بقلم: مصطفى أونال
الأجواء ساخنة في العاصمة التركية أنقرة التي لا تعيش ما عهدناه، في مثل هذا الوقت من العام، من راحة ودعّة، فالأجندة اليومية مثقلة بالقضايا المثيرة، والسياسة في حالة مخاض عسير والحزب الحاكم، والمعارضة في الوقت نفسه، حبالى بمواليد جدد.
تتجه الأنظار نحو حزب العدالة والتنمية، الذي نجح في تصعيد رئيسه رجب طيب أردوغان إلى قصر تشانكايا الجمهوري، فمَنْ سيتولّى منصب رئيس الوزراء من بعده؟ لا تزال الإجابة عن هذا السؤال محل تخمين وتوقع من قِبل الجميع، وإن كانت واضحة، لكنها من المسائل التي لا غنى عن مناقشتها خلف الكواليس.
صنّاع القرار داخل أروقة الحزب الحاكم معروفون وواضحون، كما كان الحال بالضبط في حزبي الوطن الأم (ANAP) والطريق القويم (DYP) في الماضي، لن يترَك أعضاء المؤتمر العام للحزب وشأنهم، وسينفَذ كل ما يقوله القائد والزعيم، ويكفي أن تصدر منه إشارة واحدة لتنفَذ أوامره، الخيارات محدودة، ولا يوجد الأقطاب الثمانية الكبار هذه المرة، هل تسألون عن توقعاتي حول هذا الأمر؟ قلت ذلك أول من أمس، ومعلوم للجميع الاتجاه الذي تسير فيه الرياح المسيطرة على حزب العدالة والتنمية، كما هو معلوم في وجه مَنْ تهب.
لا تنتظروا مني أن أسمّي شخصًا لتولي رئاسة الوزراء والحزب، كما لا نية لدي لإكمال الحديث، فعندما تدونون ما لن يحدث أسفل بعضه البعض، اكتبوا ما تبقى كملاحظات، جسّ النبض والاجتماعات المطوَّلة ما هي إلا مناظر، حتى المؤتمرات ما هي إلا شكليات، سيصادق أعضاء المؤتمر العام على الاسم المشار إليه، وليس هناك الكثير من المرشحين ليكون بينهم منافسة حقيقية.
لا شك أن أحدًا يمكنه القول إن ما يحدث لا يقبله الجميع، إن حزب العدالة والتنمية ليس حركة حديثة الظهور؛ إذ أنه ينتمي لتقليد معين معروف، الانضباط داخل الحزب متقدم على الديمقراطية الداخلية وهو في مقدمة أولوياته، الاعتراض اليوم لا معنى له، ولم يعد هناك وقت لإيضاح وجهات النظر، فالوقت تأخر كثيرًا، والكلام فقد ثقله النوعي.
غير أنه من المؤكد أن القضية تخطّت السؤال الذي يطرح نفسه “من سيكون رئيس الوزراء؟”، بالنسبة للحزب وتركيا ككل. ولهذا السبب، لا يجب أبدًا أن نغفل عن “الصورة الكبيرة” بينما نحن نحلّل هذا المشهد.
إن ما يشغل الساحة السياسية في تركيا اليوم ليس فقط “بحث حزب العدالة والتنمية عن رئيس جديد للوزراء”. فحزب الشعب الجمهوري، أكبر الأحزاب المعارضة، يشهد هو الآخر أحداثًا مثيرة وكثيرة؛ إذ أعلنت المعارضة داخل الحزب الحرب على رئيسه كمال كيليتشدار اوغلو. والسبب هو نسبة الأصوات التي حصل عليها المرشح التوافقي للمعارضة أكمل الدين إحسان اوغلو في الانتخابات الرئاسية نهاية الأسبوع الماضي.
يتساءل الفريق المعارض داخل الحزب عن الطريقة التي اختير بها المرشح والنتيجة التي تمخّضت عن هذا الاختيار، وإن “المحاسبة الداخلية” هي شيمة من شيم حزب الشعب الجمهوري التي لا غنى عنها بعد كل انتخابات. وكان فريق الوطنيين المتشددين يتحيّن الفرص للانقضاض، ورفعوا أصواتهم عقب الانتخابات.
