تقرير: ياوز أجار
نقدم اليوم لمتابعبي موقع “زمان التركية” الحلقة الرابعة من التقرير الذي يسعى لتحليل أهم وأبرز الأحداث التي شهدتها تركيا منذ 1997 حيث الانقلاب الناعم حتى 2016 حيث الانقلاب الفاشل وإلى يومنا هذا، بعد أن نشرنا الحلقة الأولى تحت عنوان “بالأدلة والمستندات… الانقلاب المدبر في ذكراه السنوية الثانية” والحلقة الثانية تحت عنوان “محاولة انقلاب يوليو 2016 حقيقة أم ذريعة؟”، والحلقة الثالثة بعنوان “قصة سيطرة أردوغان على الأمن والقضاء بذريعة الكيان الموازي“.
8ـ ذريعة “الكيان الموازي”
بعدما استتبت لأردوغان الأمور وصار الآمر والناهي في تركيا وجد نفسه وريثًا لعصابة أرجنكون وأساليبها المارقة، وعثر في مصنعها على مادة زاخرة جاهزة، ولم يبق له إلا تحديث مخططاتها القديمة واستخدام مخلفاتها في أجهزة الدولة لتنفيذ خطة القضاء على “تركيا الديمقراطية” وبناء نظامه الذي يرنو إليه باستخدام ذريعة الكيان الموازي. لذا حذا أردوغان “الإسلامي” حذو أرجنكون تمامًا وتسلم مهمة تنفيذ مشروعها من خلال خطة مؤلفة من ثلاث خطوات أشرنا إليها فيما سبق وهي:
1- تشويه الخدمة عبر وسائل الإعلام
2- إعلانها تنظيمًا غير شرعي أولاً
3- ثم إعلانها تنظيمًا إرهابيًا “مسلحًّا”
وكما خلقت عصابة أرجنكون “خطر الشيوعية” ووظفته في إعادة تصميم أجهزة الدولة وفصائل المجتمع المدني وتصفية خصومها وتعيين الموالين لها أيام الحرب الباردة، وخلقت أيضا “خطر الرجعية الدينية” ووظفته في تحقيق الغرض نفسه في ثمانينات القرن المنصرم، كذلك سار أردوغان على الدرب نفسه وخلق خطرًا تحت مسمى “الكيان الموازي” ووظَّفه في تصفية أجهزة الأمن والقضاء التي كشفت عن جرائمه وفضائح الفساد التي تورط فيها هو وعائلته وحكومته، كما استغل هذه الذريعة أيضا لتعيين “موالين له”، للتستر على جرائمه، والتخلص من القيود الدستورية والقانونية.
بدأ أردوغان يروج لمصطلح “الكيان الموازي” من خلال الادعاء بأنهم متغلغلون في أجهزة الدولة وأنهم مَن وراء تحقيقات “أرجنكون” و”اتحاد المجتمعات الكردستاني” و”تنظيم السلام والتوحيد التابع للحرس الثوري الإيراني” الناشط في تركيا، في تناقض فج مع تصريحاته السابقة التي أعلنها تزامنًا مع عمليات التحقيق في قضايا أرجنكون؛ حيث كان يردد دائما: “أنا المدعي العام المحقق في قضية أرجنكون” ردًّا على الاعتراضات التي كانت توجهها المعارضة لهذه التحقيقات، كما خصص سيارته الخاصة المدرعة لقاضي التحقيق “زكريا أوز”، وهو (أردوغان) من هاجم الدائرة المختصة في محكمة التمييز العليا عندما قررت إطلاق سراح جميع المعتقلين في هذه القضية متهمًا إياها بـ”انتهاك الدستور والتدخلِ في قراراتٍ ليست من صلاحياتها”، لافتًا إلى أن المحكمة تدخلت في قضايا تنظيم أرجنكون المعروضة أمام المحاكم الجزائية، ووصف قرارها بـ”السياسي”، ومن شأنه أن يفقد ثقة الشعب بالقضاء، كما ورد في خبرٍ نشره موقع الجزيرة عام 2010(43). كما كانت كل وسائل الإعلام المصنفة ضمن التيار الإسلامي داعمة لهذه التحقيقات؛ وكذلك أردوغان هو من وصف اتحاد المجتمعات الكردستاني بـ”الكيان الموازي” قبل أن يطلقه على حركة الخدمة، وهو من تذمر من أنشطة الجواسيس الإيرانيين طيلة عامي 2011 – 2012. وقال “فهمي كورو” الكاتب الصحفي المقرب من أردوغان في مقاله بصحيفة “يني شفق”: “إنني أعتقد وجود علاقة بين الاجتماع الذي عقده أردوغان مع جورج بوش في البيت الأبيض في 5 نوفمبر / تشرين الثاني 2007 وانطلاق تحقيقات أرجنكون”(44).
