بقلم: علي بولاج
حاولت في ثلاث مقالات سابقة لي أن أشرح العلاقة الضرورية التاريخية والحالية بين الجماعات الدينية والدولة في تركيا.
ويجب أن أضيف عاملًا آخر نابعاً من طبيعة التعليم والبيروقراطية، وهو أن الدولة الحديثة تعني البيروقراطية الراهنة التي صنعها العقل التنويري. إن القطاع التعليمي، باعتبار أنه آلية دعاية وتأهيل، يعد عناصر للسلطة. وإذا كنتم تجعلون المجتمع بأسره يمرّ عبر عمليات تعذيب تسمى التعليم، فإن الذين قطعوا مسافة معينة وحصلوا على شهادات تعليمية سيطالبون أن يوظَفوا داخل الكيان البيروقراطي للدولة. وإذا كان بعضٌ من هؤلاء ينتمون إلى جهات مدنية (دينية، مذهبية، عرقية، جماعات دينية، طرق صوفية، مذاهب فكرية إلخ)، فإن تشكيلهم شبكة بين بعضهم البعض لا يعتبر حجة لانتزاع حقوقهم الوظيفية في الجهاز البيروقراطي للدولة، إن لم يستخدموا وظائفهم، أو مناصبهم بشكل يخالف مبادئ العدل والقانون.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن الذين قطعوا مسافة معينة وحصلوا على شهادات تعليمية سيطالبون أن يوظَفوا داخل الكيان البيروقراطي للدولة. وإذا كان بعضٌ من هؤلاء ينتمون إلى جهات مدنية (دينية، مذهبية، عرقية… إلخ)، فإن تشكيلهم شبكة بين بعضهم البعض لا يعتبر حجة لانتزاع حقوقهم الوظيفية في الجهاز البيروقراطي للدولة، إن لم يستخدموا وظائفهم، أو مناصبهم بشكل يخالف مبادئ العدل والقانون.[/box][/one_third]لا يمكن، مهما كان، إبعاد الجماعات عن القطاع الحكومي طالما لم تتغير بنية الدولة والحكومة وظلت على وضعها الحالي، وفي نهاية المطاف يتعرض الموظفون المؤهّلون المنتمون إلى حركة الخدمة اليوم لعملية “إبادة بيروقراطية”، وفي الوقت ذاته، يُعيَّن أعضاء من الجماعات والطرق الأخرى في أماكنهم. لا سيما أن “مجموعتين إسلاميتين ما بين الطريقة والجماعة” تسيطران على آليات الدولة كافة تقريبًا، وصدقوني إن الدولة عندما تبدأ بإعادة تنظيم شؤونها مجددًا في ظرف عدة سنوات، ستقوم بعمليات تصفية دون رحمة ضد أعضاء هاتين المجموعتين أيضاً.
إن العلاقة الحالية بين الجماعات الدينية والدولة في تركيا ليست صحية. وما يجب أن نركز عليه في هذا المقام هو أن الدولة يجب أن تتخلص من عادة التصرف وكأنها جماعة، وأن تتخلص من وعي الجماعة، وأن تقلع عن فكرة تحريض بعض الجماعات ضد جماعات أخرى. خصوصًا وأن إستراتيجيتها الرامية لتشكيل جماعة بنفسها أو سماحها للبعض بتشكيل جماعة عن طريق استغلال إمكانيات القطاع الحكومي ومميزاته، كانت خاطئة منذ البداية.
وبالرغم من هذه العلاقة الضرورية، فإن الدولة، بموجب بنيتها التي تحافظ عليها حتى اليوم، تفسد الجماعات الدينية والطرق الصوفية وتسيء استعمالها. وعندما تتحول العلاقة بين الدولة وهذه الجماعة أو تلك إلى علاقة حميمة وقريبة، تتأثر الجماعة من ممارسات الدولة المتحيزة وغير المتكافئة والاستغلالية، غير أن من يتحمل تبعة هذا الأمر ليست الدولة المطبوعة أصلاً على ذلك، بل تتحملها الجماعة.
