أبو زيد عبد الرحيم
القاهرة (زمان التركية) – كيف سيكون شعورك إذا ما أَسند أحد إلى امرأة غير امرأتك التي حملت اسمك ورافقتك في دربك بأفراحه وأتراحه، وأنجبت لك أولادك فلذات أكبادك فضل تربيتهم والقيام على رعايتهم بل وإشباعهم من حليبها. وكيف سيكون شعور أولادك إذا نُسبت رعاية أمهم لهم وكدها في النهار والليل لخدمتهم إلى امرأة أخرى غيرها.
إن ألم اليتم مرير ووقعه على النفس أمرّ، وأشد منه ألمًا أن يظل المرء باحثًا عن جواب سؤال من أُمّه؟ لكن الألم الذي لا يضاهيه ألم أن يعيش المرء في كنف أمه ينمو جسده بشرب لبنها، ويغدو صبيًا يافعا مستمتعًا بحنانها مستأنسًا بأمومتها، ثم يتفاجأ أن الناس قد أسندوا فضل حسن تربيته وفتوته وصولاته البطولية وجولاته في الشجاعة والإقدام لامرأة أخرى.
لقد تسبب “محمد بوزداغ” مؤلف مسلسل “قيامة أرطغرل” في استفزاز كثير من المشاهدين بتزوير حقائق تاريخية ثابتة عبر التاريخ لا تخطئها عين أي مؤرخ. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن لصالح من تزور حقائق التاريخ؟ ولخدمة أية قضية تغير أحداث التاريخ؟
في الحلقة 116 من مسلسل “قيامة أرطغرل” فاجئنا “محمد بوزداغ” بموت السلطانة حليمة زوجة أرطغرل ووالدة عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وفي هذا مخالفة صارخة لحقائق التاريخ، التي تؤكد أنها عاشت بعد ولادة ابنها عثمان أكثر من 23 عامًا، وهو ما يعتبر خطأ تاريخيا في المسلسل، بحسب صحيفة Yeni Şafak التركية. التي ذكرت أن السلطانة حليمة لم تمت تاريخيا أثناء ولادة ابنها السلطان عثمان غازي، بل ماتت في عام 1281 ميلاديا، فيما وُلد السلطان عثمان غازي في عام 1258 ميلاديا، أي أن والدته ماتت وهو بعمر الـ 23 عامًا، وعاشت إلى أن شاهدت زواجه.
في حلقة حققت أعلى نسبة مشاهدة توفيت السلطانة حليمة، في مشهد أدمى قلوب المشاهدين، حيث انهار أرطغرل حزنًا وبكاءً على فراق زوجته صاحبة عيون الغزال، ولم يكن ابنه جوندوز أقل حزنًا منه بل كانت كلماته التي تمتم بها رغم صغر سنه تحرق القلب. وتمادى المؤلف في إثارة حافظة المشاهد عندما احتضنت سوغاي أم عثمان بالرضاعة(حسب المسلسل) ولدها عثمان، وإذ بالقدرة الإلهية تتجلى فيكف عثمان عن البكاء، وكأنها كرامة ربانية اختص بها الله الولد الرضيع، ثم يواصل المؤلف المشاهد الدرامية المجافية للحقيقة، المزورة للقصة، فيأتي كادر الكاميرا على وجه الفتى الذي تبدل بكاؤه بابتسامة عريضة علت وجنتيه، قابلتها ابتسامة مماثلة من مرضعته “سوغاي” التي تنطق قائلة: “ما شاء الله عليك يا ذا الوجه المنير، كأنني أرى حدائق الجنة في عينيك”، ثم تتحول الكاميرا إلى وجه أرطغرل والأم هائمة اللذان يُبديان التعجب من قدرة الله القادر التي تجلت فأوجدت كيمياء إلهية بين الولد الرضيع ومرضعته.
رحمك الله أيتها السلطانة حليمة، ورحمك الله أيها التاريخ، ثم لك الله أيها المشاهد حيث وقعت في براثن مزوري التاريخ وقالبي الحقائق، وكأنه يراد بك أن تتعود على أن إثبات الأشياء لغير فاعلها لا بأس منه، وأن إسناد الفضائل لغير أهلها لا شيء فيه.
رحمك الله أيتها السلطانة حليمة فقد عجل المؤلف بوفاتك قبل رؤية فلذة كبدك عثمان مؤسس أطول دولة في التاريخ شابًّا يافعًا يصول ويجول في ميادين الجهاد، وتستمتعين بارتشافه أول قطرات حليبك مروية جسده بما يقوي صلبه ويشد ظهره، مفتخرة في قابل الأيام بأن ذلك البطل المقدام والفاتح الهمام قد تربى على يديك.
رحمك الله يا حليمة إذ كيف سيكون شعورك إن علمتي أن امرأة أخرى قد أُقيمت مقامك ودخلت خيمتك وأسند إليها تربية أولادك الأشاوس وإرضاع أشجعهم، كيف كنت ستحاسبين مزور التاريخ. لو كنت حية ترزقين؟
بيد أن السؤال الذي أود طرحه هنا وبقوة، من يخدع مؤلف المسلسل بتلك المشاهد؟، من يخدع بتحويل قصة تاريخية لآخر دولة أقامت الإسلام حضارة يتغنى بها القاصي والداني سنين طوال إلى دراما تلفزيونية، وكأنها تخدم فكرة تزييف الحقائق وتشويه التاريخ، حتى يغدو التاريخ عبارة عن لعبة يمكن تغيرها حسب الأهواء والافتراء عليها حسب أمزجة صانعي القرار ومن بيده الأمر.