أردوغان قال في البداية: “أنا المدعي العام المحقق في قضية أرجنكون”
لكن بعدما تحالف مع عصابة أرجنكون زعم أنه مخدوع في هذه القضية!
ومن الطبيعي وبعد كل ما ذكر ألا يجد أردوغان مؤيدين لادعاءات أن حركة الخدمة هي من تقف وراء كل هذه العمليات حتى من قاعدته الشعبية التي تواليه، لذلك لجأ إلى فكرة التغرير به والانخداع من قبل الخدمة ليبرر تراجعه عن كل هذه التصريحات والمواقف السابقة حيث قال: “إن الكيان الموازي خدعني بشأن قضية أرجنكون” وهذا أيضًا مناقض لما كان يردده دائمًا في مناسبات عديدة من أنه لم ينخدع قط ولا يمكن أن ينخدع أبدًا(45).
إن نظرية التعرض للخداع قد تنطلي إلى حدٍّ ما على عوام الناس لكنها لا يمكن أن تنطلي على جنرالات أرجنكون الذين يتمتعون بالذكاء العسكري ويعلمون أن أردوغان هو المسئول السياسي عن قضية أرجنكون على أقل تقدير لكنهم كانوا يبدون اقتناعهم بهذه المقولة بموجب تحالفهم معه “حتى حين”.
وتماديًا في تشويه الخدمة في نظر الرأي العام ادعى أردوغان أنها كانت تتنصت على آلاف المكالمات، وأنها سرقت أسئلة امتحانات التوظيف العام لسنة 2010، ليثير حفيظة الرأي العام ضدها. ومع أن امتحانات ذلك العام ألغيت وأعيدت مجددًا، إلا أنه اتهم الخدمة بأنها دأبت على سرقة تلك الأسئلة منذ سنوات، ليبرر تمكن أعضائها من النجاح في الامتحانات بسهولة. لكن هذا الادعاء لم يلق قبولا لدى الشعب؛ نظرا لأن مدارس الخدمة كانت تحصل على المراكز الأولى في المسابقات العلمية العالمية التي لا مكان فيها للحيلة والخداع، كما استمرت نجاحاتها في الداخل التركي بعد هذه التصريحات أيضا إلى أن أغلق النظام جميع مؤسساتها عقب انقلاب 2016 المزعوم.
كان أردوغان خصص سيارته الخاصة المدرعة للمدعي العام زكريا أوز الشهير
الذي أشرف على أهم القضايا الانقلابية ثم أعلنه خائنا بعدما تحالف مع عصابة أرجنكون
9ـ السيطرة على القضاء بذريعة الكيان الموازي
بعد حملة التشويه والتضليل غير المسبوقة التي قام بها الإعلام الموالي للسلطة، انتهز أردوغان هذه الفرصة وبدأ يعيد ترتيب أوراقه لتأسيس نظامه الذي يحلم به، فبدأ بإقالة ضباط الشرطة والقضاة الذين كشفوا ملفات الفساد والرشوة بتهمة انتمائهم إلى “الكيان الموازي”، وعين بدلاً منهم عناصر من الموالين له أو المتحالفين معه من بقايا عناصر أرجنكون الموالين للمعسكر الأوراسي والإسلاميين الموالين لإيران، ثم أعاد هيكلة مجلس القضاء الأعلى التي ألغى على إثرها المحاكم الجنائية العاملة في البلاد منذ عقود وأسس بدلاً منها محاكم أسماها “محاكم الصلح الجزائية”. ثم أغلق القضاةُ ومدعو العموم المعينون في هذه المحاكم كل ملفات الفساد والرشوة المتعلقة بالحكومة؛ وفي المقابل فتحوا تحقيقات مضادة انتهت باعتقال كل ضباط الشرطة والقضاة المقالين من وظائفهم ممن أشرفوا على تحقيقات الفساد والرشوة، بل طالت حتى كل من يمكن ألا يتجاوز عن هذه الملفات لو أوكلت إليهم من أعضاء الأمن والقضاء تزامنًا مع حملة إعلامية روجت لفكرة أن أعضاء الكيان الموازي في الأمن والقضاء تنصتوا بشكل غير قانوني على آلاف الجنرالات العسكريين في إطار قضية أرجنكون، وعلى الإسلاميين في إطار قضية السلام والتوحيد، وأعادوا إنتاج مكالماتهم وحرفوها ولفقوا جرائم بحقهم ليودعوهم السجون مثلما تنصتوا على أبناء الوزراء الأربعة والآخرين المتهمين بالفساد.
