لقد واتت تركيا فرصةٌ كبيرةٌ للقضاء على الدولة العميقة.. وكادت تمسك بذيل الوحش الخرافيّ الذي يدير هذه الدولة.. إلا أنَّ صراع تركيا ضدَّ الدولة العميقة لم يدم طويلًا.. وتعذر على تركيا مواصلة ذلك الصراع مُجدَّدًا.
ولقد ارتُكِبَتْ في البداية أخطاء جسيمة في حق السلطة القضائية.. حيث عُوقب المجرمون وعُوقب معهم بعض الأبرياء.. ولعدم الزّج بالمعارضة في الصراع مع تنظيم “أرغنكون” (الدولة العميقة)، تراءى للرأي العام على أنّ الأمر شجار روتيني بين الحكومة والمعارضة.. والأنكى من ذلك أن المنتخَبين لم يتشجعوا على الإطلاق لمواصلة الطريق حتى آخِرِه، أو ظنُّوا عندما عيَّنُوا بعض كبار المسؤولين في المؤسّسات أن تلك المؤسسات أصبحت خالية من الشوائب، وأنهم أصبحوا المالكين الفعليين للدولة.
سبق وقلت إن الدولة العميقة مثل الورم الخبيث، لو تركتم قطعة صغيرة منه داخل الدولة، سينمو وينتشر، ويُتلف أنظمتها كافة…
وأرى أنه لم يُتطرَّق إلى قسم مهم من الدولة العميقة في هذا الصراع، ففي الوقت الذي تتواصل فيه القضايا، تشعّبت النّسخ الجديدة الظاهرة للدولة العميقة بجذورها في المؤسسات. وانتظرت اللحظة المناسبة لخروجها…
إنّ أسلوب الدول العميقة في الفترات الأخيرة هو التّظاهُر بصورة الحقّ، واقتلاع الحزب الحاكم المنتخَب من حلفائه.. وها قد بدأت الخلايا النائمة المذعورة لفترة طويلة تتحرك وفقًا لهذا الأسلوب في العامين الماضيين.. وأخشى أن يكونوا قد نجحوا في استراتيجياتهم، كما أخشى أن تشعر تركيا بألم تلك الأيادي المظلمة في السنوات القليلة المقبلة.
هل رأينا حلمًا؟
عندما نأتي إلى الحديث عن قضيتي “أرغنيكون” و”المطرقة”، ففي الحقيقة لا أهمية لقرار المحكمة الدستوريَّة لإعادة محاكمتهم، ولا أهمية كذلك لحيثيات هذا القرار. وهذه القضايا قد انتهت نهائيًّا في نظر الرأي العامّ، وأدَّى تغيير الحكومةِ موقفَها تجاه القضيتين إلى وقف دعم الرأي العامّ لهما.
على الرغم من الحالة التي آلت إليها تركيا بعد كل هذا الكم من المناوشات الصاخبة، عدَّت الحكومة جريمة “هرنت دينك” جريمةً تافهة.. ولا أحد من الحكومة ولا حتى من المعارضة يريد أن يسمع جريمة قتل الراهب “سانتورو”، ولا الحادثة التي قُتل فيها رجل ألماني وثلاثة أتراك حيث ذُبحوا في اقتحام دار نشر “ذروة” في مدينة ملاطية بتركيا.. وباتت هذه الجرائم بالنسبة إلى الأحزاب اليمينية واليسارية حوادث عادية.. وترى تركيا، الحالية، أن الهجوم المسلَّح على مجلس الشورى ما هو إلاَّ نوبة غضب آنيَّة بدرت عن مواطن غاضب، وليست للحادث أيّ أبعاد سياسيَّة…
أجل، وبعدما آلت تركيا إلى هذا الوضع، نجد الجميع يريد منَّا ألا نؤمن بوجود الدولة العميقة! هيهات!
إذًا فكل ما نراه يحدث من مشكلات وحوادث في تركيا كان كوابيسَ وهلوسةً جماعيَّة.. ولم يكُن هناك ما يُسمَّى بالدولة العميقة.. ولم تحدثْ إذن محاولات تخطيط لعمل انقلابات.. أتريدوننا أن نصدق هذه الأكاذيب؟!
يخرجون علينا برجالهم في وسائل الإعلام، ويريدون أن نصدق أن الأسلحة المدفونة مزيفة، وأن قرارات القضاء كافَّةً أُخذت عن طريق شهود مزيفين، وأن ما نعيشه مجرَّد لعبة…
لقد أصبحنا نحبهم!
المعارضة لا يصدر عنها أي رد فعل حول هذا الموضوع، لأنها كانت ترى قضاياها كافة هي نقد الحكومة. والأكثر من ذلك أن الحكومة تقمصت دور المحامي في هذه القضايا لفترات طويلة، لدرجة أنها أتاحت فرصة الوكالة لهؤلاء المتَّهَمين…
والحكومة لا تُصدِر أيّ ردة فعل، بل تدلي بتصريحات عديدة لإنهاء القضايا، لأنهم يريدون أن يسُدُّوا واجهة نزاعهم مع جماعة فتح الله كولن وينفضوا أيديهم منها، لدرجة أنهم يرون أن العراك القائم بين الجماعة والفصيل المعروف بـ”أرغنيكون” يصبّ في مصلحتهم…!
والجماعة لا يصدر منها أيّ رَدِّ فعل على ما يحدث، لأنها لا تريد أن تبقى وحيدة في هذا الصراع، ولا تريد أن تدخل في عراك لا داعي له من أجل الحكومة.
شاهدنا هذا السيناريو من قبل
أخشى أن تكون تركيا فقدت هذه الفرصة الذهبية التي لاحت لها في صراعها ضدّ الدولة العميقة.. وأخشى أن يكون فر منها هذا الوحش الخرافيّ بعدما أمسكت بذيله…والآن جاء الدور على الوحش الخرافيّ الهارب…
لا أريد أن أبُثّ الخوف في قلوبكم، ولكن يتحتَّم عليّ أن أقول لكم إنه سيتوالى مُجدَّدًا مسلسل اللكمات من أشخاص مجهولين، وحوادث إنزال العلم التركي، وإصابات وجرائم… وإذا سألتموني: “من أين تدري بهذا؟” أجيبكم: “أنا شاهدت هذا السيناريو من قبل…”.
ـــــــــــــــــــــ
موقع إنترنت خبر التركي