أنقرة (الزمان التركية) – نشر المسؤول السابق في البنتاغون والباحث في معهد “أميركان إنتربرايز” والخبير في الشأن التركي مايكل روبين مقالا مثيرًا حول تركيا.
وأفاد روبين أن السؤال الذي يتوجب على البيت الأبيض التفكير فيه لا يتمحور حول كيفية التحالف مع تركيا، بل كيفية إدارة انهيار تركيا، مشيرا إلى أن الطريق الذي تسلكه تركيا سيقود إلى الفوضى وانهيار الدولة، وقد لا تنجو تركيا من الجرف الذي يقودها صوبه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كدولة موحدة.
وأضاف روبين أن تركيا قد تبدو دولة مستقرة، لكنها مجوفة، مفيدا أن ميراث أردوغان الذي يحكم البلاد منذ 15 عاما بات أسس استقرار تركيا، وأن أردوغان لم يترك أحدا يتمكن من شغل منصبه في حال وفاته أو تركه منصبه من أجل توطيد حكمه الفردي.
وأوضح روبين أن صياح أردوغان يتناسب عكسيا مع قوته، مؤكدا أنه يعارض الولايات المتحدة لضمان قاعدته الجماهيرية. وشدد على أن السؤال الذي يتوجب على البيت الأبيض التفكير فيه يجب أن يتمحور حول كيفية إدارة انهيار تركيا وليس كيفية التحالف معها.
وجاء مقال روبين المشار إليه على النحو التالي:
بإمكان الولايات المتحدة تحقيق أهدافها في سوريا من خلال رومانيا والأردن ومناطق الأكراد في العراق، عوضا عن قاعدة “إنجرليك” في تركيا، بفضل صواريخ “كروز” والطائرات بعيدة المدى. وقد استبدلت التساؤلات المتعلقة بتعهدات تركيا فيما يخص الديمقراطية واحتمالية انضمامها للاتحاد الأوروبي بسؤال أكثر إلحاحا وأهمية، وهو هل يمتد الطريق الذي تسلكه تركيا إلى الفوضى وانهيار الدولة؟ للأسف نعم، وقد لا تنجو تركيا من الجرف الذي يقودها إليه أردوغان كدولة موحدة.
الفوز الذي حققه أردوغان بشق الأنفس
أولا، فكروا في النظام السياسي لتركيا، أردوغان يرى نفسه رجلا قويا وفي قمة قوته بنظرته السطحية. قاد حزب العدالة والتنمية الذي يسيطر عليه إلى تحقيق سبع نجاحات في انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية، وحكم تركيا فترة تعادل تقريبا فترة حكم مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. وعقب الاستفتاء الدستوري الذي عُقد في السادس عشر من أبريل/ نيسان زعم أردوغان أنه حقق انتصارا عظيما، حيث قام بتحية الآلاف من مؤيديه، معلنا إجراءهم لأهم استفتاء في تاريخ الجمهورية التركية.
ومن خلال الفوز الذي حققه بشق الأنفس، والذي أشار المراقبون الدوليون التابعون لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا أنها لم تكن انتخابات حرة ونزيهة، حصل أردوغان على صلاحية محاكمة معارضيه من خلال مراسيم رئاسية باكتسابه سلطة استثنائية ودائمة على القضاء والبيروقراطية، على الرغم من فقدانه جزءً من قوته.
إسكات أردوغان للمعارضة من أجل الحصول على صورة قوية
حسنا، هل أردوغان يتمتع بالقوة بالقدر الظاهر؟ المظاهر قد تكون خادعة، فعلى مدار تاريخه الانتخابي لم يحظ أردوغان بالأغلبية الساحقة سوى مرتين؛ إحداهما كانت في الانتخابات الرئاسية في عام 2014، والأخرى كانت في الاستفتاء السابق. وللإبقاء على صورته القوية فرض أردوغان سيطرته على الإعلام وأسكت المعارضة.
في الواقع يوجد العديد من الأتراك المعارضين لأردوغان بقدر الداعمين له، فأردوغان تسبب في استقطاب المجتمع التركي بصورة خطيرة.