إن الدولة لا تفكر ولا تحب أي شيء سوى نفسها، وهي تنافس القدرة الإلهية انطلاقاً من قوتها المزعومة. وهي بموجب عقليتها الحديثة، تختزل السلطة في نفسها فقط، ولا تقبل شريكًا في استخدام السلطات، حتى وإن حصل على صلاحياته من الشعب أو الإرادة القومية للأمة. ويُعتقد أنه لا يمكن السيطرة على هذه القوة الاستفزازية داخل آلة الدولة الضخمة إلا من خلال التضامن الجماعي. ولذلك تسعى المجموعات – سواء شاءت أم أبت – لحجز مواقع مرموقة لنفسها داخل هيكل الدولة، غير أننا نعرف بحكم التجربة أن كل مكان يوجد فيه التضامن الجماعي داخل أجهزة السلطة، يقع فيه الظلم بمختلف أنواعه ومستوياته، ويتعرض الحق للضرر، وتتضرر الجماعات الأخرى بسبب هذه الوضعية، ولا ريب أن التضامن الجماعي لجماعة ما طبيعي وضروري، لكنه يظل كذلك طالما لم يتخطَّ الدوافع الاجتماعية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة. ولكن إذ لم يُقيَّد بهذا الحدّ، فإن التضامن الجماعي يتحول إلى عصبية، وكل عصبية تطرف، وتفضي إلى الظلم.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن العلاقة الحالية بين الجماعات الدينية والدولة في تركيا ليست صحية. وما يجب أن نركز عليه في هذا المقام هو أن الدولة يجب أن تتخلص من عادة التصرف وكأنها جماعة، وأن تتخلص من وعي الجماعة، وأن تقلع عن فكرة تحريض بعض الجماعات ضد جماعات أخرى. خصوصًا وأن إستراتيجيتها الرامية لتشكيل جماعة بنفسها أو سماحها للبعض بتشكيل جماعة عن طريق استغلال إمكانيات القطاع الحكومي ومميزاته، كانت خاطئة منذ البداية.[/box][/one_third]عندما تخرج الجماعات أو الطرق الصوفية إلى الصيد، فإنها لا تدرك في معظم الأحيان أنها هي الفريسة، وأن الدولة التي لا تعترف بشريك لها تستخدم الجماعات والطرق كوسيلة للوصول إلى مآربها، وعندما تحقق ما تريد، تتخلص من هذه الجماعة كما يتخلص المرء من المنديل الورقي الذي يستخدمه، فالدولة ليست شخصية، فهي لا تمتلك لا ضميراً ولا وفاءً، والمسلم الذي يسلّم نفسه إلى الدولة يفقد ضميره ووفاءه معاً.
إن الدولة لا تستهدف مجموعةً معينة تابعة لجماعة تزعم بأنها ارتكبت خطأ أو جريمة، وإنما تستهدف جميع أفراد تلك الجماعة بأسرهم لمشاعر الخوف وانعدام الأمن المسيطرة عليها، وتعمد إلى تطبيق عقوبات جماعية، وتبادر إلى مصادرة جميع ممتلكات الجماعة وكل من له علاقة بها في شتى المجالات من الإعلام إلى التعليم، ومن القطاع المالي وحتى الأشخاص الذين يجري تصنيفهم بحسب انتماءاتهم، وذلك عن طريق استغلال الحيل القانونية. ومن يظنون أنهم سيطروا على الدولة اليوم، ينتهكون بصورة آلية بموجب طبيعة السلطة مبدأ (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا). وتبدأ الدولة بمعاقبة معلمٍ يدرّس للطلاب في أحد المراكز التعليمية أو يخدم التلاميذ في غابات إفريقيا البِكر. أين مبدأ “المتهم برئ حتى تثبت إدانته”؟ أولم يكن مبدأ “المعاملة بالمثل” وعدم الظلم وتخطي الحدود أساساً يتبعه الجميع؟
إن هذه المرحلة تقود تركيا إلى الصراع والدمار الداخلي. وإن الجماعات الإسلامية عليها أن تقف مليًا لتفكر من جديد بشأن المشاكل الأساسية مثل المجتمع والجماعات والدولة والسياسة والسلطة.
صحيفة” زمان” التركية