بقلم: بولنت كوروجو
عندما اكتشفت عجز جهدها وخبرتها في الصراع على الساحة العالمية، انغلقت “تركيا الجديدة” على نفسها، ولا شك في أن حال وسائل الإعلام التي يديرها مهندسو إعادة تشكيل الوعي المجتمعي للشعب التركي يرثى لها أيضا، فالنسخة الجديدة من الدولة العميقة التي تجابه دومًا مفهوم العدو الداخلي تبدو في وضع حرج في الوقت الراهن.
لكنهم هذه المرة يعانون الأمرّين في تلفيق التهم للعدو الداخلي وتكرار هذا الأمر بشكل مستقر، لدرجة أن الصحيفة نفسها تنشر عناوين رئيسة مضادة لبعضها تمامًا، يعتقدون أن الشعب يمتلك ذاكرة كذاكرة السمكة، إلا أنني أرى أنهم مخطئون في ذلك، وكان الجنرال كنعان أفرين، قائد انقلاب عام 1980، يظن أن بمقدوره إعادة تشكيل المجتمع من جديد بعدما نظر إلى الحشود الغفيرة التي كانت تقف أمامه وهو يلقي خطاباته في الميادين، والتملق الذي كان منتشرًا في الصحف حينذاك، وقد ظهر أن الوضع لم يكن كذلك خلال فترة لا تعتبر طويلة بالنسبة لحياة الأمم.
على أية حال، لنعود إلى موضوعنا الذي يتحدث عن المناورات الصعبة التي تقوم بها وسائل الإعلام المقربة للحكومة (أم نقول المقربة لرئيس الجمهورية الجديد؟) ، إنهم يجدون صعوبة جمة في إثبات صحة ادعاءات “الدولة الموازية” ،لا سيما عندما يحاول الإعلام توريط أياد خارجية في الأمر، يضطرون لرسم الرقم “8”(إشارة إلىى حلقة مفرغة)، في الداخل يسعون لتسويق حكاية “أذناب القوى الخارجية”، ومن ناحية أخرى يحذرون الخارج بقولهم: “هؤلاء العفاريت سيلتهمونكم أنتم أيضًا!”.
كان رئيس الوزراء السابق رجب طيب اردوغان، رئيس الجمهورية الحالي، قد أصدر الإشارة الأولى لهذه العملية في فبراير/ شباط الماضي، وبشّر الصحفيين الذين كانوا معه على متن الطائرة لدى عودته من زيارة إلى ألمانيا بأن “كل دولة سترى ذلك التهديد”، ونقلت صحيفة” يني شفق” تصريحات أردوغان إلى صدر صفحاتها على النحو التالي: “أكد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن نظرة العديد من البلدان مثل الولايات المتحدة وألمانيا إزاء جماعة كولن بدأت تتغير، مضيفًا قوله: “تعرفون أن الولايات المتحدة بدأت تنفيذ بعض العمليات، سواء في مكتب التحقيقات الفيدرالي أو غيره، ولقد بدأت عملية هناك أيضًا”، أما جملة: “من قال إن هذه التحقيقات لن تنطلق عندنا نحن أيضًا “، التي اقتبستها الصحيفة، فتتناول الاستراتيجية المنفتحة على الخارج.
إن متوسط الذكاء في تركيا يفلس في النقطة التي تتقاطع فيها الدعاية التي تركز على الرأي العام المحلي مع الرسائل الموجهة إلى الدول الأجنبية، ونشهد ظهور مشاهد تراجيكوميدية، فنرى صحيفة تنشر خبرًا تحت عنوان: “جماعة كولن تخدم سي آي ايه”، ثم تنشر خبرًا آخر تحت عنوان: “تعاون الاستخبارات التركية مع سي آي ايه ضد الدولة الموزاية” ، فما هي العقلية التي يفكر بها هؤلاء؟ .. المنطق يقف عاجزًا أمام فهم العقلية التي تعرض هذين الخبرين المتضادين تمامًا على أنهما خبرين صحيحين، ولأوضح لكم الأمر بمنطق يفهمه طالب المرحلة الثانوية: إذا وجدت واقعة من واقعتين تنفي كل واحدة منهما الأخرى، فهذا معناه أن الواقعة الأخرى غير موجودة، فإذا كانت الشمس موجودة فهذا يعني أن الليل غير موجود، وإذا كان الليل موجودًا فهذا يعني أن الشمس غير موجودة وهكذا، فهم يقولون إن حركة اجتماعية (جماعة الخدمة) تخدم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي ايه) من ناحية، ومن ناحية أخرى تشترك المخابرات الأمريكية في عملية للقضاء على هذه الحركة! وهذا يعني أن قولنا لهم: “اختاروا أحد الخيارين!” عديم الفائدة، فمن الواضح من البداية أنهم لن يختاروا أحد الخيارين، وسيواصلون ترويج هذه الأكاذيب مرة على هذا النحو ومرة على ذلك النحو بحسب مصالحهم.
