بقلم: ممتاز أرتركونه
عقد حزب العدالة والتنمية الحاكم، أمس” الأربعاء” ،مؤتمراً بمناسبة تبديل المناصب. والديمقراطية تعمل من خلال الأحزاب السياسية. والسياسي الكاريزمي الذي لا يستطيع التحكم في جهاز الحزب بطريقة مباشرة، لا يدخل مجال اهتمام السياسة اليومية، بل يدخل مجال اهتمام التاريخ.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لقد فقد حزب العدالة والتنمية من الآن فصاعدًا خاصيته التي تمكنه من تليين الميول الراديكالية وتحقيق تكامل بينها وبين النظام. وإن ملفات الفساد التي ظهرت مؤخرًا قلّلت قيمة سياسة الحزب في أعين الجيل الصاعد من الشباب الذي يتغذى على المثالية.[/box][/one_third]لقد سُحب “البساط السحري” من تحت قدمي الرئيس الجديد رجب طيب أردوغان. وسنشهد فترة تكيّف مؤلمة، وإن كانت قصيرة، داخل أروقة حزب العدالة والتنمية حتى يألف الحزب رئيسه الجديد أحمد داود أوغلو ويألف الأخير بدوره منصبه الجديد على رأس الحزب.
إن الفترة الحالية التي يعيش فيها الحزب هي مرحلة تحرّك حجر الأساس في هيكليته من مكانه، بعدما سخّر جميع مميزاته الفيزيائية والنفسية لعبادة الزعيم، وتحول إلى حزب “الرجل الأوحد”. غير أن السلطة والاستقرار والتفوق في امتلاك وسائل الإعلام يعتبر كافيًا من أجل أن تظل هذه الهيكلية صامدة دون تفكك في ظل هذه الظروف، ومن المحتمل أن يبدأ منْ سيبقوْن خارج “النواة الصلبة” الجديدة للحزب بالبحث عن “خيارات جديدة”، وستكون الأجندة التي ستشغل الرأي العام في تركيا خلال الأشهر الستة المقبلة هي زيادة فعاليات الحزب لهذا السبب، أي زيادة عدد الشائعات السياسية التي تُسمى بـ”الكواليس”…
إن التغيير أو ضغوط التغيير لا تختصّ بحزب العدالة والتنمية فقط، فعقب الاجتماع الاستثنائي للحزب الحاكم، يعقد حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، هو الآخر اجتماعًا مماثلاً، إن الاجتماعات التي يعقدها حزب المعارضة الأم، الذي يشبه اجتماع الزوجين المتقاتلين بالعصيّ والسكاكين، تصب في مصلحة تقوية سلطات رب أسرة الحزب وصلاحياته، ويسعى الحزب للجمع بين هويتين متناقضتين بالقوة، والحفاظ على تعايشهما معاً ضمن الحزب. ولا يبدو أن ثمّة مساحة حياة أو مصلحة تنفع لمواصلة هذا التعايش تلوح في الأفق. إما أن ينسحب أحد الطرفين ويذهب بعيدًا، وإما أن يتفقا على تركيب توليفة جديدة فيما بينهما.
والوضع نفسه ينسحب على حزب الحركة القومية ثاني أكبر أحزاب المعارضة في البلاد. فهوية الحزب، التي شكّلتها الذكريات والماضي والعادات، تتحلّل بمرور الزمن. كما أن التغلب على الوضع الراهن صعب للغاية. هذا فضلًا عن أن الأصوات المعارضة تتمسك بعادات الماضي، ولا تستطيع لعب دور جديد.
ومن ناحية أخرى، يعيش المجتمع التركي حالة من التغير العميق، حيث إن الظروف الاجتماعية المبنية على أساس هويات الأحزاب، وكذلك التوقعات والمخاوف تتغير بشكل سريع جدًا. كما أن السياسة تعاني في توفير التوافق مع الموجة الاجتماعية التي تبدل مسارها.
إن التغيير الذي أحدثه انتقالنا من الحديث عن “الملايين الذين ينتظرون على أبواب الجامعات” إلى الحديث عن “ملايين العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات” يمكن أن يعطينا لوحده فكرة حول الديناميكيات والمقومات الجديدة.
