أنقرة (زمان التركية) – هدد نائب رئيس حزب الوطن التركي “حسن آتيلا أوغور” حزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان، معلنًا أن الجميع سيرون قريبا جدا كبار السياسيين مكبلي الأيدي، على حد تعبيره.
وأفاد أوغور في اجتماع لحزبه أن ما سماه “الذراع السياسي للانقلاب الفاشل” لم يتم الكشف عنه ولم يخضع للمحاكمة والمحاسبة، وأضاف قائلاً: “أبشركم جميعًا أننا سنرى قريبًا جدًا سياسيين رفيعي المستوى وهم مكبلو الأيدي، وسيكون بينهم عديد من رؤساء البلديات، بل حتى رئيس الجمهورية”، في إشارة منه إلى الرئيس السابق عبد الله جول، ورئيس بلدية إسطنبول “قدير توباش”، ورئيس بلدية العاصمة “مليح جوكتشيك” وغيرهم، بحسب رأي رئيس تحرير موقع “خبردار” الكاتب والمحلل السياسي سعيد صفا.
يشار إلى أن حسن آتيلا أوغور هو عقيد متقاعد من الجيش التركي متهم بالانتماء إلى تنظيم أرجنكون / الدولة العميقة، وقد خطف الأضواء على نفسه عندما أخبر لصحيفة يني شفق؛ إحدى الصحف التابعة لأردوغان، استعداد مجموعة ضمن المؤسسة العسكرية لمحاولة الانقلاب قبل وقوعها فعلاً بأسبوعين، وهو الأمر الذي اعتبرته المعارضة التركية من أهم الأدلة التي تثبت تدبير التحالف الثنائي بين أرجنكون وأردوغان لانقلاب محكوم عليه بالفشل للحصول على ذريعة القضاء على كل المعارضين في البلاد أو تهميشهم تمامًا، وهذا ما حدث فعلاً بعد الانقلاب الفاشل.
يذكر أن حزب الوطن “الطوراني” يقوده أحد أبرز قيادات تنيظم أرجنكون / الدولة العميقة دوغو برينتشاك الموالي لإيران وروسيا، وكان خضع للمحاكمة والسجن في إطار قضية أرجنكون التي بدأت في عام 2007، لكنه بعد كشف الغطاء عن فضائح حكومة أردوغان في نهاية عام 2013 عقد اتفاقية مع أردوغان وخرج من السجن متعهدًا بأنه سينتقم من يقفون وراء قضية أرجنكون من السياسيين والمدنيين والبروقراطيين.
وفيما يلي المقال الذي كتبه محمد عبيد الله في أوكتوبر 2017 بعنوان “تصفية حزب العدالة والتنمية بيد زعيمه أردوغان” والذي يكشف عن إسراتيجية تنظيم أرجنكون في القضاء على حركة الخدمة التي تزعم أنها من تقف وراء هذه القضية باعتبارها لقمة صعبة من خلال توظيف أردوغان، ومن ثم القضاء على حزب أردوغان نفسه بصورة أسهل بعد تجريده من القوى الديمقراطية والليبرالية التي سانده في بدايات حكمه، وذلك باعتباره المسئول السياسي عن القضية.
“تصفية حزب العدالة والتنمية بيد زعيمه أردوغان”
بقلم: محمد عبيد الله
“خرجنا من السجن كالسيوف المستلة من أغمادها، وسندمّر من يقسمون تركيا وسنؤسس حكم من سيوحِّدونها.. سندمِّر حكم أنصار أردوغان وعبد الله جول وفتح الله كولن!”.
هكذا قال زعيم حزب الوطن التركي “دوغو برينتشاك” عندما خرج من السجن في 2014 مع زملائه بعد قضاء نحو أربع سنوات في إطار تحقيقات تنظيم “أرجنكون”، الذي تصفه سجلات المحكمة بـ”الدولة العميقة” أو “الحكومة السرية”، التي سبق أن لعب الرئيس رجب طيب أردوغان دورًا ملحوظًا في تهميشها عندما كان رئيس وزراء البلاد.
لو كان هذا التهديد صادرًا من شخصٍ لا تتجاوز نسبة دعم حزبه من قبل الشعب التركي 1% لطويناه وما أولينا له أي أهمية، لكنه صادر من شخصٍ هو بمثابة “المتحدث” باسم هذه الحكومة السرية، التي تحكم تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية الحديثة “من وراء الستار”، وتوجِّه الحكومات المدنية، سواء كانت يسارية أو يمينية أو محافظة، نحو أهدافها، بأساليب الحرب النفسية وعمليات خرق العقول بمهارة فذّة.
كانت الكوادر التي نشأت في البيئة “الديمقراطية” و”الليبرالية” في عهود عدنان مندريس وطرغوت أوزال ونجم الدين أربكان، بدأت تتغلب على النخب المحلية والأقليات الأجنبية التي كانت تمثل “الوصاية العسكرية والقضائية” في تركيا، وذلك بفضل قضايا “أرجنكون” و”باليوز” وغيرهما من القضايا الخاصة بمحاولات الانقلاب التي استهدفت حكومات أردوغان منذ وصوله إلى سدة الحكم في 2002 حتى عام 2007.
