(زمان التركية)ــ أعد موقع (الرصيف) تقريرًا ثقافيًا حول تركيا يرصد فيه “لغة الصفير” التي يستخدمها سكان القرى الجبلية على ساحل البحر الأسود منذ مئات السنين للتواصل فيما بينهم.
استخدم سكان القرى التركية المُطلة على البحر الأسود، “لغة الطيور” بعدما لاحظوا انعدام وسائل التواصل ووعورة التضاريس، وهكذا مع الوقت حوّلوا “الصفير إلى لغتهم الأم منذ أكثر من 500 عام، مطلقين على هذه اللغة الغريبة إسم “كوش ديلي” (kuș dili) التي تعني في حدّ ذاتها “قرية العصافير”.
اللافت أن هناك حوالي 10 آلاف شخص من سكان هذه القرى الجبلية التي تمتاز بتضاريسها الوعرة يستخدمون “الصفير” للتواصل فيما بينهم، فعلى سبيل المثال تصبح جملة: “هل لديك خبز طازج”؟ في لغة الطيور عبارة عن 6 صفارات منفصلة تخرج من الفم بواسطة اللسان والأسنان والأصابع.
ولكن ما سبب استخدام هذه اللغة بشكلٍ بارزٍ في هذه المنطقة بالذات؟
للوهلة الأولى، تبدو بلدة “كوش كوي” التركية كغيرها من القرى الجبلية، فمنازلها المتواضعة تتربع على سفوح التلال، جنباً إلى جنب مع حقول الشاي وبساتين البندق، ومع ذلك فإن لهذه القرية التركية طابعاً خاصاً: يصاحب صوت هدير المياه والدعوات اليومية للصلاة، نغمات مميزة تصدر من أفواه سكانها…
ففي ظل وجود القمم التي تكسوها الأشجار والجبال والطرقات الوعرة، كان التواصل بين سكان قرية “كوش كوي” صعباً، وبالتالي كان لا بد من إيجاد حلّ لمشكلة التواصل عبر المسافات الطويلة في ظل غياب وسائل التواصل الحديثة، من هنا ارتأى سكان هذه القرية الجبلية تطوير طريقةٍ بسيطةٍ وسهلةٍ للتواصل، فاستوحوا طريقة المناداة بالصفير من زقزقة الطيور، ووجدوا أن الصفير هو الوسيلة الأكثر فعالية والأقل استهلاكاً للطاقة من الصراخ أو حتى من المشي لمسافاتٍ طويلةٍ للوصول إلى الشخص الآخر.
وبالفعل نجحت هذه الوسيلة في تأمين التواصل خاصة أن لهذه اللغة الغريبة القدرة على الوصول إلى نحو 5 كيلومترات، إضافة إلى اختراقها الغابات الكثيفة وإحتوائها على أكثر من 400 عبارة في معجمها، مما يجعلها لغة سريعة وسهلة.
ماذا يحدث للدماغ عند سماع الصفير؟
يعود عمر لغة الصفير إلى قرونٍ عدة، ففي القرن الخامس قبل الميلاد، وصف المؤرخ اليوناني “هيرودوت” بعض المجتمعات الأثيوبية التي تعيش داخل الكهوف بأنها “تتحدث مثل الخفافيش”، كما أن التقارير تؤكد أن لغة الطيور التي تستخدم في جزر الكناري تعود إلى أكثر من 600 عام، وفي تركيا لم يكن الصفير مجرد أمر غريب ومدهش من الناحية الثقافية بل شكل تجربة مثيرة، إذ تساءل الأخصائي في علم النفس “اونور غونتكورن” المولود في تركيا، عن كيفية تعامل الدماغ مع لغةٍ قادرة على تحويل الكلمات إلى شيءٍ من الموسيقى؟
فبالرغم من أن علماء الأعصاب أدركوا منذ فترة طويلة أن وظائف الدماغ لا تنقسم بشكل تام بين الجزء الأيمن والأيسر من المخ، إلا أنه يبدو أن النصف الأيسر يلعب دوراً مهيمناً في فهمنا للغة، بغض النظر عما إذا كانت هذه اللغة تحمل نغمات او منطوقة او مكتوبة، في حين أن النصف الأيمن من المخ يتحكم بطريقة فهمنا للحن وللإيقاع.