بعد هذه الدعاية السوداء بدأ جهاز القضاء الجديد منذ بداية عام 2014 يخلي سبيل جنرالات أرجنكون الذين ما زالوا قيد المحاكمة رغم أن القرارات الصادرة بحقهم وافقت عليها كل من المحكمة الدستورية والمحكمة العليا ومجلس الدولة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وقد تذمَّر أردوغان لاحقًا من هؤلاء الجنرالات لعدم تقديمهم الشكر له رغم خروجهم من السجن بفضله(46).
كما صدرت قرارات بإيقاف ملاحقة المتهمين في كل من قضيتي الفساد والرشوة ومنظمة السلام والتوحيد التي كانت تتجسس لصالح إيران. علمًا بأن إعلام أردوغان عام 2012 قد دأب على نشر عشرات الأخبار لأشهر طويلة تتحدث عن تسلل الجواسيس الإيرانيين إلى تركيا في صورة رجال أعمال وأطباء وممرضات، وصدرت “ثلاثة قرارات إلزامية من ثلاث محاكم عليا في أزمنة مختلفة (2002 و2006 و2014) وصفت هذه المنظمة بأنها “منظمة إرهابية تزاول أنشطة مخابراتية وتجسسية لصالح إيران”، وأدرجت رئاسة شعبة مكافحة الإرهاب اسم هذه المنظمة في المرتبة الحادية عشرة في قائمة المنظمات الإرهابية الناشطة في تركيا(47). ورغم هذا كله صدرت قرارات إخلاء سبيلهم بلا أي ضمانات في موقف غريب لم تشهد تركيا له مثيلا من قبل.
10ـ حملة انتقامية واسعة
بعد هيكلة أردوغان لهذه القطاعات المختلفة في الدولة من خلال عملية الإحلال والتبديل التي بسطت نفوذه على السلطة القضائية وجهاز الأمن والاستخبارات قاد أردوغان من خلال عناصره الجديدة في هذه الأجهزة حملة انتقامية واسعة النطاق استهدفت كل أعضاء الأمن والقضاء والبيروقراطيين المشاركين في تلك القضايا الثلاث. وبدأ يقدم الكيان الموازي مسئولاً عن كل جريمة وقعت في الماضي، حيث حمله كل الجرائم التي ارتكبتها قديما عصابة أرجنكون طيلة تاريخ الجمهورية، زاعمًا أن الكيان الموازي من كان يدير ما يسمى بالدولة العميقة والتنظيمات الإرهابية بما فيها حزب العمال الكردستاني وداعش! لكن هذه الحملات لم تقتصر على موظفي القطاعات فقط بل امتدت لتشمل القطاع الخاص أيضًا.
ولأن حركة الخدمة تخاطب نفس الكتلة المحافظة التي يتوجه أردوغان إليها أيضا بالخطاب تدرج في تشويه حركة الخدمة من خلال اتهام قيادات الحركة بالخيانة والإجرام وتبرئة القاعدة العريضة من المنتمين للخدمة حتى يحافظ على دعمهم له، حتى كان يكتفي باستخدام وصف الكيان الموازي ونادرًا ما يصرح باسم حركة الخدمة في البداية. لكن بعد الانقلاب المزعوم طال الاعتقال والتنكيل الجميع دون تمييز بين قاعدة وقيادات، بل لم يسلم من هذه الاعتقالات حتى الشيوخ والنساء والأطفال.
