بقلم: علي أونال
نشرتُ عديداً من المقالات في هذا العمود من صحيفة “زمان” حول رئاسة الشؤون الدينية التركية ونبّهتُ فيها إلى أن الدولة رجّحت الاستفادة من دين الإسلام عمومًا، ونوّهتُ بأنه تم استخدام رئاسة الشؤون الدينية أحياناً لتحقيق هذه الغاية.
وفي الوقت ذاته أكَّدتُ أنه بمقدور رئاسة الشؤون الدينية، مع أنها تلقي العديد من المعاذير في هذا الشأن، أن تنهض بمهامَّ كبيرة وتقدِّم أعمالاً إيجابية باسم الإسلام وبلدنا، ونظراً لأنها تمثِّل ديناً كالإسلام الذي يحتضن جوانب الحياة كلها، والذي لا يصير الإنسان إنساناً حقاً إلا به، وهو الدين الأكثر اعتناقاً واهتماماً لدى شعبنا، فإنه ما يقع عليها في المقام الأول وقبل أي مؤسسة أخرى هو الوعيُ بأنها تنهض بمثل هذه المهمة الكبيرة والشعورُ بثقلها، وكذلك عزتها وفخرها في ضميرها.
وقد اعترف رئيس الشؤون الدينية الشيخ محمد جورماز، في حديثه لقناة “تي آر تي خبر” الإخبارية الرسمية، بأن الدولة توجِّه رئاسة الشؤون الدينية قائلاً “إن رئاسة الشؤون الدينية لها تاريخ أليم في هذا البلد”، ثم تطرق إلى موضوع ما يسمونه “الكيان الموازي”. ولعله سعى لإنقاذ رئاسة الشؤون الدينية من هذا الوضع الأليم أمام السلطات الحاكمة عندما قدّم الدعم من الناحية الدينية لتدمير حركة الخدمة؛ القضية الوحيدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم! إذ اتهمها الشيخ جورماز بسرقة المشاعر المعنوية للشعب وعدم صرف الزكاوات في محلها الصحيح، وذلك على الرغم من أنه التزم الصمت المطبق إزاء ادعاءات أعمال السرقة والفساد والرشوة التي طفت إلى السطح في الـ17 ديسمبر الماضي برفقة أطنان من البراهين والوثائق، فضلاً عن صمته أمام الكمّ الهائل من الافتراءات والإهانات الموجّهة للأستاذ فتح الله كولن، وأمام الأقوال الخطيرة للغاية الصادرة من أفواه بعض المسؤولين بحيث تنمّ عن كل منها رائحة الشرك والكفر، وأمام إلغاء العمل بالقانون في البلاد منذ شهور.
وقال الشيخ جورماز: “إن السرقة أمر شائن بالطبع”، لكنه أقرّ ضمنيًا السرقات المنسوبة إلى الحزب الحاكم وإلى رئيس الجمهورية وبرَّرها وحاول أن يقلِّل من فظاعتها بمقولته هذه: “ولكن سرقة العواطف الدينية للشعب أسوأ”. حسنا، فمن هو الذي يسرق العواطف الدينية للشعب؟ فلقد ازدادت حالات الانتحار في تركيا بنسبة 36%، والإقبال على تعاطي الكوكايين بنسبة 572%، وتعاطي المخدرات بنسبة 140% في آخر 5 سنوات، كما ازدادت حالات الزنى في بيوت الدعارة “الرسمية” بنسبة 700%، وكل ذلك حسب الإحصائيات الرسمية والأبحاث الأكاديمية التي جرت في عهد الحكومة التي يدعمها جورماز بوصفه رئيس الشؤون الدينية. كما أصبح 45% من طلاب الثانوية يدخنون و32% منهم يتناولون المسكرات، و9% منهم يتعاطون المخدرات، وفي كل عام يولد مئات الآلاف من الأطفال غير الشرعيين، وتقع مئات من حالات الطلاق يوميا، وثمة تقرير يؤكد انخفاض سن تعاطي المسكرات والمخدرات إلى 10 سنوات.
كل هذا، إضافة إلى أعمال السرقة والفساد للسلطة الحاكمة، لا يحمل أي قيمة أو وزن من حيث معنويات الشعب في نظر الشيخ جورماز، ولا يعدّه سرقة لمشاعره الدينية. لكنه مقابل ذلك، يتجاسر على اتهام حركة الخدمة المتجاوز عدد أفرادها الملايين بسرقة عواطف الشعب الدينية والمعنوية، وذلك على الرغم من أن أي تقرير، كان رسمياً أو غير رسمي، لم يسند حتى اللحظة إلى أي واحد من أفرادها الإقدام على تصرفات مَشينة من فاحشة أو شرب مسكر أو ممارسة فساد أو رشوة، بل على العكس تماماً يشهد القاصي والداني بأن جميعهم ذروة في الأخلاق والآداب وقدوة وأسوة حسنة للآخرين في 160 دولة رحَّبت بهم، وقد قدموا أجلَّ الخدمات للإسلام وبلدنا تركيا، وحُظوا بثناء ومدح 160 دولة في العالم لما قدموه من خدمات لمواطني هذه الدول. إذن فهل هناك ظلم يهزّ عرش الرحمن وافتراءٌ أكبر من ذلك؟!
والأمر الثاني هو أن الشيخ جورماز يتهم حركة الخدمة بإساءة التصرف بالصدقات والزكاوات. لكن في الوقت الذي قبض الشعب التركي حكومة العدالة والتنمية، التي يدعمها جورماز، وهي متلبسة بجريمة السرقة ذات الأبعاد الرهيبة، التي يعترف (جورماز) بها ضمنياً؛ لا يوجد أي تقرير، رسمي أو غير رسمي، يشير إلى التصرف الخاطئ بقرش واحد من الأموال التي تجمعها الحركة من المتطوِّعين في إطار القوانين من أجل خدمة الدين والوطن والأمة. فهل لدى جورماز دليل واحد على ما يدعيه حتى يجد في نفسه جسارة لتوجيه افتراء ثانٍ للخدمة من شأنه أن يهتزّ من هوله عرش الرحمن؟
فضلاً عن كل ذلك، كيف يمكن تفسير تنشئة أجيال متدينين نزيهين للغاية، ثم انضمامِ هؤلاء إلى كوادر مؤهلة في المؤسسات البيروقراطية عن جدارة، ونهوضِهم بمهامهم في إطار القانون بـ”شهوة القوة”، وكيف يمكن وصف ذلك بـ”التدخُّل في السياسة الدولية”؟ حتى ولو فرضنا جدلاً أن الخدمة تتدخَّل في السياسة ضمن ما تسمح به القوانين فلماذا ينزعج الشيخ جورماز من ذلك؟
وعندما طالب الملايين من الناس في الآخرة بإبراز وثائق هذه الافتراءات، أتمنى أن يكون “جورماز”، الذي يأتي اسمه بمعنى “غير المبصر” في اللغة التركية، قد أبصر تلك الوثائق في الدنيا وقدّمها لرب العالمين في العقبى، إن استطاع على ذلك!
صحيفة “زمان” التركية