بقلم: لاله كمال
يناقش البعض دور تركيا في صدور قرار بنقل الهجمات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الإرهابي في العراق إلى الأراضي السورية.
وإن لم نشهد تغييرًا جذريًا في موقف أنقرة إزاء هذه الأزمة، فإن تركيا ستتجنّب تقديم الدعم الحيوي لقوات التحالف في حربه ضد داعش، أي ستتحاشى المشاركة في التحالف كقوة قتالية، وستكون الحجة الأساسية التي ستقدمها أنقرة لتجنّب قتال داعش هو احتجاز ذلك التنظيم الإرهابي 49 شخصًا من رعاياها بعدما هاجم القنصلية العامة التركية في الموصل قبل نحو ثلاثة أشهر، وقلقها من إقدام التنظيم على قتل هؤلاء الرهائن كمعاملة بالمثل في مواجهة انضمام تركيا لتحالف يقاتل ضد عناصره.
ولقد انتشرت في الآونة الأخيرة أنباء تفيد بأن أنقرة ستسمح لحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، إن طلبوا منها ذلك، باستخدام قاعدة إنجيرليك الجوية فقط من أجل إرسال المساعدات الإنسانية وإقلاع الطائرات منزوعة السلاح، وأنها ستزيد من تعاونها الاستخباراتي مع حلفائها في مواجهة عبور عناصر” داعش” من أراضيها إلى سوريا، وأنها ستضغط لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية كاجراء احترازي إزاء موجة الهجرة التي ربما تحدث إثر الاشتباكات.
لكن دعونا نطرح سؤالًا حساسًا: لو لم تكن واقعة احتجاز داعش المواطنين الأتراك في الموصل قد حدثت هل كانت تركيا ستلعب دورًا أكثر فعالية في مواجهة خطر هذا التنظيم الإرهابي؟
ينبغي لنا أن نبحث عن إجابة هذا السؤال في واقعة احتلال العراق من جانب قوات التحالف بزعامة الولايات المتحدة لإسقاط نظام صدام حسين في مارس/ آذار 2003، ولم يكن حينها هناك رهائن أتراك محتجزون في العراق كما هو الوضع اليوم.
وكان حزب العدالة والتنمية قد وصل إلى سدة الحكم في تركيا أواخر عام 2002 بينما كانت واشنطن تواصل مفاوضاتها مع المسؤولين العسكريين والمدنيين في أنقرة آنذاك من أجل جعل الأراضي التركية كجبهة ثانية في عملية احتلال العراق.
وكانت الحكومة التركية وقتها قد حصلت على تصاريح من البرلمان من أجل إنجاز علميات البناء اللازمة من أجل تجهيز ميناء إسكندرون وبعض المنشآت الأخرى لتكون معدة للحرب على أساس أن القوات الأمريكية ستستخدم الأراضي التركية في حربها على العراق، وبعبارة أخرى، كانت أنقرة قد أعطت الضوء الأخضر من خلال هذا الإذن الأول للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية كجبهة ثانية في هذه الحرب.
لكن قبل أيام قليلة من عقد البرلمان التركي جلسة للمصادقة على الإذن النهائي الذي سيسمح للجنود الأمريكيين باستخدام الأراضي التركية، نشرت إحدى الصحف تصريحًا نسبته إلى شخص لم تذكر اسمه، ولكن اتضح بعد ذلك أنه قائد إحدى القوات العسكرية، يقول فيه إن مشاكل حدثت خلال المفاوضات الجارية بين أنقرة وواشنطن حول هذا الشأن، الأمر الذي ألقى الهلع في قلب حكومة حزب العدالة والتنمية، التي كانت لا تزال حديثة العهد بالسلطة وتعاني الأمرّين جرّاء صراعها مع الوصاية العسكرية، لكن المؤسسة العسكرية في تركيا، التي لم تكن تستشعر الحرج من إبداء رأيها في جميع القضايا السياسية في ذلك التوقيت، لم تعبر عن وجهة نظرها السلبية أو الإيجابية إزاء استخدام الولايات المتحدة الأراضي التركية كجبهة ثانية في حربها على العراق خلال البيان الختامي لاجتماع مجلس الأمن القومي الذي عقد بتاريخ 28 فبراير/ شباط 2003، على الرغم من أن قرارًا كهذا يدخل في نطاق اهتماماتها.
وعقد البرلمان التركي جلسته يوم 1 مارس/ آذار على خلفية هذه الأحداث، ورفض بفارق ضئيل من الأصوات المقترح الذي يطرح استخدام الجنود الأمريكيين للأراضي التركية في حربهم على العراق.
كانت الولايات المتحدة تشعر آنذاك بأن تركيا، حليفتها المقربة، قد خدعتها، ذلك أن البرلمان التركي الذي كان قد سمح بصيانة القواعد الجوية والعسكرية في تركيا لاستغلالها في خدمة الجنود الأمريكيين، رفض بعد ذلك بعدة أسابيع استخدام الأراضي التركية كجبهة ثانية للقوات الأمريكية.
كانت تركيا التي رفضت مقترح جعل أراضيها في خدمة القوات الأمريكية في اللحظات الأخيرة بعد مفاوضات استمرت لشهور، قد طرحت مجموعة من علامات الاستفهام بشأن كونها حليفًا موثوقاً لحلف ناتو أم لا، وفي الوقت نفسه فقدت تأثيرها في مواجهة حزب العمال الكردستاني الذي اتخذ شمال العراق قاعدة لعملياته المسلحة، وأصبح أكراد شمال العراق أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة.
لقد استغرقت عملية استعادة الثقة المفقودة في العلاقات الثانية بين البلدين وقتًا طويلًا، وإن لم تقدم تركيا الدعم الفعال لقوات التحالف في حربها ضد داعش هذه المرة، فإنها لن تصير من الآن فلاحقًا صاحبة كلمة عليا في الأحداث التي تشهدها المنطقة، كما أنها ستفقد زمام المبادرة من جديد لصالح الجماعات والعشائر الكردية، هذا فضلًا عن أنها ستضطر لتقديم المزيد من التنازلات في مفاوضات السلام التي تجريها مع مواطنيها من الأكراد.
وفي النهاية نقول إن أية دولة لا تستطيع أن تكون دولة كبيرة ذات شأن من دون أن تتحمل جزءًا من المسؤولية في المهام الصعبة.