فهذه الصفات التي بالصيام تقرّب العبد بها إلى ربه، هي في الأصل مبثوثة فيه منذ سواه ربه ونفخ فيه من روحه. وإنما تلاشت وتآكلت بفعل ما ألحقته بها العلل والأسقام التي طرأت على نفسه. فجاء رمضان ليحرره من هذه الطوارئ بإزالة الصدأ عن صفاته الأصلية وإعادة صقلها في كيانه.
فقد جاء في الحديث النبوي الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق آدم على صورته” (رواه مسلم) -وفي رواية “على صورة الرحمن”- للدلالة على أن الإنسان فُطر على صفات الله عزو جل. فكان أمره سبحانه للملائكة بالسجود لآدم في قوله: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)(الحجر:29) دالاًّ على هذا المعنى؛ إذ إن سر هذا المخلوق من سر روح الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض. لكن لمّا طال على هذا الإنسان الأمد، غار ذلك السر في كيانه وهمَد، فجاءه رمضان بالمد والمدَد ليستنهض فيه تلك الفطرة التي انطمس نورها في وجدانه وخمَد، لعله بكل صفة فيه تتجدَّد يعرج في مراتب الإحسان التي من أجلها الملَكُ له سجَد.
وفي ذلك يقول الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني رحمه الله -في إبعاد الغمم- في شرح إحدى حكم ابن عطاء الله السكندري التي يقول فيها: “لا يخرجك عن الوصف إلا شهود الوصف”، يقول: “لا يخرجك عن أوصاف نفسك الذميمة إلا شهود أوصاف ربك العظيمة.. فيخرجك عن شهود فعلك بشهود فعله، وعن شهود صفاتك بشهود صفاته، وعن شهود ذاتك بشهود ذاته”.
من التجليات العظيمة لشهر رمضان، أنك ترى الصائم فيه يترقى في أحواله من صفاته الآدمية إلى صفات الرحمن العلية. فأجوَد ما يكون المؤمن، وأكرم ما يكون، وأرحم ما يكون، وأطهر ما يكون، وأسمح ما يكون، وأعز ما يكون، وأسلم ما يكون الناس منه، وهو صائم في رمضان.
فإذا تحقق للعبد هذا العروج، تولاه ربه بالرعاية وأحاطه سبحانه بالعناية، فكان كما جاء في الحديث سمعه وبصره ويده ورجله؛ لأنه U يصبح النور المتغلغل في كل كيانه. وعليه، فإذا رأيت الشياطين سلسلت في رمضان وغُلت، فلأجل أن يعرف العبد حقيقة نفسه من هذا العروج فلا يُرجع الشر الصادر عنها إلى غيره. إذ لا ذريعة في هذا الشهر بالشيطان، بل كل ما صدر عن الإنسان من سوء، هو من رعونات نفسه، (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(يوسف:53).
من أجل ذلك، كان رمضان مناسبة فريدة لتقويم نفس الإنسان وتطهيرها من العلل التي طرأت عليها والأسقام، فأبعدتها عن صفة الكمال التي من أجلها خلقها رب الأنام. فإذا جاء في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قد جاءكم شهر مُطهِّر” (الكامل لابن عدي) فللتأكيد على أنه المناسبة السنوية التي يطهِّر فيها الإنسان نفسه بالتحرر من كل ما طرأ عليها من أعراض شوهت جمالية الصورة التي فطرها الله عليها. تلك الصورة التي عليها خُلق الإنسان سويًّا، والتي صفاتُها من صفات الرحمن العلية.
ومن هنا يكون سبحانه -من خلال حرمانه عبده- في هذا الشهر، من موردات الأغيار وإمداده بواردات الأنوار، إنما أراد به أن يحمله إلى إشراقة صفاته الزكية، ويذكّره بقدسية حضرته العلية.. حتى تتصفى عنده الروح من غَبَش الحس، فتعرج في سلم الترقي إلى أصلها الذي سره من سر خالقها القائل في حقها: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الإسراء:85). فكان الإمداد الإلهي في هذا الشهر، من جنس الصفات التي تطلّع إليها العبد بصيامه (وأنا أجزي به). إذ يمده سبحانه عن تطلعه إلى جوده بالجود، وعن تطلعه إلى إحسانه بالإحسان، وعن تطلعه إلى كرمه بالكرم، وعن تطلعه إلى عزته بالعزة، وما إلى ذلك من الصفات التي إن اجتمعت في الإنسان كمُل مبناه وتمّ معناه.
ولهذا لما كان الكمال ذروة الصفات التي من أجلها خلق الله الإنسان، وكان هذا الكمال صفة الله المنزه عن أبعاد الزمان والمكان، جعل سبحانه في هذا الشهر ليلةً العبادةُ فيها خيرٌ من ألف شهر؛ شملها سبحانه بروحانية جليلة ونورانية عالية، وحباها بسر عجيب ورَوْح رحيب، فجعل الملائكة تتنزل والروح فيها بأمره، حتى يطويَ الزمانَ أمام الإنسان، فيعرج في أحواله من عوالم الغبَش البشرية إلى معالم التجريد الروحانية التي فيها تتصفى الروح من صفاتها الآدمية تطلب صفات الكمال السرمدية.. تلك الصفات التي بها كمُل الكون مسخرًا بكل مكوناته للإنسان صاحب الفكر والروية.
وهذا هو ما يجب أن يستحضره كل صائم في هذا الشهر، إذ هو شهر تجديد العهد مع الله بالرقي في سلم كمالاته عن طريق الاتصاف بصفاته، حتى يكون العبد على مستوى مسؤولية الخلافة التي من أجلها جعله الله في هذه الأرض سيّدًا، وعلى درجة الأمانة التي من أجلها جعله الله لهذا الكون عَمَدًا.