بقلم: ممتاز أرتركونه
إن تهمة “محاولة إسقاط الحكومة باستخدام العنف والشدة” تهمة كبيرة جدًا، ولهذا السبب تطبق أقصى العقوبات الواردة في القانون التركي على من تسول له نفسه القيام بهذا الفعل، فمن يحاول إسقاط الحكومة يحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة (وكان في الماضي يحكم عليه بالإعدام قبل أن تلغيه تركيا قبل أقل من عقد ونصف).
وإذا قرأتم بعناية المادة 312 من قانون العقوبات التركي، التي تنظم عقوبة هذه التهمة، تجدون أن القانون نظم شؤون هذه التهمة على أنها “محاولة” فقط؛ إذ ليس ثمة تهمة مفادها “إسقاط الحكومة”، إن هذه النقطة مهمة جدًا من أجل فهم ماهية التهمة، فإذا استجمعتم قواكم ولم تخشوا شيئًا ونجحتم في إسقاط الحكومة التي تدير أمور البلاد، فلن يبقى هناك أية تهمة أو دليل عليها، ولن تستطيعوا أن تواجهوا أية تهمة أخرى، باستثناء إسقاط الحكومة، لا توجد عقوبة لها، فيما أن محاولة ارتكابها تشكل جريمة عقوبتها ثقيلة.
تدخل تهمة “محاولة إسقاط الحكومة” ضمن فئة “الجرائم السياسية”، أما حدود الجرائم السياسية فتحددها السلطات الحاكمة أكثر من القانون، فإذا كانت الحكومات تعيش مشكلة تتعلق بشرعيتها، فإن مساحة الجرائم السياسية تتسع، ولا يمكن أن يسمع أحد عن وجود تهمة كهذه في البلدان الديمقراطية التي تضمن حريات مواطنيها، وإذا كانت الحكومة تشعر بصعوبة في إدارة البلاد وتنوي الخروج عن إطار القانون، فإنها تعمد إلى توسيع نطاق “الجرائم والتهم السياسية” وتبني حول نفسها جدراناً للحماية.
وكانت الحكومة العسكرية التي ألغت العمل بالدستور عقب انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول 1980 قد حاكمتني في محكمتها بتهمة “محاولة تغيير الدستور وتبديله وإلغائه” (المادة رقم 146 الشهيرة)، فدخلت السجن، ثم صدر بحقي حكم بالبراءة في نهاية المطاف، غير أن الفارق الوحيد، بحسب الادعاء، هو أنهم، أي الحكومة العسكرية، نجحت في إلغاء الدستور، أما أنا فحاولت إلغاءه فقط، أليس هذا شيئا عجابا؟
إن المحكمة قبلت لائحة الاتهام التي قدمتها النيابة العامة في إسطنبول بشأن أحداث متنزه “جيزي بارك” التي وقعت في يونيو/ حزيران 2013، اعتمادًا على تهمة “محاولة إسقاط حكومة الجمهورية التركية باستخدام العنف والشدة” ،وتتضمن لائحة الاتهام جميع الاتهامات التي تدعم هذا الاتهام، ويبدو أن محاولة مجموعة من المتظاهرين، يطلقون على أنفسهم “مجموعة السوق”، السيطرة على مكاتب رئاسة الوزراء في حي بشيكتاش في إسطنبول وأنقرة، وقولهم “لقد بدأ الانقلاب!”، وتبادلهم الأخبار فيما بينهم تحت عبارة “سنسقط الحكومة!” كانت كافية لإتمام أركان هذه الجريمة، وعليه، تتحول أحداث جيزي بارك إلى مناهضة للحكومة، وتتحول المظاهرات إلى تهمة “محاولة إسقاط الحكومة”، غير أن لائحة الاتهام ينقصها شيء مهم للغاية.
هل الحكومة التركية – بالله عليكم – عبارة عن قلعة من الرمال التي يبنيها الأطفال على الشاطئ حتى تنهار بضربة واحدة تتلقاها؟ ولكي تثبتوا مصداقية هذه التهمة يجب أن تكون المظاهرات التي اندلعت في الشوارع قادرة على إسقاط الحكومة بالفعل، فهل كان هذا الاحتمال قائمًا؟ وهل يمكن لحكومة أن تكون ضعيفة لهذه الدرجة حتى يستطيع تنظيمٌ أن يسقطها مستعينًا بالأعداد والإمكانيات الواردة في لائحة الاتهام، على الرغم من امتلاك تلك الحكومة جهاز استخبارات ووحدات أمنية وحماية قانونية وغير ذلك؟!
تنظّم المادة التالية رقم 313 في قانون العقوبات شؤون هذه الجريمة كالتالي: “التحريض على العصيان المسلح ضد الحكومة”، وهي تهمة أقل وطأة من التي كانت قبلها، حيث تتراوح عقوبة السجن التي تطبق على مرتكبها ما بين 15 و20 عامًا، ألم تكن هذه المادة أكثر تناسبًا مع أولئك الذين يبحثون عن تهمة تتعلق بتنظيم مسلح؟ (إن كان قد ضبطوا القدر الكافي من الأسلحة).
إن تهمة “محاولة إسقاط الحكومة” أصبحت “موضة” عقب الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة يومي 17 و 25 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وادعى البعض أن هذين التحقيقين (تحقيقا جزي بارك وفضيحة الفساد) المرتبطين بأعضاء الحكومة وأقاربهم، هما محاولة “للانقلاب على الحكومة”، حتى أن رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليتشدارأوغلو عندما أسمع أعضاء حزبه في اجتماع كتلته البرلمانية “التسجيلات الصوتيه المتعلقة بالفساد” الواردة في ملفات التحقيق في القضية، تقدم رئيس الوزراء وقتها، رجب طيب أردوغان، بشكوى جنائية إلى النيابة العامة مدعيًا أن هناك “محاولة لإسقاط حكومته”.
يجري توسيع نطاق تعريف الجرائم السياسية من أجل إسكات المعارضة وقمعها، وإذا كنتم تسمعون كلمات “انقلاب”، “جاسوس”، “عميل”، خائن” كثيرًا، فعليكم أن تشعروا بالقلق بالقدر نفسه إزاء التضييق على الديمقراطية والحريات.
تعمل الديمقراطية من خلال تسليم السلطة للأغلبية، إذن، ما هو مصير من هو خارج نطاق هذه الأغلبية؟ فإذا كانت الأغلبية التي سلمتموها السلطة تصف الآخرين بأنهم “انقلابيون” و”خونة”، وتوسع نطاق الجرائم السياسية، فهذا يعني أن السلطة تعيش مشكلة الشرعية، انتبهوا: لا تنسحب جريمةُ “محاولة الانقلاب على الحكومة” اليوم إلا على الادعاءات الواردة في إطار قضية الفساد والرشوة الكبرى، وإلا، فهل الحكومات الفاسدة تسقط بسهولة؟