لقد فعل حزب العدالة والتنمية بالضبط كمن سبقه من الأحزاب التي حكمت تركيا؛ فهو ظنّ أنه يؤسس الجامعات عندما أنشأ مبانيها، ويوجد اليوم في كل محافظة تركية مبان للجامعات، لكنها تخلو من تعليم جامعي، وأقولها دون مبالغة، إن الطلاب يدرسون بالجامعة لمدة 5 سنوات دون أن يكتسبوا أي وسيلة مفيدة تمكنهم من تلبية الاحتياجات العلمية والتكنولوجية واحتياجات سوق الشغل في تركيا.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن السياسة ليست سبب الاحتياجات والتطورات، بل هي نتيجتها، حتى وإن اعتقد السياسيون عكس ذلك. فمن لا يركِّز على الأسباب لا يستطيع تغيير النتائج. وفي الوقت الذي تستهلَك فيه هويات الأحزاب في متاهات المنافسة السياسية الشخصية الضيقة، تأتي إشارات مختلفة تمامًا من أعماق المجتمع.[/box][/one_third]فالشباب الذين كانوا ينتظرون عند أبواب الجامعات في الماضي ينتظرون اليوم أن يجدوا لهم مكانًا في سوق العمل وهم يحملون شهاداتهم في أيديهم؛ إذ أن التعليم العالي الذي لم يستطيعوا تحصيله فعليًا لا يزيد مهاراتهم، بل يزيد توقعاتهم فقط.
لقد ماتت الإسلاموية. وإن الراديكالية السلفية التي يسطع نجمها اليوم تثير دهشة الإسلاميين أنفسهم. لقد فقد حزب العدالة والتنمية من الآن فصاعدًا خاصيته التي تمكنه من تليين الميول الراديكالية وتحقيق تكامل بينها وبين النظام. وإن ملفات الفساد التي ظهرت مؤخرًا قلّلت قيمة سياسة الحزب في أعين الجيل الصاعد من الشباب الذي يتغذى على المثالية. وإذا لاحظتم فإن حزب العدالة والتنمية فقدَ حتى مهارته في إنتاج عمود فقري أيديولوجي ليّن. ولم يعد للقومية، التي لم يستطع حزب الحركة القومية أن يضيف إليها شيئًا جديدًا، قيمة أو مقابلاً في العالم وتركيا اليوم، كما أن القضية الكردية ستحدد اتجاهها بحسب رياح الديناميكيات الإقليمية. وهي تفتح مجالًا ضخمًا أمام جميع الأطراف، بما في ذلك حزب الحركة القومية، من أجل إنتاج سياسة جديدة إزاء الأكراد، وإن حزب العمال الكردستاني لا يستطيع حاليًا أن ينتج إرهابًا، حتى وإن أردا ذلك، ولكن هذا لا يعني أن قوته السياسية تراجعت.
حسنًا، بأي طريقة ستردون على ذلك؟ هل ستردون من خلال أيديولوجية الدولة القومية التي كانت شائعة أيام الحرب الباردة؟
إن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أو باسمه الجديد الدولة الإسلامية، ليس إلا عبارة عن فقاعة طفت على سطح ماء يغلي في مرجل في أعماق منطقتنا، ولقد وجدت الولايات المتحدة الأمريكية العدو الذي تحتاج إليه. وأما المرجل فيغلي داخل أكبادنا. كم عدد الشباب الأتراك الذين يقاتلون في صفوف داعش؟ ولماذا ينضمون للتنظيم؟ فإجابة هذا السؤال تهمّ حزب الحركة القومية أكثر من أي حزب آخر.
إن السياسة ليست سبب الاحتياجات والتطورات، بل هي نتيجتها، حتى وإن اعتقد السياسيون عكس ذلك. فمن لا يركِّز على الأسباب لا يستطيع تغيير النتائج. وفي الوقت الذي تستهلَك فيه هويات الأحزاب في متاهات المنافسة السياسية الشخصية الضيقة، تأتي إشارات مختلفة تمامًا من أعماق المجتمع.
نعيش فترة تتقوى فيها الميول الرافضة للمركز وتزيد فيها الارتجاجات والهزّات العنيفة. ولا بد من إيجاد حلول جديدة للمشاكل الجديدة، والعثور على آمال جديدة للعجز واليأس، والنطق بكلمات جديدة في هذا الزمان الجديد.
صحيفة” زمان” التركية