الأتراك الحاليون يتذكرون حالة الاستقطاب التي شهدتها السبعينات
لا نقول إن الانقسامات تثير الفوضى دائما، لكن التاريخ هنا هو المتحدث، فالأتراك الحاليون يتذكرون حالة الاستقطاب التي شهدتها تركيا في ستينات وسبعينات القرن الماضي. كانت سنوات مليئة بالفوضى والاضطرابات وحروب الشوارع بين اليساريين واليمينيين والاغتيالات السياسية، وتسببت في ظهور الجماعات الإرهابية والمتمردة التي تنشط حاليا، من ضمنها حزب العمال الكردستاني واتحاد المجتمعات الكردستانية. يُقال إن أكثر من 40 ألف شخص لقوا حتفهم في المواجهات مع هذه الجماعات، وهذا الرقم في تزايد.
ضبط معياري للديمقراطية
بلغت الانحرافات ذروتها بمحاولات الانقلابات التي واجهها أردوغان، فالجنرالات الأتراك اتخذوا إجراءات وقائية ضد الجماعات المتطرفة اليسارية واليمينية معًا، في كل مكان كلما سيطروا على السلطة. قمعوا الجماعات الإسلامية، وهذا النوع من التدخلات قلل احتمالية اندلاع فوضى، وحافظ على النظام، وأجرى ضبطا معياريا للديمقراطية (لأن الجنرالات الأتراك لم يفكروا أبدا في الاحتفاط بالسلطة بصورة دائمة) لكن كل انقلاب هو انتصار تحقق بخسائر فادحة.
التدخلات العسكرية وفرت غلافا مناسبا وذريعة ملائمة لأجيال جديدة من الانفصاليين الإسلاميين والأكراد، كما أن الحس الانتقامي الذي تشكّل خلال عصور الانقلابيين أشعل فتيل المشاعر الانتقامية. وحُكم على كنعان أورَن بالسجن مدى الحياة بسبب الانقلاب الذي نفّذه.
أردوغان أيضا يُعد مثالا حيا على هذا الموضوع، فعقب المحاولة الانقلابية الفاشلة حبس أردوغان معارضيه، مستغلا كل آليات قوته، وكان يبرر إجراءاته وكراهيته بأنها تطهير للخطايا التي وقعت قبل عشرات السنين.
أرجنكون: قضية مثيرة عجيبة
قد يكون أردوغان أضمر الكراهية لسنوات من أجل تحقيق خطته الانتقامية، لكن في عام 2007 بدأت الدولة التركية تحقيقات بشأن قضية مثيرة عجيبة تعرف باسم “أرجنكون”، والتي نُفذت من أجل الكشف عن شبكة من الأتراك العلمانيين تسعى للانقلاب على الحكومة، وتغلغلت في الجيش والمجتمع الأكاديمي والمدني.
الاتهامات التي وجهت للمشتبه بهم كانت تصل لدرجة التراهات، لكن أردوغان استغل مؤيديه داخل الجيش والإعلام الذي يسيطر عليه لتضييق الخناق على خصومه الأيديولوجيين، حيث اعتقلت قوات الأمن المئات العسكريين، وأنهت السلطات عمل العديد من المسؤولين العسكريين الذين يشغلون مناصب عليا. وعندما كشف مسؤولو الطب الشرعي أن الأدلة مزيفة بعد نحو عشر سنوات لم يُعاقب أحد.
بعد قضية أرجنكون حلّ الدور على واقعة باليوز، ففي عام 2010 ألقت قوات الأمن القبض على مئات الليبراليين والعلمانيين بحجة أنهم يعدون خطة شاملة لإشاعة الفوضى في المجتمع من أجل تبرير انقلاب عسكري. ودُمرت حياة هؤلاء الضحايا إلى أن كشف الخبراء أن البيانات الرقمية التي طُرحت كأدلة زائفة.