وبعد حملات الدعاية المكثفة التي بدأت بوصفهم بالكيان الموازي المخترق لمؤسسات الدولة، ثم اتهامهم بكل جريمة ينفر منها الشعب، ووصفهم بالإجرام والخيانة الوطنية، سنَّ أردوغان كل أسلحته ليجردهم بعد ذلك من المرجعية الدينية السنية، فبدأت سلسلة من الاتهامات تمس العقيدة الدينية من خلال وصفهم بأنهم حركة باطنية لا دينية أو حركة منحرفة اعتقاديًّا وسلوكيًّا، واستغل مؤسسة الشئون الدينية وأمرها بإعداد تقارير دينية تتضمن هذا المحتوى؛ والعجيب في هذا الإطار أنه كان يلجأ لدعاية مضادة لهذه الدعاية عند الحديث عن الخدمة لدى الغرب حيث كان يصفها بأنها حركة إسلامية متشددة تسعى لقلب النظام من العلماني إلى الإسلامي في “العالم الغربي”، ووظف في ذلك الاتحاد الإسلامي التركي الأوروبي التابع لمؤسسة الشئون الدينية، إضافة إلى جهاز المخابرات، اقتداءً بأساليب أرجنكون القديمة.
11ـ قضية تنظيم “تحشية”
بعد انتهاء الفصل الأول من فصول استهداف الخدمة عبر التشويه الإعلامي الممنهج، استغل أردوغان القضاء الذي أعاد هيكلته على مقاسه ليجسد مزاعمه المتعلقة بتدبير حركة الخدمة مؤامرات لاعتقال أبرياء في قضايا أرجنكون واتحاد المجتمعات الكردستاني والسلام والتوحيد وأمثالها بتهم ملفقة؛ فقد حاك نظام أردوغان سيناريو هش من خلال اتهام حركة الخدمة بتلفيق اتهام بالإرهاب لجماعة راديكالية في تركيا يطلق عليها “تحشية”. وتبدأ الحكاية عندما أمر مدير الأمن العام “أوغوز كاغان كوكسال” في 22 يناير/كانون الثاني 2010 بتنفيذ عمليات أمنية ضد هذا التنظيم(48) بتهمة ارتباطه بتنظيم القاعدة، في مدن إسطنبول وبورصا ومالاطيا وأكصراي، بعد أن تلقى تقريرًا في هذا الصدد من رئيس شعبة الاستخبارات الأمنية “حسين نامال”، وذلك بإشراف المدعي العام “إسماعيل أوتشار”.
واللافت أن مدير الأمن كوكسال هذا أصبح فيما بعد نائبًا برلمانيًا عن حزب أردوغان، في حين أن المدعي العام أوتشار هو من قضى في 2014 بإغلاق التحقيق في ملفات الفساد التي انطلقت في 25 ديسمبر/كانون الأول 2013 وطالت نجل أردوغان أيضًا.
وأسفرت هذه العمليات عن اعتقال 122 شخصًا، في مقدمتهم رئيس التنظيم “محمد دوغان”، إلى جانب العثور على عدد من القنابل، و7 مسدسات، ومواد متفجرة وألعاب نارية، وخرائط ورسومات خاصة ببعض المواقع الخطيرة في تركيا، ومن ثم وافقت المحكمة بإسطنبول في 26 يناير/كانون الثاني 2010 على اعتقال المتهمين في إطار القضية.
وكان حاكم مدينة إسطنبول آنذاك “معمر جولر” قد أعلن عن هذه العمليات لوسائل الإعلام بالقول: “في 22 يناير/كانون الثاني 2010 نفذتْ عملية ضد تنظيم يَظهر بمظهر الدين، أي ضد تنظيم القاعدة الإرهابي”.