أسرعوا.. لقد حاصروا الولايات المتحدة كالأخطبوط!
كانت الأغلبية هي التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خبرين جنبًا إلى جنب يكذب كل منهما الآخر كانت نشرتهما صحيفة” أكشام”، أما أنا فأؤمن بأن الخبر الذي نشر في اليوم التالي وحمل عنوان: “كيان موازنٍ كذلك يتسلل إلى القضاء الأمريكي” قد فك شفرة تلك العقلية، والجملة التي تقع تحت ذلك العنوان تقول: “كولن حاصر الولايات المتحدة كالأخطبوط”، وهي من النوع الذي يقال في لعبة” بينجو” ويعني “لقد اكتشفت”،ومن السفه أن يتم الوصول إلى هذه النتيجة من خلال تقديم اسم عضو محكمة عليا في إحدى الولايات في بلد يتألف من 50 ولاية، لكن القضية ليست هي، وليكن كذلك، فلماذا ينزعج مواطن تركي من هذا، أليس ضروريا أن يفرح أبناء دولة أنفقت لسنوات عشرات الملايين من الدولارات على شركات اللوبي في سبيل أن يكون لها تأثير في الولايات المتحدة، أن يفرحوا إذا ما نجحوا في الاتصال بقاضٍ رفيع المستوى؟ وعقب نشر خبر “تعاون جهاز الاستخبارات التركي مع نظيره الأمريكي”، فَقَدَت أكذوبة “جماعة الخدمة تخدم المخابرات الأمريكية” مفعولها، والآن عليهم مواصلة نشر الفرية الجديدة: “الولايات المتحدة تسيطر على حركة الخدمة” ، حسنًا، فما بالكم ببعض الأذكياء الذين يقولون إن “جماعة الخدمة سيطرت على الولايات المتحدة”.
لقد أصبح من المعتاد أن تفتح العقلية ذاتها صفحاتها أمام اللصوص أو القتلة شريطة تلفيقها للكيان الموازي، ولم يعد أحد يستغرب عناوين صحفية من قبل: “حزب العمال الكردستاني الموازي” و”ألمانيا الموازية” ،وبالمناسبة، عندما ننتقل بالحديث إلى ألمانيا، ماذا فهمتم من التصريحات التي أدلى بها الرئيس أردوغان بينما كان في طريقه لحضور قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ويلز وفي أثناء عودته منها؟ ماذا قال أردوغان للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تنصتت على تركيا، ولم تتورّع عن الإفصاح عن أنها ستواصل هذا التنصت كذلك في المستقبل؟
كان تصريح أردوغان قبل مغادرة تركيا لحضور قمة الناتو كالتالي: “سنتحدث حول هذه المسألة ذات الصلة بتركيا بشكل واضح وصريح مع قادة الدول الغربية على هامش القمة، ولأقول لكم شيئًا بمنتهى الوضوح، ليس هناك أية دولة على مستوى العالم تمتلك جهاز استخبارات قوي لا تتنصت على الدول المختلفة، فعلينا أن ندرك ذلك، الجميع يفعل ذلك. والمهم في هذا الموضوع هو ماذا يفعلون وكيف فكوا شفرة ماذا، أمامنا قمة لحلف شمال الأطلسي والجمعية العمومية للأمم المتحدة، وسنتناول هذه المواضيع مع قادة الدول الأخرى. وأعتقد أنهم ربما في المستقبل يسيطرون أكثر على هذا النوع من التصريحات التي تهدد السلام العالمي”.
وأدلى أردوغان بتصريح في طريق العودة قال فيه إن جهازي استخبارات الدولتين، تركيا وألمانيا، سيتناولان هذا الموضوع، بيد أن أجهزة الاستخبارات لا تتحدث مع بعضها البعض، بل تتنصت على بعضها البعض، ويسعى كل منها لمنع الطرف الآخر من التنصت عليه، وأنا لم أفهم شيئًا من ذلك الإعلام الموالي لحكومة حزب العدالة والتنمية، فيا ليت كان بمقدور الصحفيين المستقلين أن يصلوا إلى الرئيس أردوغان ويجروا معه حوارات حتى نفهم ماذا يريد أن يقول.