وصف أردوغان المحاولة الانقلابية بأنها لطف من الله
الشكاوى التي وردت في إطار هذه الدعاوى لا تساوي شيئا، لكن إذا ما قارناها بالمحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا الصيف الماضي، فيجب التذكير بأن أردوغان وصف هذه المحاولة الانقلابية بلطف من الله، وذلك لأنها كانت ستضمن له قمع خصومه السياسية. إلى اليوم فصل أردوغان 140 ألف موظف من عملهم، وحبس أكثر من 50 ألف شخص وهذه الأرقام تتزايد يوميا.
الأدلة التي تدعم حملة التصفية هذه لأردوغان لا تبدو أكثر صدقا من الأدلة التي سوغت تصفية المعارضين السابقين في إطار قضية أرجنكون، فالفارق الوحيد بينهما قضاء أردوغان على الآثار الأخيرة المتبقية فيما يخص استقلال القضاء ومنعه بهذا تسامح النظام مع المعتقلين.
تركيا قد تكون على بعد طلقة من الفوضى
سقوط الأسر في أوضاع مزرية، وإبعاد الأطفال عن مدارسهم، قد يكون حافزا لمئات الخطط الانتقامية، كما أن تركيا قد تكون على بعد طلقة من السقوط في الفوضى بسبب الحس الانتقامي الذي بلغ ذروته، وعجز الناس عن حل مشاكلهم عن طريق الانتخابات أو بالطرق القانونية. فقدان الاستقرار السياسي قد لا يكون التحدي الوحيد الذي ستواجهه تركيا، فهي ستواجه في الوقت نفسه تهديدات إرهابية تجددت في أضعف أوقات دفاعها.
كل الدول التي دعمت الجماعات الإسلامية المتطرفة، مثل السعودية وسوريا وباكستان، بدأت التعرض لهجمات إرهابية بعد دعمها لهذه الجماعات. لكن يبدو أن أردوغان يؤمن بأن تركيا لن تتأثر بهذه الظاهرة، عندما بدأ بدعم الجماعات التابعة للقاعدة بصورة نشطة، وعندما بدأ بتسهيل مرور المقاتلين الأجانب إلى سوريا. والمتطرفون الذين كانت تركيا تدعمهم حتى وقت قريب توجّهوا حاليا صوب تركيا.
المخابرات التركية ساعدت المتطرفين على عبور الحدود
في مرحلة ما كان بإمكان أجهزة الأمن التركية إيقاف هذه الهجمات، لكن هذا الأمر لم يعد ممكنا. المشكلة تكمن في النوايا والكفاءة، فالإرهابيون يستهدفون تركيا منذ نحو 30 عاما، لكن المخابرات التركية نجحت في إيقاف غالبيتهم على الحدود فيما مضى. أما في الوقت الراهن حبست السلطات التركية الصحفيين عندما كشفوا هذه الحقيقة، بينما كانت أجهزة المخابرات تساعد في عبور المتطرفين الإسلاميين الحدود إلى سوريا.
ولم يتم اختيار المعيَّنين على على أساس الولاء لا الكفاءة بدلا من المفصولين والمطرودين من الجيش. المخابرات لعبت على الحبلين. حسنا، ماذا عن الجيش والشرطة؟
أردوغان جعل الغرب أداة لآلاعيبه إلى أن تشتد شوكته. الدبلوماسيون الأوروبيون والأمريكيون لم يقتنعوا لفترة طويلة بأن النتائج قد تكون وخيمة إن لم يُخلق توازن بديل وسليم قبل التخلص من تأثير الجيش على السياسة، وبدوره شجع أردوغان هذه الرؤية بحديثه الحماسي عدة مرات عن رغبته في إقرار الديمقراطية.
وكجزء من عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي استغلت تركيا الإصلاحات المطلوبة لإضعاف النفوذ المحلي لجنرالاتها، بل وابتزت مسؤولين بارزين (مثل رئيس الأركان السابق ياشار بيوك أنيت). ضعفت الروح المعنوية للجنود الأتراك ولم يعد بإمكان الجيش والشرطة حماية وطنهم حتى ولو رغبوا في هذا.
