تخضع تركيا لاختبارات صعبة جدًا في الداخل والخارج، وللأسف فهي لا تستطيع الخروج من أي اختبار من هذه الاختبارات بشرف وعزة، ذلك أن ذهنها مشتت، وروحها متعبة. وأخشى لو استمر هذا الوضع ألّا ينتهي الفشل، ويدفع ثمن هذا كلُّ محِبٍّ لهذا الوطن. أتسألون لماذا؟
يبدو أن من يقودون تركيا نسُوا مَهامَّهم الأصلية منذ وقت طويل. ولقد تسبَّب تشتُّت الذهن في حدوث حالة من الانزلاق الخطيرة، لدرجة أنه كما لا يُفهم سببُ وقائع الفَشل المتوالية اليوم، فإنه لا تُدرَك العواقبُ الوخيمة للكوارث المحتملة التي قد تحدث غداً.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]يبدو أن من يقودون تركيا نسَوْا مَهامَّهم الأصلية منذ وقت طويل. حيث تسبب تشتت الذهن في حدوث حالة من الانزلاق الخطيرة، لدرجة أنه كما لا يُفهم سبب وقائع الفَشل المتوالية اليوم، فإنه لا تُدرَك نتيجة كارثة الغد.[/box][/one_third]ها نحن نرى ما عاشته تركيا مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)! ففي الوقت الذي كان يتحتّم فيه على تركيا وضْع مسافة مع مثل هذه التنظيمات، وحتى النظر إليها بعين الريبة؛ أفضت السياسة الخارجية التركية إلى الوضع الحالي بعدما أخطأت في “ربْط الزر الأول” بسبب هاجس سوريا الذي كان يراودها. وإنَّ من رتّبوا كل حساباتهم على أساس أن النظام السوري سيُطاح به في غضون أربعَة أيَّام، يُواصِلون ارتكاب الأخطاء الإستراتيجية كلما رأوا أنّ النظام الأسدي الدَّامي تتسع رُقعَة نُفوذه منذ فترة ناهزت أربع سنَوات. ولم يضع أحد في حسبانه أن “بشار الأسد” الذي كان يُنظر إليه نَظرةَ احتقار في وقت من الأوقات، سيتلقى دعم الدول القوية في المنطقة، وفي مقدمتها إيران، ليُحكِم قبضة ظُلمه على سوريا. وكان على هؤلاء أن يضعوا في حسَاباتهم أنَّ تأسيس علاقات مع الجماعات “الراديكالية الإسلامية” الإرهابية، بحجة قولهم “يجب الإطاحة بنظام الأسد بغضّ النظر عمَّن يقوم بذلك”، سيضع البلد في وضع صعب في يوم من الأيام. لكن لم يضع أحد ذلك في حسبانه! والسبب أن تركيا فقدت رباطة جأشِها وشموليَّتها وعُمقها منذ أن أخطأت في الحساب عندما استشهد تسعَةٌ من مواطنيها على أيدي الجنود الإسرائيليين في هجوم سفينة “مافي مرمرة” عام 2010. وهي لا تستطيع كذلك القيام بأي مُناورات دبلوماسية في هذا السياق.
لقد أفلسَت السياسة التي لُقِّنَت للإخوان المسلمين في مصر أيضاً، ووقع انقلاب عسكري، وخرج المشير “عبد الفتاح السيسي” منتصرًا من الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة. فماذا تستطيع فعله الآن؟ ولقد أرسل الرئيس “عبد الله جول” برقية تهنئة لنظيره المصري السيسي الأسبوع الماضي. أما كان يجب عليكم التنبّؤ منذ الأمس بما يحدث في هذه الأيام واتخاذُ التدابير اللازمة، طالما أنكم مضطرون إلى مواصَلة العَلاقات مع مصر. كما أن المعادلة الدموية التي وضعها النظام السوري الظالم مع التحالفات، دفعت تركيا حينًا لأحضان حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)؛ امتداد حزب العمال الكردستاني في سوريا، ولأحضان تنظيم مُسَلَّح مثل داعش حينًا آخر.