وبهدف معرفة طريقة تفاعل الدماغ مع لغة الطيور، اختار غونتكورن 31 متطوعاً يجيدون اللغة التركية المحكية ولغة الصفير، وجعلهم يستمعون إلى مقاطعٍ مختلفةٍ يتم تشغيلها في وقتٍ واحدٍ بين الأذن اليمنى واليسرى من خلال سماعات الرأس.
النتيجة: عند سماع اللغة التركية المحكية، فهم المشتركون المقطع الذي تم تشغيله من خلال الجزء الأيمن، مما يشير إلى أن الجزء الأيسر من المخ كان يهتم بمعالجة الصوت، وعندما انتقل الباحث إلى مقطع الصفير، فهم المشتركون هذه اللغة من خلال الجزئين الأيمن والأيسر بطريقةٍ متساوية، مما يوحي بأن الجزءين قد لعبا دوراً مهماً في المراحل الأولى من الفهم.
وقد علّق الباحث على هذه النتائج بالقول:” إن تنظيم دماغنا من حيث بنيته غير المتناسقة، ليس ثابتاً كما نفترض… فالطريقة التي تقدم إلينا المعلومات تغيّر بنية دماغنا بشكل جذري”، متسائلاً عما إذا كان الأشخاص الذين لديهم مشكلة في فهم اللغة المحكية نتيجة إصابة دماغية في النصف الأيسر من الدماغ قد يتعلمون لغة الطيور.
لغة مهددة بالإنقراض؟
نظراً لأهميتها واعتبارها “مؤشراً قوياً على الإبداع البشري بحيث أن الأصابع، اللسان، الأسنان، الشفاه والخدود، تتداخل لإطلاق صوت الصفير القادر على الإطاحة بالكلمات، قامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو العام الماضي بإضافة لغة الصفير إلى قائمة التراث الثقافي العالمي في الاجتماع الذي عُقد في “جيجو” في كوريا الجنوبية.
وبالرغم من تصنيف “لغة الطيور” كتراث ثقافي غير مادي، إلا أن هذه اللغة تواجه خطر الاندثار بحسب ما أشارت إليه “اليونيسكو” التي وجدت أن “لغة الصفير قد تختفي قريباً في حال لم يتم اتخاذ تدابير أساسية لصونها عبر نهجٍ متكاملٍ”.
وبالتالي بحسب ما أكدته صحيفة “هارييت”، فإن لغة الطيور تواجه خطر الانقراض خاصة أن رقعة استخدامها قد تقلّصت مع الوقت، وبات التداول بها مقتصراً على شريحةٍ صغيرةٍ من الناس تعمل في الأراضي الزراعية بشكلٍ خاص.
فبالرغم من تنظيم مسابقات للصفير في قرية “كوش كوي”، إلا أن لغة الطيور تختفي بسرعة من الحياة اليومية للقاطنين هناك، لا سيما مع وجود جيران فضوليين وإدراك السكان بأن الرسائل النصية توفر مستوى أعلى من الخصوصية لا يفعله الصفير.
ونتيجة الصعوبة التي تواجهها لغة الصفير في الصمود بوجه التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الحديثة، يحاول سكان القرى الجبلية في تركيا بشتى الطرق الحفاظ على هذه اللغة الفريدة من نوعها وحمايتها من الاندثار، من خلال نقلها عبر الأجيال.
في هذا الصدد، أوضح عميد كلية السياحة، البروفيسور “كوسى جنس” لوكالة الأناضول، أن هناك مشروعاً يهدف إلى الحفاظ على لغة الصفير كتراث ثقافي للأجيال القادمة، من خلال قيام الموسيقيين واللغويين من جامعة “جيرسون” بزيارة القرية والتعاون مع السكان لإنشاء أبجدية معيّنة وتحويل “لغة الطيور” في وقتٍ لاحق إلى حروف:” في نهاية المشروع، سيتم استخدام لغة الصفير كوسيلة إتصال من قبل السكان المحليين، وقد تتحول إلى لغة تُستخدم على الصعيد الدولي”.
الجدير بالذكر أنه منذ العام 1997، يٌعقد مهرجان “لغة الطيور” في “كوش كوي” بهدف الترويج لاستخدام هذه اللغة الفريدة، كما يُعطى برامج تدريبية لتلاميذ الصفوف الابتدائية لتعلم لغة الصفير.