حملة التصفية التي أعقبت المحاولة الانقلابية أنهت عمل الآلاف من الجنود المخضرمين وقوات مكافحة الإرهاب. واهتمت السلطات بالولاء إلى أردوغان أكثر من الكفاءة أثناء اختيارها من حلّوا محلهم.
أردوغان أجج النيران بإرسال قواته إلى سوريا
في تلك الأثناء أجج أردوغان النيران بإرسال قواته إلى سوريا لقتال أكراد سوريا وليس تنظيم داعش الإرهابي، فأثناء العمليات العسكرية ضد الإرهابيين في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي دمّر الجيش التركي المئات من القرى الكردية في جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية. وهرب الأكراد إلى المدن الكبرى والمتوسطة مثل إسطنبول وإزمير وأنقرة، وبالتالي فإن انفجار العنف العرقي حاليا يؤثر مباشرة على المراكز الثقافية والسياحية والاقتصادية لتركيا.
ونظرا لعدم وجود استراتيجية خروج في سوريا، فإن تركيا على المدى الطويل قد تسقط في مستنقع فيما يتعلق بالأمن والاقتصاد، إذ إن حملة التصدي للمتمردين والمواجهات العسكرية دفعت الاقتصاد التركي إلى نقطة الانهيار. وهذا الأمر مثير للسخرية، لأن أردوغان وحزبه وصلوا إلى سدة الحكم بفعل عدة عوامل مثل النخبة السياسية والتضخم والانهيارات الاقتصادية.
إجماليا، الاقتصاد التركي يبدو في موقف جيد، فهو يحتل المرتبة السابعة عشر دوليا، ونسبة ديون تركيا أفضل من الولايات المتحدة الأمريكية ببلوغها نحو 35 في المئة. وبفضل هذا النجاح حقق أردوغان رصيدًا، لكن ليس بالقدر الذي يعتقده، إذ استفاد أردوغان من الأموال التي يطلق عليها الأتراك “رؤوس الأموال الخضراء” – النقود غير المسجلة للمتبرعين الموجودين في السعودية وقطر – كما استفاد أيضا من التقسيم السكاني، حيث انخفضت معدلات الوفيات والمواليد في الطبقة العاملة. (الظاهرة نفسها تسببت في نمو آسيا الشرقية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي)
لكن لم يستطع أي من هذه الأمور إخفاء الإشارات المحذرة من بلوغ الاقتصاد التركي ذروته ومواجهته تراجعا كبيرا، فخلال السنوات الخمس الأخيرة فقدت الليرة التركية نصف قيمتها أمام الدولار. وسجلت معدلات التضحم أعلى مستوى لها خلال تسع سنوات، كما تزايدت الديون الخاصة، وتعرضت البنوك للخطر، نظرا لهروب الدائنين الدوليين من البنوك التركية. وعوضًا عن حل هذه المشكلات، فضّل أردوغان تجاهلها، وعند خفض وكالات “ستاندرز آند بور” و”فيتش” و”موديز” التصنيف الائتماني لتركيا، أعلن أردوغان أنهم غير مهتمين بهذه الخطوة، متهمًا هذه المؤسسات بالتآمر على تركيا.
وبدأت اللجان الإلكترونية لحزب لعدالة والتنمية حملة مضادة للبنوك والمحللين الدوليين الذين شككوا في الوضع المالي لتركيا.
تركيا قد تبدو مستقرة لكنها مجوفة
تركيا اليوم قد تبدو مستقرة لكنها مجوفة، وميراث أردوغان الذي يدير البلاد منذ 15 عاما أصبح أسس استقرار تركيا، لكنه لم يترك أحدًا يمكنه شغل منصبه في حال وفاته أو تركه منصبه، في سبيل ترسيخ أركان حكمه.
وصياح أردوغان في خطاباته يتناسب عكسيا مع قوته، فهو يعارض الولايات المتحدة حتى يضمن قاعدته الجماهيرية. لذا فإن السؤال الذي يتوجب على البيت الأبيض التفكير فيه يجب أن يتمحور حول كيفية إدارة انهيار تركيا وليس كيفية التحالف معها.