والحق يقال، لو لم تكن الأجواء الإيجابية التي وفرتها الإصلاحات والتعديلات التي أجراها أردوغان في الدستور والقوانين، في إطار مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بدءًا من عام 2004، لما قطعت هذه الكوادر الأمنية والقضائية أشواطًا عريضة لإنقاذ تركيا من كونها “دولة مارقة” لتكون “دولة القانون”.
بداية النكسة
لكن “النكسة” بدأت بـ”الاجتماع” الذي قال عنه أردوغان في وجه عدسات الكاميرات: “إن مضمونه سيبقى سرًا حتى موتي، إن لم يكشف عنه الطرف الآخر”. هذه الجملة الشرطية كانت تشير إلى وقوع “ليّ ذراع” و”مساومة” في نهاية المطاف بين طرفي الاجتماع خلف الستار. كان رئيس الأركان العامة آنذاك ياشار بويوك آنيط الطرف الآخر في هذا الاجتماع الذي عقد في الخامس من مايو 2007، وهو الشخص ذاته الذي أعلن بنفسه أنه من وجّه لحكومة أردوغان ما عرف بـ”التحذير العسكري الإلكتروني” في 27 أبريل/نيسان 2007، أي قبل شهر من هذا اللقاء، ما يدل على صحة ليّ الذراع والمساومة بين الطرفين.
هناك أدلة وشواهد واعترافات كثيرة تدل على اتفاق أردوغان في هذا اللقاء التاريخي مع رئيس الأركان بويوك آنيط للقضاء على حركة الخدمة، التي كانت أكبر منظمات المجتمع المدني التي أسهمت في نقل تركيا من الدولة المارقة إلى دولة القانون بالتعاون مع نظيراتها الأخرى. إذ زعم كل من إدريس بال، وهو النائب السابق من حزب أردوغان، ووزير الداخلية الأسبق إدريس نعيم شاهين، وهو رفيق دربه منذ أيام رئاسته لبلدية إسطنبول، وغيرهما من النواب والشخصايات السياسية الأخرى، أن بويوك آنيط أظهر لأردوغان في هذا اللقاء عديداً من الملفات الخاصة به، ثم هدّده وطالبه بتنفيذ “المشروع” الذي طرحه تحت إشراف “فريق خاص” مكون من الخبراء.
وكانت رئاسة البرلمان رفضت الكشف عن مضمون هذا اللقاء حينما تقدم نائب حزب الشعب الجمهوري “علي رضا أوزترك” باستفسار عنه، وذلك استنادًا إلى قول أردوغان: “مضمون هذا اللقاء سيُدفن معي في القبر!”.
طبيعة الحقيقة تأبى إلا الظهور
ونظرًا لأن “طبيعة الحقيقة تأبى إلا الظهور عاجلاً أم آجلاً”، فإن التصريحات التي أدلى بها كبير مستشاري رئيس الوزراء “عبد القدير أوزكان” لقناة “خبرترك” في شباط/فبراير كشفت حقيقة هذا الأمر عيانًا بيانًا للجميع، حيث أكد قائلاً: “تم الاتفاق على إنهاء حركة الخدمة في اللقاء الذي جرى بين رئيس الأركان آنذاك ياشار بويوك آنيط ورئيس الوزراء حينها أردوغان في قصر دولمة بهشة؛ ذلك أن بويوك آنيط أقنع أردوغان خلال اللقاء بخطورة حركة الخدمة وضرورة القضاء عليها، وخُطط لإطلاق العمليات في 2007. لكن لما انطلقت الحملات الأمنية ضد بعض الضباط والجنرالات في إطار قضية أرجنكون بعد شهرٍ من هذا اللقاء، تأجلت بالضرورة الحملات الأمنية المخطط إطلاقها ضد حركة الخدمة إلى وقت لاحق”.
في الحقيقة أن أركان الحكومة، وعلى رأسهم أردوغان، كانوا وقعوا على “قرار القضاء على حركة الخدمة” الذي اتخذها مجلس الأمن القومي عام 2004. ومع أن أردوغان اعترف بموافقته على هذا القرار، لكنه زعم أنه لم يطبقه، وإنما وقع عليه تماشياً مع جنرالات الجيش، إلا أن الأحداث التي شهدتها تركيا في وقت لاحق أثبتت أن هذا القرار تم تطبيقه بصورة سرية وتدريجية أولاً، وبصورة علنية بعد تحقيقات الفساد والرشوة في 2013، وبصورة صارخة بعد الانقلاب المسرحي في 2016.