إنني أرى تشابهًا عجيبًا بين تركيا أرطغرل وتركيا العدالة والتنمية بزعامة أردوغان فيما يتعلق بمحاولة قلب الحقائق التاريخية وتزييف الواقع وتشويه صور بعض الشخصيات. ليس فقط في هذا المشهد، وإنما في مشاهد كثيرة حملت تزييفًا وتشويهًا لحقائق تاريخية كبرى، أقام بها محمد بوزداغ لغطًا بين المتخصصين في التاريخ العثماني، وأخرج به المسلسل من كونه قصة تاريخية تُقدَّم باعتبارها نموذجًا يحتذى به، إلى مجرد عمل درامي لمتعة المشاهدة.
فمتى توفي السلطان علاء الدين كيقباد؟، ومن القاتل الحقيقي لسعد الدين كوبيك؟ وهل بالفعل قاضي حلب بهاء الدين بن شداد فاسد وظالم؟ وهل حارب أرطغرل المغول؟ وهل قابل ابن عربي تاريخيًّا أرطغرل؟
إن مؤلف المسلسل أراد أن يظهر أردوغان في ثوب أرطغرل وتقديمه للأتراك بل للمشاهدين في العالم الإسلامي على أنه المدافع الأوحد عن القضايا الإسلامية الكبرى في مخالفة صارخة للحقيقة، وتزوير واضح للتاريخ؛ فالقضايا الكبرى التي تعاني منها الأمة الإسلامية قديما وحديثًا، كقضية الحملات الصليبية وغزو المغول، أظهر المسلسل أرطغرل أنه وحده الذي خاد غمار الدفاع عن الأمة وقاد سفينة نجاتها وتصدى لأعدائها، مغفلا حتى دور دول بأكملها كالدولة الخوارزمية والأيوبية والعباسية في الحفاظ على مقدرات الأمة وصون حرماتها، محاولا بذلك إجبار المشاهد على إسناد هذا الدور لأردوغان في وقتنا الراهن، حتى يقع المشاهد بتأثير الإعلام في خدعة أن أردوغان هو الذي يتصدى وحده للكيان الصهيوني، والذي يقف في وجه أعداء الأمة، والدليل الدامغ على ذلك الرحلات المكوكية التي يقوم بها أردوغان في الأقطار العربية بصحبة بطل المسلسل “أنجين ألتان”
أما عن الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي سعى من خلالها مؤلف المسلسل لخدمة أردوغان سياسيا فكثيرة ومن أهمها، المبالغة في إظهار الخيانات حتى أنه لا يستبعد من الخيانة أقرب الأشخاص للإنسان، ثم المبالغة في إنزال العقاب بالخائنين، وعدم إظهار أي تسامح معهم في الوقت الذي يمكن فيه التسامح مع غير المسلمين من أجل تأليف قلوبهم (التسامح مع أريس)، والمبالغة في تصوير مشاهد معاقبتهم لا سيما عند ضرب الأعناق في مخالفة صريحة لأخلاقيات الإسلام.
إن الحبكة الدرامية الأساسية في المسلسل قائمة على إقناع المشاهد بنظرية المؤامرة فالمتآمرون في كل مكان، بل إنهم دومًا هم أولئك الأشخاص الذين يخدعون الناس بأن مصلحة القبيلة في التحالف معهم، لأنهم يعملون لمصلحة الأمة وهم منزهون عن كل غرض شخصي، وأرطغرل وحده هو الوحيد القادر على فهمهم وكشف نفاقهم، بينما الجميع مهما علا فهمهم أو مكانتهم تنطلي عليهم خدعهم، وفي النهاية يكتشف الجميع صدق حدس أرطغرل وأنهم يتعاونون مع الأعداء لمصالحهم الضيقة، وكأنه صراع في إقناع الناس من يعمل لصالح الأمة وقضاياها الكبرى نحن أم حركة الخدمة؟
وفي هذا تقوية لموقف أردوغان السياسي في صراعه مع حركة الخدمة، واتهامهم بأنهم كيان موازي، وأنهم يعملون ضد الدولة، وإظهار كل من يخالف رأيه بمظهر الخائن، الذي يجب التنكيل وإنزال أشد العقوبة به، دونما شفقة أو رحمة من أحد من الناس عليهم، بل وإقناع الجموع الغفيرة أنه محق في التنكيل بهم، دون الوضع في الاعتبار ما سيؤدي إليه ذلك من مخاطر اجتماعية في المستقبل، وتمزق النسيج الداخلي للمجتمع نتيجة خطاب الكراهية والتحريض الذي يتبناه أردوغان وحكومته.
إن الذي يظهر للمدقق أن أهداف المسلسل ابتعدت كثيرًا عن كونه عملا دراميًّا أو حتى عملا تاريخيًّا، إلى كونه عملا سياسيا بامتياز، فأردوغان وحزبه أدركوا أهمية وقوة تأثير الأدوات الإعلامية والفنية، فبعد سيطرتهم على كل وسائل الإعلام الداخلية بدأوا يطوعون الأعمال الدرامية في خدمة خليفة المسلمين الجديد.