وبينَما كلُّ هذه الوَقائع تحدثُ، ركّزت الدولة بكلّ آلياتها على صراعها الخيالي مع “الدولة الموازية”، فسقطت مُتعَبةً ومنهكةَ القوى، ووشَتْ بأناسٍ ربَّتهم تركيا وهم كالأزهار اليانعة إلى الدول الأجنبية وشكتهم إليها. وهذا عار أيما عار! ما فُعل ليسَ خطأً أخلاقيًا فحسب، بل هو في الوقت نفسِه جَريمة. فإذا رأى شَخصٌ اسمَه مصنَّفاً ضمن إحدى التيارات الفكرية في أوراق رسمية في يوم من الأيام وتساءل: “كيف تشكوني إلى دولة أجنبية؟ أين قرار المحكمة الذي في أيديكم؟” فكيف سيدافع حينها مسؤولو وزارَتَي الخارجية والداخلية والمستشارين والسفراء ورجال المخابرات عن أنفسهم؟
هناك جانب آخر، وربما أكثر إيلامًا في هذه القضية، وهو أنَّ تركيا أصبحت لا تَرى مستقبلها، بسبب ادعاء وجود “كيان موازٍ” لأسباب سياسية داخلية بحتة، بينما تنظيم داعش يؤسس دولة له، ويبني جيشًا، ويحتل العراق، ويستولي على مبنى القنصلية في الموصل التي تعتبر جزءاً من أراضي تركيا، ويحتجز مواطنينا.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]فمن يحكمون تركيا لا يدركون هذه التطورات المريبة، ولا يعرفونها، ولا يستطيعون أخذ التدابير اللاَّزمة للحيلولة دون وقوعها. ذلك أن تركيا لا تركِّز على أمورها الأساسية. فالناس يُتَّهَمون بالجُملة في تركيا منذ سبعة أشهر، ويُحْتَقرون ظلمًا وزورًا دون أن يستطيع أحد العثور على دليل مادي يُبرهن على صحة هذه الادعاءات.[/box][/one_third] وفي مقابل ذلك، من يحكمون تركيا لا يتنبّؤون بوقوع هذه التطورات الرهيبة، ولا يعرفون أبعادها، ولا يستطيعون أخذ التدابير اللاَّزمة للحيلولة دون حدوثها. ذلك أن تركيا لا تركِّز على أمورها الأساسية. فالناس يُتَّهَمون بالجُملة في تركيا منذ سبعة أشهر، ويُحْتَقرون ظلمًا وزورًا دون أن يستطيع أحد العثور على دليل مادي يُبرهن على صحة هذه الادعاءات. وإذا هرعتم بعد سبعة أشهر من بدء قضية الفساد من الحمام صوب الشارع، هروعاً يحسده حتى “أرخميدس”، وأخذتم تصيحون “وجدتها! وجدتها!” ألن يصارحكم الناس بأنكم “عرايا”؟
ليس انعدام البصيرة فيما يتعلق بمسألة تنظيم داعش فقط، بل إن العديد من حالات الفوضى في الداخل أيضاً أفضت إلى حدوث تشتيت في التركيز، ونفاد الطاقة الداخلية، وتضييع الوقت بالنقاشات غير المجدية، وها هي وقائع قطْع الطرق، وزلزال إنزال العلم، والنقاشات التي جرت في هذا السياق!
وبينما أنت تتهم الناس الذين لم يدوسوا ولن يدوسوا حتى النمل بأنهم يشكلون “عصابة”، وتلصق افتراء “الدولة الموازية” بمنظمات المجتمع المدني التي تبذل جهودًا مُضنية منذ عشرات السنين في سبيل تحقيق السلام المجتمعي؛ فإن أعضاء المنظمة الإرهابية يقطعون طرق الدولة، ويخطفون الأطفال إلى الجبال ليجعلوا منهم مقاتلين مسلحين يحاربون القوات الأمنية للدولة، ويدخلون المناطق العسكرية ليُنزلوا علم بلادنا. فانظر حتى ترى من هو التنظيم الموازي الذي تتحدث عنه! وبينما تَحدث كل هذه الوقائع، نرى أن الذين ترتعدّ فرائصهم من التلفظ بأي انتقاد لحزب العمال الكردستاني وزعيمه “عبد الله أوجلان” لا يفترون عن احتقار مَنْ ليس لهم أدنى علاقة بأي عملية غير شرعية. وفيما نُقل 20 ألف شرطي من وظائفهم بدون وجه حق أو سند قانوني من مدينة إلى أخرى، ترى تركيا وقد تحولت إلى ما يشبه مدينة تكساس الأمريكية. فهل لديك خبر عن أن عصابات المافيا خرجت من جحورها من جديد؟ وهل يشعر ضميرك بالألم لارتفاع معدل استهلاك المخدرات؟ وهل يقطر قلبك دمًا لزيادة نسبة الجرائم؟
إن الوضع وخيم، وهناك احتمال أن يسوء أكثر، حفظنا الله. ذلك أنه في الوقت الذي يستمر فيه الظلم الواقع على أناس أبرياء من جانب، نرى على الجانب الآخر، أن الدولة تسير نحو أيام أصعب وأسوأ بسبب عدم إدراكها بانسحاب البساط من تحت رجليها جراء تشتّت تركيزها. غير أن هناك طريقاً واحدة للخلاص، وهي: أن تعود تركيا إلى العقل المشترك والضمير الجمعي، وترجع إلى طريقها نحو أن تكون دولة قانون ديمقراطية من أجل أن تتمكن من الوقوف على رجليها من جديد. وأما الذين يفكرون في عكس ذلك فإنهم يسوّدون مستقبلهم، ويقضون كذلك على مستقبل البلاد والعباد معاً…