بقلم: أكرم دومانلي
هل تعرفون من هو أول من أطلق لفظ “الكيان الموازي” على الجماهير المسلمة؟ لم أكن أعرف صراحةً، وقد صادفت حاشية طويلة في كتاب اسمه لعبة الشيطان (Devil’s Game) رأيته في يد أحد الأصدقاء الشجعان في الماضي.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الإسلام لم يُبنَ على أساس نظام الرهبانية، ولم تكن الكيانات المؤسسية شرطًا لكي يعيش المسلمون دينهم، وكان الإسلام مندمجًا مع الشعب في كل المراحل، أي أنكم حتى إن أغلقتم الجوامع واعتقلتم أئمتها فإن الإسلام سيواصل الحياة بين أفراد الشعب، وبناءً على هذه الحقيقة الاجتماعية طوّر النظام الروسي استراتيجية جديدة تعتمد على تمثيل الإسلام بواسطة السلطات الرسمية وتوجيهه في إطار سياسات الحكومة.[/box][/one_third]يركز مؤلف الكتاب، الذي نشر للمرة الأولى عام 2005، على مصطلح “الإسلام الموازي” الذي استخدمه النظام السوفيتي الشيوعي، ويرجِع الموضوع إلى بعض المصادر التي يحمل أحدها اسم “تهديد الإسلام لدولة السوفيت” ،ويحمل الكتاب الذي كُتب عام 1983 توقيع كل من ألكسندر بنيجسن وماري بروكسب. وعندما تتبعت أثر مصطلح “الإسلام الموازي” الذي صادفته في هذين الكتابين رأيت أن النظام الشيوعي ألصق مصطلح “الموازي” بالمسلمين، وذلك بخلاف “الإسلام الرسمي” الذي فرضه النظام بالقوة، حتى أن الكتاب يقول في مقال نشر بإحدى المجلات عام 1978 إن روسيا الشيوعية يوجد بها “إسلام رسمي” و”إسلام مواز” ،أي أننا أمام مصطلح صُنع في الاتحاد السوفيتي: “الإسلام الموازي” ،وإذا سمحتم فلنلق نظرة على متى وكيف ولماذا اختُلق هذا المصطلح.
ينشر الشيوعيون بيانًا بتاريخ 3 ديسمبر/ كانون الأول 1917، أي عقب اندلاع الثورة البلشفية بقليل، ويعلن النظام الشيوعي، في بيان له حمل عنوان: “نداء إلى العمّال في روسيا والشرق”، أنه يعترف بهوية المسلمين، وأن معتقداتهم وتقاليدهم محفوظة ومضمونة لهم، وهذا موقف معاكس تمامًا لما تبناه النظام القيصري في روسيا، بيد أنه فُهم بعد ذلك أن حرية الاعتقاد ليست هي الهدف الأساسي للنظام الجديد، وأنه يرغب في القضاء على حالة الفوضى التي تلت الثورة، هذا فضلًا عن زيادة الضغوط التي مورست من قبل السلطة على الأديان اعتبارًا من عام 1920، حيث اعتبر النظام السوفيتي جميع أنواع الظلم مناسبًا بالنسبة “للشعوب” من أجل إبعاد الناس عن الدين، ولقد وصلت الضغوط على المسلمين في روسيا إلى أبعاد لا تحتمل في الفترة التي تلت عام 1928، فأُغلقت الجوامع، ومُنعت مدارس المسلمين من مزاولة أنشطتها التعليمية، وفُتحت التحقيقات بحق علماء الدين الإسلامي الذين اعتقل معظمهم، وسخرت الدولة جميع إمكاناتها من أجل اقتلاع الإسلام من جذوره، إلا أن عملية فهم أن الدين لا يمكن محوه بممارسة الضغط لم تستغرق وقتًا طويلًا، كان الناس لا يستطيعون الوصول إلى المصادر الدينية المكتوبة، وكانوا يسيرون في طريقهم نحو الجهل يومًا بعد يوم، غير أنهم لم ينسوا هويتهم المتجسدة في رموز عاداتهم وتقاليدهم؛ إذ كانت بعض الأنشطة الحياتية مثل حفلات الأعراس وختان الأولاد ودفن الموتى تحيي الهوية الثقافية لهؤلاء المسلمين، وعليه، بادرت الإدارة الروسية إلى تأسيس دار إفتاء للشؤون الدينية في عامي 1941 و1942. وكان الهدف من إنشاء دور إفتاء دينية في طشقند وبخارى وبايناس وأوفا هو السماح لممارسة المفهوم الذي يضعه النظام السوفيتي للإسلام في إطار محدد، وعيّن النظام مفتين ومشايخ تيقن من أنهم لن يتكلموا ضده في يوم من الأيام.
