بقلم: مصطفى أونال
بادرت عناصر منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية إلى قطع الطرق، ولم يرها أحد، وعمدت إلى مراقبة الحركة المرورية وهي تحمل السلاح وترتدي الزي الرسمي، ولم ينتبه أحد، أنزلت العلم التركي في إحدى الثكنات العسكرية، ولم يثُر أحد، قيل إن “الكيان الموازي” يقف وراءها، ولم يحرك أحد ساكنا، تحدت المنظمة الإرهابية الدولة، فلم يهتم أحد، ولم يرد حتى عن ذلك.
من استطاع حساب أي متسبب في هذه الأحداث؟ لا أملك أي إجابة مطمئنة لهذا السؤال، ولا أريد بطبيعة الحال أن تتضرر مفاوضات السلام القائمة، فمن يريد أن تعود تلك الأيام السوداء مرة ثانية؟ ومن يرضى أن تراق الدماء وتشيع جثامين الشهداء؟ صمتت الأسلحة، وتنفست تركيا ومنطقة جنوب شرق الأناضول الصعداء.
أوليست عملية السلام ثنائية الأطراف؟ أوليست المفاوضات تلزم حزب العمال الكردستاني وأنصاره؟ وإلى مدى ترك الميدان لهم صحي وسليم؟ هل هناك ميعاد محدد لإنهاء هذه المسألة؟ أولم يكن هناك وعد بأن تسير الأمور خطوة بخطوة كما يصعد الواحد منا على السلم؟ وأن يترك البلاد عناصر المنظمة المسلحة على الجبال؟
كانوا يحددون موعدًا لكي يجري الانتقال من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة، على أن تخلى معسكرات التنظيم خارج تركيا. ولم نكن سنكتفي بصمت الأسلحة، بل كان حاملوها سيودعونها. وقد انتهى عمر السلاح. ولم تكن الجماعات المسلحة ستتجول كما يحلو لها في جبال تركيا وعلى الطرف المقابل من أراضي شمال العراق. وكانت الجبال ستتحول إلى مروج حيث لا يطوف بها سوى رعاة الغنم… وكان حتى مجرد تخيل هذه الإنجازات شيئًا جميلًا تطيب له النفس.
يا ليت كان بالإمكان عمل ميزانية لهذه العملية..وياليت المسؤولين كانوا قد حددوا “من أين بدأنا، وأين نحن، وفي أي اتجاه نسير؟”.
بإمكانك الاستماع إلى “رسائل متفائلة” من الحكومة التركية. يحظى التنظيم الإرهابي باهتمام فائق. تتميز طبيعة هذه العملية بشرب الدماء بنية شرب التوت البري الأحمر، وأنا لا أعترض على هذا، يجب على المسؤولين أن يصدروا بيانًا مقنعًا حول عدم مغادرة العناصر الإرهابية الأراضي التركية حتى اليوم. ثم لماذا يحشد التنظيم عناصر جديدة ويرسلهم إلى الجبال؟ أليس من حقنا أن ننتظر توضيحًا من المسؤولين حول هذا الأمر؟
تجمعت لدينا الكثير من علامات الاستفهام. غير أن هدفي ليس السؤال عن المرحلة التي وصلت إليها مفاوضات السلام. شعرت بالألم الشديد لسماعي خبرين طالعتهما في الصحف. فقد بادر جناح الشباب بتنظيم حزب العمال الكردستاني إلى شن حملة ضد ترويج المخدرات في مقاهي مدينة ديار بكر؛ إذ نشرت صور هذه الواقعة في مواقع التواصل الاجتماعي. هل هذا محيّر؟ لا، ليس محيّرًا. فمن قرأ الماضي يستنبط بسهولة ما يمكن أن يحدث في المستقبل. وكيف يكون من المفاجئ أن نسمع في يوم من الأيام أن عناصر التنظيم الإرهابي ينظمون حملة على مقاهي ديار بكر بعدما سمعنا أنهم يراقبون الحركة المرورية بالمدينة؟
أما الخبر الثاني فلم يبقَ بين الأسطر، بل قفز ليحجز لنفسه مكانًا في الصفحات الأولى من الأجندة اليومية لتركيا. والخبر يتحدث عن مبادرة حزب العمال الكردستاني إلى نصب تمثال تذكاري لمعصوم كوركماز ، أحد مؤسسي التنظيم الإرهابي، في مقبرة تابعة للتنظيم، أو مقبرة للشهداء كما يزعم أنصار التنظيم، بمقاطعة ليجا في ديار بكر. وكان كوركماز من أوائل من رفعوا السلاح في وجه الدولة التركية قبل 30 عامًا. فهذا ليس نصبًا للسلام. يرتدي كوركماز في هذا النصب معطفًا ويحمل في يده سلاحًا، ولن نتعجب إن تركناهم أن يخرجوا علينا غدًا بإقامة نصب تذكاري لعبد الله أوجلان.
تحركت الحكومة التركية بناءً على الأخبار المنتشرة حول الواقعة. وتقدمت ولاية ديار بكر بشكوى جنائية، وأصدرت المحكمة حكمها. وبادر الجنود إلى إزالة النصب التذكاري من مكانه، ولم يبقَ منه إلا قاعدته. لكن ذلك لم يحدث بسهولة؛ إذ اندلعت أعمال الشغب والعنف التي لقي إثرها شخص مصرعه وأصيب آخرون بجروح.
وبحسب بيان رئاسة أركان الجيش، شنت مجموعة قوامها 200 إلى 250 شخصًا هجومًا على جنود الجيش مستخدمين قاذفات الصواريخ والبنادق والمتفجرات يدوية الصنع. وقد أصابت رصاصة المركبة التي كانت تنقل قائد إحدى فرق الجيش. كما صادف المحققون آثار ست رصاصات أصابت طائرتين مروحيتين. هذا ليس ادعاءً أو خبرًا صحفيًا، بل هو تصريح رسمي صادر عن قيادة الجيش.
مفاوضات السلام مهمة لا شك، لكن ألم تدمي هذه المشاهد قلوبكم؟ ومهما شكرنا الله على توقف نزيف الدماء فلن يكون كافيًا، لكن هل يمكن أن ننظر إلى هذه المشاهد على أنها مشاهد عادية؟
هل سمعت الحكومة عن واقعة تدشين النصب التذكاري من خلال الأخبار الإعلامية؟ وهل يا ترى كانت الدولة ستكون غافلة عن هذه الواقعة إن لم تكن الصحف قد نشرت أخبارًا عنها؟ وذلك بما أن هذا التمثال لم ينزل من السماء لينصب في مكانه. ألم تكن من المفترض أن تمنع الدولة بناء تمثال كهذا أثناء صناعته أو نقله إلى مكان تنصيبه؟ والمواطن هو الذي يستطيع أن يتقدم بشكوى جنائية.
“نزل العلم” فلم يحرك ساكنًا، و”نصب التمثال” فلم يره أحد. أولسنا، بغض النظر عن تضرر مفاوضات السلام، أمام مشكلة حاليًّا؟ أوليس هناك وزير للداخلية مسؤول عن الأمن العام لهذا البلد؟ وإذا كان لن ينبس ببنت شفة أمام ما يحدث الآن، فمتى سيتكلم؟ أوليس المشهد يوحي بوجود مشكلة متعلقة بالأمن القومي؟ ولننظر من سيبني علاقة بين هذا النصب والكيان الموازي المزعوم.
لا ريب أن مفاوضات السلام مهمة، لكن لا يجب في الوقت نفسه أن نفسح المجال للعناصر الإرهابية تتصرف كيفما تشاء.
صحيفة” زمان” التركية