الرئاسي الذي يوسع من صلاحيات الرئيس، ليضمن مستقبله ومستقبل حلفائه في ظل هذه الصلاحيات شبه المطلقة.
11ـ البحث عن ذريعة لهيكلة الجيش
يتبين مما سبق أن العلاقات بين أردوغان وقيادات القوات المسلحة لم تكن مريحة لكليهما. فأردوغان كان يسعى لتحويل الجيش إلى “أداة طيعة” في يده باستغلال ذريعة “الكيان الموازي” ليحقق طموحه الداخلي في انتقال البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي؛ وحلمه الخارجي في إسقاط النظام السوري برئاسة بشار الأسد الذي بات يمثل له مسألة شخصية وعقدة نفسية، طمعًا في إعلان نفسه زعيم العالم الإسلامي أو “خليفة المسلمين” باعتباره “فاتح الشام” و”محرك الثورات العربية”. غير أن أردوغان شعر بأن الجيش لن يسمح له باستغلاله لتحقيق هذه الطموحات، وقد برز ذلك من خلال تصريحات رئيس الأركان الذي حمّل جهاز المخابرات التابع لأردوغان مسئولية قتل 33 كرديًّا مدنيًّا بالخطأ، وإعلان قيادات مهمة في الجيش عن انزعاجها من أي تصفيات تقوم بها السلطة السياسية في المؤسسة العسكرية بذريعة “الكيان الموازي” على غرار ما حدث في أجهزة الأمن والسلطة القضائية.
ويرجح بعض المحللين أن الجيش كان له يد في الكشف عن شاحنات المخابرات المحملة بالأسلحة، وفضيحة تسريب خطة رئيس المخابرات لاصطناع ذريعة للتدخل العسكري في سوريا، وأن قياداته كانت منزعجة من توظيف إرهاب داعش والعمال الكردستاني في الداخل وسوريا والمنطقة وإقحام تركيا في جرائم دولية، كما أشارت حادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية قرب الحدود السورية ثم اعتذار أردوغان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في يونيو/ حزيران 2016 بعدها ودعوته إلى إصلاح العلاقات بين تركيا وروسيا إلى انحيازه إلى المعسكر الأوراسي، وهو ما يجعل هذا الجيش “الأطلسي” عصيًّا على التطويع فضلا عن مشاطرة أردوغان في طموحاته وأطماعه داخليًّا وخارجيًّا.
كل ذلك عزز رغبة أردوغان في إعادة هيكلة الجيش بعد الأمن والقضاء، وقد لاقت هذه الرغبة صداها الإيجابي عند كل من حليفيه عصابة أرجنكون الموالية للمعسكر الأوراسي وتيار الإسلام السياسي الموالي لإيران؛ فالأول كان يرى أن الجيش هو المسئول الحقيقي عن قضية أرجنكون حيث سمحت قياداته للقضاة المدنيين بمحاكمة الجنرالات والضباط العسكريين ومن ثم فهو يتحين الفرصة للانتقام؛ في حين كان الثاني يعتبر ذلك فرصة ذهبية لاختراق الجيش التركي عبر الميلشيات الإسلامية لصالح إيران. ويعني ذلك أن أردوغان بعد أن أمر بتعليق تحقيقات قضيتي تنظيمات أرجنكون بشقيه التركي والكردي والسلام والتوحيد والإفراج المشروط عن كل المتهمين في إطار هاتين القضيتين فقد حان الدور على الجيش للانتقام منه وإعادة تصميمه وفق رغبات هذا التحالف الثلاثي.