أما الصراع داخل الحزب من أجل الوصول إلى سلطةالحزب فكان أكثر حماسةً لدى الجناح الوطني المتشدد، والتاريخ السياسي للحزب معلوم للجميع، فصناديق الاقتراع والانتخابات بالنسبة للحزب تعني الهزيمة. فالحزب لم يحصل على المركز الأول في أي انتخابات، بغض النظر عن مسألة توليه السلطة في البلاد بمفرده، وكان رئيس الوزراء الأسبق بولنت أجاويد قد حصل على نسبة 42% من الأصوات في انتخابات عام 1977، وذلك في قمة فترة التعددية الحزبية التي شهدتها تركيا. فهل حزب الشعب الجمهوري فاشل؟ نعم، هو كذلك. ربما يمكن تفسير ذلك، لكن لا شك أن “عدم تمكنه من حصد المركز الأول” يعتبر فشلًا.
المشكلة ليست في الزعيم والفريق المعاون. الأسماء تتغير، والكوادر تتجدد، لكن “عاقبة صناديق الاقتراع” واحدة لا تتبدل، وهي الخسارة الدائمة، فالوصول إلى السلطة داخل الحزب أصبح بلا معنى بعد اليوم، ذلك أنه فقد سلطة الدولة بصفته حزبًا مؤسسًا للجمهورية. والحزب عليه أن يأتي إلى السلطة من خلال الانتخابات، مثل أي حزب آخر. وقد خسر الحزب ليس من الناحية الرقمية فقط، بل من الناحية السياسة أيضًا. فهو موجود بنسبة قوته العددية. بينما تبخر ثقله النوعي الذي كان يتمتع به في السابق.
كان رئيس الحزب كمال كليتشدار اوغلو يدرك هذه الحقيقة منذ اليوم الأول، وقد أقدم على خطوات جريئة لم يكن أحد يتوقعها منه، فأقلع عن الأيديولوجية الصلبة، ورفع التحفظات على مقدسات الشعب، حتى قبل بها، وتوجه نحو بعث جديد، وكل بعث جديد يعني “مغامرة سياسية”، ونماذج ذلك معروفة، وقد كان منصور ياواش، المرشح السابق لمنصب رئيس بلدية أنقرة الكبرى من أصل الحزب القومي، قد خسر الانتخابات المحلية التي جرت يوم 30 مارس / آذار الماضي، لكن بفارق ضئيل عن مرشح الحزب الحاكم.
استخدم الحزب المعادلة ذاتها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، الأمر الذي تمخض عنه ظهور المرشح التوافقي، ولا ريب أن سؤال: “لو كان الحزب خاض الانتخابات بمرشحه الخاص هل كان سينجح؟” سؤال محقّ، كانت الانتخابات الرئاسية حدثًا خاليا من الآمال بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري، الذي حاول أن يحيي آماله بقوله: “هل نستطيع الفوز هذه المرة؟”. ونتيجة ذلك واضحة. ومن الطبيعي أن تصير هذه الواقعة مصدر مناقشات ومجادلات داخل أروقة الحزب.
لكن عاقبة الحزب لن تتغير طالما أصر الجناح اليساري المتشدد داخله في محاسبة الأشخاص عند كل فشل، بديلا عن مناقشة طريقة النجاح في المستقبل، ليتكرر المشهد مرات متتالية.
يعتبر المؤتمر العام الاستثنائي أكثر الآليات التي يعرفها حزب الشعب الجمهوري جيدًا، وربما يمتلك الرقم القياسي العالمي في هذا المضمار، فقيادة الحزب والمعارضة الداخلية يمتلكان خبرة كبيرة، وليس من الصعب توقع ما سيحدث، ولا شك في أن المشاركين في المؤتمر سيتناقشون حول استمرار رئيس الحزب في منصبه، إلا أن الفريق الوطنيين المتشددين داخل الحزب، الذي يرفع رأسه في كل واقعة، يبدو أنه لا يمتلك فرصة للوصول إلى هذا المنصب، ولن يكون مفاجأة أن يشهد الحزب انفصال هذا الجناح.
ما أريد قوله هو أنكم يجب عليكم أن تنظروا إلى التطورات التي تشهدها العاصمة أنقرة دون إهمال الصورة الكبيرة، فالسياسة التركية حاليًّا، سواء داخل الحزب الحاكم أو المعارضة، تعيش فترة مخاض، ولن يذوق أحد طعم الراحة، والمستقبل مليء بالكثير من المفاجآت.
صحيفة” زمان” التركية