وقد صار الحاكم جولر في وقت لاحق نائبًا برلمانيًّا عن حزب أردوغان أيضًا، قبل أن يتسلم حقيبة وزارة الداخلية (يناير/ كانون الثاني 2013 – ديسمبر/كانون الأول 2013)، كما كان أحد الوزراء الأربعة الذين أقالهم أردوغان بعد أن وجهت لهم ولأبنائهم تهم الفساد والرشوة في 2013. كما قدم إعلام أردوغان هذه العملية للرأي العام وقتها باعتبارها دليلاً على إنجاز الحكومة في ملف مكافحة إرهاب تنظيم القاعدة، بالإضافة إلى استخدام وسائل الإعلام الموالية هذه القضية لتلميع صورة أردوغان قبيل زيارته المرتقبة إلى الولايات المتحدة. وعلّق كبير مستشاري أردوغان “يكيت بولوت” على العملية في برنامج على قناة (خبر تورك) بقوله: “يجب علينا إنقاذ الإسلام من عناصر تنظيم القاعدة هؤلاء!”.
أما وزير الداخلية الأسبق إدريس نعيم شاهين أحد المقربين إلى أردوغان منذ رئاسته لبلدية إسطنبول، الذي شغل منصب وزارة الداخلية من يوليو/ تموز 2011 إلى يناير 2013، فقد أكد أن القنابل التي عَثرت القوات الأمنية عليها ضمن حملة “تحشية” هي من نفس نوع القنابل التي عثر عليها من قبل في إطار عمليات تنظيم “أرجنكون” مشيرًا بذلك إلى وجود علاقة بين التنظيمين الإرهابيين.
كما كشفت الوثائق الرسمية أن جهاز المخابرات تابَع عن كثب تنظيم “تحشية” منذ عام 2004، بل هو من أطلق عليها اسم “تحشية”، وأعد تقريرًا عنه أكد فيه قربه من تنظيم القاعدة، وأن زعميه محمد دوغان أعلن عن حبه لأسامة بن لادن، ويُسميه “شعيب بن صالح”، ويدعي أنه “المهدي” و”القائد”. ثم أرسل هذا التقرير في 17 فبراير/ شباط 2009 إلى رئاسة الأمن العام والأركان العامة والسلطات الرسمية الأخرى، كما اعترف بذلك الرئيس السابق للمخابرات بالأركان العامة الجنرال المتقاعد “إسماعيل حقي بكين”، والذي سبق أن اعتُقل في إطار قضية أرجنكون، ويعمل حاليًّا ضمن “حزب الوطن” بقيادة الزعيم اليساري العلماني المتطرف دوغو برينتشاك المرتبط بأرجنكون أيضًا.
وفي 6 أبريل/ نيسان 2009 تعرض الأستاذ فتح الله كولن لهذا التنظيم بالاسم في أحد دروسه الأسبوعية التي كانت تبث عبر الإنترنت محذرًا محبيه من محاولات لربط الخدمة بهذا التنظيم لإعلانها منظمة إرهابية حيث قال: “من أجل جرّكم إلى الجرائم الإرهابية وتقديمكم كتنظيمٍ إرهابي، يبادرون إلى تأسيس تنظيمٍ تحت اسم “تحشية”. وتبعا لهذا التحذير بادرت حركة الخدمة عبر وسائل إعلامها إلى فضح أمر هذا التنظيم، ونفي أي علاقة تربط الخدمة به، كما تجسد هذا في بعض جمل وردت في حلقة من عمل درامي كان يعرض على شاشة “سامانيولو” التي تشرف عليها الخدمة.