ويبدو أن موسكو، التي لم تستطع أن تبعد الناس عن الدين تمامًا، كانت تبحث عن طريق للنجاة من خلال معادلة تتوافق مع روح الحرب الباردة، وكان ذلك النظام، الذي أغلق حتى الكنائس الأرثوذكسية في روسيا، يرى نفسه ناجحًا إلى حد ما في موضوع النصرانية، لكن الظروف تتغير عندما يكون الحديث عن الإسلام. والسبب معلوم؛ ألا وهو أن الإسلام لم يُبنَ على أساس نظام الرهبانية، ولم تكن الكيانات المؤسسية شرطًا لكي يعيش المسلمون دينهم، وكان الإسلام مندمجًا مع الشعب في كل المراحل، أي أنكم حتى إن أغلقتم الجوامع واعتقلتم أئمتها فإن الإسلام سيواصل الحياة بين أفراد الشعب، وبناءً على هذه الحقيقة الاجتماعية طوّر النظام الروسي استراتيجية جديدة تعتمد على تمثيل الإسلام بواسطة السلطات الرسمية وتوجيهه في إطار سياسات الحكومة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن مصطلح “الكيان الموازي” الذي أطلق على الخدمات الصادقة للمساعي المدنية ما هو إلا انعكاس للعقلية الشيوعية، وكما أن ذلك النظام غير الطبيعي والقمعي انهار واختفى، فإن الهندسة المجتمعية التي يراد من خلالها التصرف وفق المنطق ذاته ستنهار اليوم أو غدًا، ومن لا يصدق ذلك فليسأل الشيوعيين أنفسهم.[/box][/one_third]وعندما أسس الشيوعيون إستراتيجيتهم وفق “الإسلام الرسمي” واجهتهم مشكلة أخرى: كان جزء من المبادرات المدنية تلبي الاحتياج إلى الإسلام الذي كان شائعًا بين عامة الشعب، وإن كان اقتران أسماء هؤلاء الأشخاص، الذين لم تكن لديهم أي تطلعات من الشعب، بالطرق الصوفية المختلفة وإلصاق بعض التهم بهم، تسبب في تشويه صورتهم بشكل أو بآخر، فإن المجتمع كان يسعى لتلبية احتياجاته المعنوية داخل التدفق الطبيعي للحياة، ولهذا فإننا نرى استخدام مصطلح “الإسلام الموازي” في هذا الإطار، أي أن هذا المصطلح كان يطلق على المسلمين غير الممثلين من قبل الأشخاص المعينين من جانب الدولة من الذين لا يتبنون خطابًا دينيًا يتوافق مع سياسات الدولة.
لقد مارست العقلية الشيوعية العتيقة، التي آمنت بأن “الإسلام الموازي” (غير الرسمي) خطير وحاولت إقناع الجميع بذلك، ضغوطًا على الإسلام وسائر الأديان الأخرى. والنتيجة؟
انهار هذا النظام القمعي من أساسه بين ليلة وضحاها، وعندما انهار النظام الشيوعي تماماً أحيا الناس حياتهم الدينية التي كانوا يعيشونها سرًا في الماضي، ففتحت الكنائس وشيدت الجوامع، وشهد الجميع كيف أن “النظام اللاديني” كان خطأ كبيرًا، واليوم يستطيع الناس في روسيا اختيار المعتقد الذي يريدون ويمارسون شعائرهم كيفما يشاءون، ونرى بعد سنوات طويلة أن ثمة عناصر مخادعة حتى في المشاهد التي ظن البعض أنها نجاحات حققها نظام الاستبداد وفرض الرؤية الرسمية على الناس.
وعلى سبيل المثال فإن قسمًا من الأشخاص المعينين في المناصب الدينية من قبل الدولة لم تخفق قلوبهم، وحتى لم تتوافق أفعالهم مع رغبات النظام، وإن كانوا قد انهالوا بالمديح والثناء على النظام الشيوعي لإنقاذ المظهر الخارجي.
يعود الماء إلى مجراه الطبيعي إن عاجلًا أو آجلًا ويتدفق فيه، حيث أن فصله عن مجراه الأساسي من خلال الضغوط المتعددة يشبه السير في طريق مخالف لفطرة الإنسان، ولا يمكن فرض ضغوط على الدين وممارسة شعائره من قبل الدولة، وإن مصطلح “الكيان الموازي” الذي أطلق على الخدمات الصادقة للمساعي المدنية ما هو إلا انعكاس للعقلية الشيوعية، وكما أن ذلك النظام غير الطبيعي والقمعي انهار واختفى، فإن الهندسة المجتمعية التي يراد من خلالها التصرف وفق المنطق ذاته ستنهار اليوم أو غدًا، ومن لا يصدق ذلك فليسأل الشيوعيين أنفسهم…