ومع أن الأسماء التي أشرفت على عملية تنظيم “تحشية” هذا قد تولى بعضها فيما بعد مناصب مهمة في حكومة أردوغان والبعض الآخر معروف عنها أنها شخصيات قريبة من أرجنكون ومعادية لحركة الخدمة، ومع أن التقارير التي أعدها جهاز المخابرات وأرسلها إلى جميع السلطات الأمنية والعسكرية هي التي أزاحت الستار عن هذا التنظيم، قبل حديث كولن عنه والمسلسل المعروض على قناة سامانيولو، فقد أمر أردوغان النيابة العامة في إسطنبول يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2014، خلال الذكرى السنوية الأولى لقضية الفساد والرشوة، بحبس 32 شخصًا ما بين 19 إلى 34 سنة، على رأسهم فتح الله كولن بتهمة إصدار تعليمات لأنصاره في جهاز الأمن بتنفيذ هذه العملية، وكذلك رئيس مجموعة “سامانيولو” الإعلامية “هدايت كاراجا”، ورئيس مجموعة “فضاء” الإعلامية المندرج تحتها صحيفة “زمان” أيضًا “أكرم دومانلي”، بالإضافة إلى مجموعة من مدراء الأمن، وذلك بتهمة “تأسيس وإدارة تنظيم إرهابي مسلح”، و”التزوير في الأوراق الرسمية”، و”الافتراء” في إطار عمليات “تحشية” المذكورة، والتسبّب في اعتقال المتهمين “الأبرياء” وتعرُّضهم لمظالم كثيرة. وادعت النيابة العامة أن حركة الخدمة نصبت مؤامرة لأعضاء هذا التنظيم ولفّقت جرائم وأدلة بحقهم، وذلك ليتمكن أردوغان من إثبات نظريته القائلة بأن هذه الحركة دبرت مؤامرة ضد وزراء “الفساد” وأبنائهم لتجريمهم وحبسهم وتوظيف ذلك للإطاحة بحكومته، فيما سماه “الانقلاب القضائي” كما اتهمها بأنها فعلت الشيء نفسه مع كل من المتهمين في قضايا أرجنكون واتحاد المجتمعات الكردستاني وتنظيم السلام والتوحيد.
ومن خلال ما تم سرده يتبين مدى هشاشة هذا السيناريو فأول وأكبر قضية رفعت ضد حركة الخدمة كانت هشة إلى هذه الدرجة، فضلاً عن أن المحكمة التي رفعت هذه القضية هي “محكمة الصلح الجزائية” التي أسسها أردوغان في أثناء عمليات هيكلة القضاء لصالحه، إثر فضائح الفساد والرشوة التي طالته ووزراء حكومته. فقد قضت هذه المحكمة بعدم ملاحقة المتهمين بالفساد أولاً، ثم شرعت في تنفيذ عمليات ضد أعضاء الأمن والقضاء الذين أشرفوا على قضية الفساد والرشوة، الأمر الذي يخالف مبدأ “القاضي الطبيعي”.
وتكمن أهمية التفاصيل التي أوردناها في سرد هذه القضية في أنها تشير إلى مدى هشاشة السيناريوهات التي يختلقها النظام للإجهاز على الخدمة، كما يطلعنا على طبيعة السيناريوهات الأخرى التي تستخدم في هذا الإطار، حيث لم يتمكنوا من إيجاد سند قوي يدعم مخططاتهم تلك ومن ثم يلجأون إلى مثل هذا التخبط والتضارب.
إن أردوغان لم يتمكن من تصفية أعضاء الأمن والقضاء المشرفين على تحقيقات الفساد والرشوة بحجة “الكيان الموازي” فقط، وإنما تخلص في الوقت ذاته بفضل هذه الحجة من كل الذين يمكن أن يمثلوا مشكلة له في وقت لاحق، وأعاد تصميم جهازي الأمن والقضاء من ألفه إلى يائه وطمأن نفسه من جانبهما بتعيين الموالين له أو المتحالفين معه.
عصابة أرجنكون
12ـ خطة مكافحة الرجعية الدينية
لقد استنسخ أردوغان خطة القضاء على الخدمة من خطة سابقة تحت مسمى “مكافحة الرجعية الدينية”، تحمل توقيع العقيد “دورسون تشيتشاك” من دائرة الحرب النفسية التابعة لرئاسة الأركان العامة كشفتها صحيفة “طرف” الليبرالية في 2009، ثم ظهرت نسختها الأصلية في أعقاب التحقيقات. كانت هذه الخطة تتحدث عن ضرورة ” الإيقاع بين حزب العدالة والتنمية وحركة الخدمة والقضاء عليهما معًا في نهاية المطاف” و”تحريك الجواسيس المنتشرين حول حزب العدالة والتنمية”، و”الدفاع عن المتهمين في إطار قضية أرجنكون” و”الدعاية أن أدلة إدانتهم مزورة وملفقة” و”أنهم أبرياء اعتقلوا بسبب مكافحتهم الفعالة ضد الرجعية الدينية”، و”تعزيز الأحزاب القومية ضد حزب أردوغان من خلال إثارة المشاكل مع اليونان”، و”الدعاية أن حزب العدالة والتنمية يسعى مع حركة الخدمة وأمثالها من الحركات الإسلامية الأخرى لتقويض الدولة العلمانية وتأسيس دولة الشريعة”، و”إعداد تسجيلات صوتية وتسريبها إلى الإعلام على نحو يجعل الرأي العام يعتقد براءتنا (يقصد جنرالات أرجنكون) وأن حركة الخدمة من تتنصت على المتكلمين مباشرة أو هاتفيًّا وتقوم بتسريب المكالمات”.
ولعل أهم ما ورد في هذه الخطة هو “القيام بأنشطة وفعاليات تهدف إلى توجيه الرأي العام ضد حركة الخدمة من خلال اتهامها بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي ومركز المخابرات الأمريكية سي آي إيه والموساد وغيرها من المؤسسات، وتصويرها أنها هي من تقف وراء التحقيقات في قضية “أرجنكون”، ومن ثم رفع دعوى ضدها تتهمها بأنها: “تنظيم إرهابي مسلح”(49).
كان لظهور تفاصيل خطة القضاء على حزب أردوغان وحركة الخدمة دوي وصدى كبير في ميدان السياسة والمجتمع المدني حينها، فقد تقدم مسئولو حزب العدالة والتنمية ببلاغ للنيابة العامة في العاصمة أنقرة في 16 يونيو/ حزيران 2009. وعبّر أردوغان عن خطورة هذه الخطة بالقول: “إذا نظرنا إلى بنود الخطة مع عناوينها الرئيسية يتبين أن وراءها مبادرة تسعى إلى تقويض المسار الديمقراطي في البلاد”، كما أعلن أنه سيتابع الدعوى القضائية عن كثب، وأكد أن القوات المسلحة لن ترضى أن تشوه سمعتها بمثل هذه المخططات المشؤومة. وقد أسفرت التحقيقات الخاصة بخطة “مكافحة الرجعية الدينية” عن اعتقال مجموعة من العسكريين، وعلى رأسهم العقيد تشيتشاك ورئيس الأركان السابق إيلكر باشبوغ(50).
13ـ تفعيل أردوغان الخطة ضد الخدمة
كشفت تصريحات الصحفي والنائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري “باريش ياركاداش” في ديسمبر/كانون الأول 2014 خلال برنامج على قناة “خلق تي في” أن أردوغان وضع خطة شاملة لتحميل حركة الخدمة مسئولية كل الجرائم المرتكبة طيلة فترة حكمه، في محاولة منه للتخلص من فضيحة تورط حكومته في قضايا الفساد والرشوة في 2013 من جانب ولإشاعة مناخ من الخوف العام في البلاد قبيل الانتخابات. وقد واكبت هذه التصريحات التي أدلى بها هذا النائب البرلماني الذكرى السنوية الأولى لانطلاق تحقيقات الفساد، حيث بدأ أردوغان حملته التي تستهدف حركة الخدمة من خلال توقيف كل من رئيسي مجموعتي سامانيولو وفضاء وعدد من قيادات الأمن.
النائب البرلماني ياشار ياركاداش يكشف قبل عامين من الانقلاب الفاشل تخطيط أردوغان
لإعلان حركة الخدمة تنظيما إرهابيا واعتقال الصحفيين بتهمة الانتماء إليها
وتابع ياركاداش في تصريحاته أن أردوغان قرر القضاء على الخدمة من خلال اتهامها بأنها من كانت وراء عديد من جرائم القتل التي قيدت ضد مجهول، ولم يعثر على مرتكبها في تاريخ تركيا الحديث، كاغتيال صحفي أرمني الأصل. كما أوضح أنه كان يخطط لمزيد من عمليات الاعتقال في حق صحفيين عاملين لدى مؤسسات إعلامية مختلفة، غير أن تسريب هذه الخطة إلى وسائل الإعلام اضطره إلى أن تقتصر حملة الاعتقالات على الصحفيين المرتبطين بحركة الخدمة فقط، مؤكدًا أنه سيكمل في وقت لاحق هذه الخطوة باعتقال الصحفيين الآخرين. وأضاف ياركاداش “أن أحد أهداف هذه العمليات هو السعي لإدراج حركة كولن ضمن التنظيمات الإرهابية المسلحة، تمهيدًا للاستيلاء على المؤسسات الإعلامية المحسوبة عليها كمجموعات سامانيولو وفضاء وإيباك الإعلامية”، وأشار إلى أن هناك قائمة تتضمن أسماء 4 آلاف شخص يتم التخطيط لاعتقالهم. وقد جاءت تصريحات ياركاداش في وقت مبكر حيث كان أردوغان في بداية وضعه اللمسات الأولى لتفعيل خطته ضد حركة الخدمة ولم تتطور الأحداث بعد إلى هذا الحد(51).
ومن اللافت أن ياركاداش قد نبَّه إلى أن هدف هذه العمليات الأمنية لن يقتصر على الخدمة فقط وإنما ستشمل كل المعارضين لأردوغان وحلفائه الجدد، بل سيتم اعتقال هؤلاء المعارضين بتهمة الانتماء إلى الكيان الموازي حتى ولو لم تكن لهم أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بحركة الخدمة، كما أوضح أن تطبيق هذه الخطة سيتم بعد تعيين قضاة ونواب عموم موالين لهم وفي أوقات وظروف مواتية بصورة تدريجية(52).
وقد أثبتت الأحداث التي تلت هذه التصريحات المبكرة صحة ما ورد فيها حرفيًّا، فقد فعّل أردوغان كل ما ورد في خطة مكافحة الرجعية الدينية السالف ذكرها، حيث استهدف أردوغان بعد هذا التاريخ حركة الخدمة مباشرة بعد أن كانت حملاته تقتصر طيلة سنة كاملة قبلها على ما سماه الكيان الموازي، عقب فضائح الفساد والرشوة، ثم تطورت بعد الانقلاب الفاشل تحت مسمى تحقيقات “منظمة فتح الله كولن…”. واعتقل مئات الصحفيين وعشرات الآلاف من المواطنين المدنيين والكتاب والأكاديميين بحجة الانتماء إلى هذه المنظمة حتى الذين عرفوا بعدائهم الشديد للخدمة على مدار حياتهم من أمثال صحفيي “جمهوريت” الجريدة ذات التوجه العلماني المعروف عنها تطرفها ضد الجماعات والحركات ذات المرجعية الدينية.
14ـ اختراع جرائم مطاطة
كان بوسع أردوغان أن يعاقب الضباط وأعضاء الهيئة القضائية التي أشرفت على تحقيقات الفساد التي طالت حكومته وأفرادًا من عائلته قانونيًّا بجرائم ينص عليها القانون التركي من أمثال “سوء استخدام السلطات” و”تجاوز المهام القانونية”، لكنه وجد أن هذه القوانين لن تسعفه في القضاء على معارضيه فاحتاج إلى سن قوانين جديدة غير واضحة المعالم يستطيع من خلالها اعتقال كل معارض، كما تمكنه من السيطرة التامة على كافة أجهزة الدولة فسنَّ عبر نوابه في البرلمان تهمة “الانتماء إلى الكيان الموازي” وهي تهمة ليس لها تعريف محدد دستوريًّا وقانونًّيا، ولكنه من خلالها استطاع أن يزج بعدد كبير من معارضيه في السجون والمعتقلات ويعزل عددًا كبيرًا من وظائفهم ليحل محلهم موالون له ولحلفائه الجدد.
كما سن قانونًا آخر باسم “قانون الاشتباه المعقول” وضع بموجبه كل من يشتبه صلتهم بمنظمة إرهابية في المعتقلات حتى تتوفر أدلة إدانته، في مخالفة لمبادئ الدستور والقانون التركيين ومعايير القانون الدولي ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية.
كما أجرى تغييرات جذرية في الهيئة القضائية ونجح في هيكلة مجلس القضاء الأعلى من خلال عدة تغييرات على نظامها، وعين فيها موالين له، وأسس محاكم جديدة أطلق عليها محاكم الصلح الجزائية استخدمها أداة لقمع معارضيه(53).
كانت دائرة العمليات الأمنية ضد الموظفين في الدولة وأعضاء المجتمع المدني تتسع يومًا بعد يوم بحجة الكيان الموازي، وكان أردوغان يطيح بكل العقبات التي تقف حجر عثرة أمام طموحاته بهذه العصا السحرية في الداخل، ويشكل في الوقت نفسه