ولم تكن “خطة القضاء على حزب العدالة والتنمية وكولن” أو “خطة عمل لمكافحة الرجعية” التي أعدها العقيد “دورسون تشيتشاك”، بتعليماتٍ من رئيس هيئة الأركان العامة في تلك الفترة “إيلكار باشبوغ”، سوى محاولة لترجمة بنود القرار المتخذ من قبل العسكريين التابعين لتنظيم أرجنكون إلى أرض الواقع. وتم اعتقال كل من العقيد تشيتشاك ورئيس الأركان باشبوغ مع المتواطئين الآخرين من العسكريين بتهمة السعي لإسقاط حكومة أردوغان، ولم يخرجوا من السجن إلا في عام 2014 عقب ظهور فضائح الفساد والرشوة، بموجب الاتفاق الذي جرى بين الطرفين.
لا نعلم تحديدًا ماهية “العناصر” التي أقنع بها رئيس الأركان بويوك آنيط أردوغان بضرورة تصفية حركة الخدمة، إلا أننا من الممكن أن نستنتج بسهولة أنها قوية جدًا بحيث لم يتجنب أردوغان تحويل وجهة “عمليات الاعتقال والفصل” إلى داخل حزبه العدالة والتنمية، بعد أن كانت حكرًا على المتعاطفين مع حركة الخدمة فقط. لا شك أن تنظيم أرجنكون كان يتابع كل حركات وسكنات أردوغان منذ لمعان نجمه في أيام رئاسته لبلدية إسطنبول لنحو عشر سنوات، وكوّن “أرشيفًا” مرموقًا بحقه، وليست قضايا الفساد التي فتحت في ذلك العهد ومن ثم أغلقت بمهارة المحكمة العليا إلا واحدة من تلك الملفات، وانضمّت إليها ملفات جديدة عندما بدأت تحقيقات الفساد والرشوة في 2013.
تنظيم أرجنكون رأى في أردوغان أداة صالحة بسبب “ضعفه” لإعادة تركيا إلى “حجرتها الصغيرة” المنغلقة على ذاتها، مستغلاً كونه من “البيت الداخلي”، بعد أن تيقنت أنها لن تستطيع تحقيق ذلك من خارج البيت، وذلك لتكون موارد “الأناضول” تحت الأرض وفوقها “دُولة بين الأغنياء”؛ للأقليات الأجنبية والنخب المحلية التي تخدم الفئة الأولى، ويعود أبناء هذا الوطن إلى “كهوفهم” ونومهم العميق مرة أخرى بعد أن انتبهوا واستنهضوا لفترة معينة.
مصير أردوغان المحتمل
يعتقد تنظيم أرجنكون أنه انتهى من تطبيق القسم الأول من “خطة القضاء على حركة الخدمة وحزب أردوغان”، وجاء الدور على القسم الثاني منها، وهو القضاء على حزب العدالة والتنمية. فشعار “إزالة التآكل الهيكلي” أو “الرهق الهيكلي” الذي يرفعه أردوغان ليس إلا ستار للتمويه والتضليل والتغطية على حقيقة حملته الرامية إلى تصميم البيت الداخلي لحزب العدالة والتنمية. فبعد أن قام أرجنكون بتشذيب الأشجار المحيطة به، من أمثال عبد الله جول وأحمد داود أوغلو وبولنت أرينتش وحسين تشليك وغيرهم، وزرع أماكنهم رجاله في صورة مستشارين، حتى جعله “الرجل الأوحد المسيطر عليه”، يفعل ما يؤمر، أعلن حربًا علنية على ما تبقى من مؤسسي الحزب. وليس أدلّ على ذلك من الحملات التي أطلقها في الآونة الأخيرة والتي حصدت رؤوس كل من رؤساء البلديات الكبرى إسطنبول وبورصا وأنقرة وباليكسير ونيغدا وغيرها، بالإضافة إلى تغيير معظم رؤاساء الحزب في المدن المختلفة.
أنصار أردوغان ومن يعتبرون أنفسهم “إسلاميين” بدؤوا يدركون أن العمليات التي نفذها أرجنكون حتى اليوم عبر أداة أردوغان ضد حركة الخدمة بدأت ترتدّ عليهم بصورة صارخة، ويعبرون عن انزعاجهم بعبارات هزيلة خوفًا من غصب أردوغان. فعقب إقالة أردوغان من دون سبب ظاهر رؤساء البلديات الكبرى زادت بشكل ملحوظ عدد الكتاب والصحفيين الذين “يبكون” على ما فرطوا في هذا الأمر! ولعل ما قاله “طه أون”؛ الكاتب “المشغوف” بأردوغان والذي وصفه بـ”زعيم القرن” مِنْ أنّ “جميع المسلمين الذين وقفوا إلى جانب أردوغان في وجه مزاعم فضائح الفساد والرشوة في 17/25 ديسمبر/كانون الأول 2013 وانقلاب 15 تموز/يونيو 2016 يتعرضون اليوم للتصفية، فانتبهوا ولاحظوا اللعبة والمؤامرة!” يعكس “النفسية” أو الشعور بـ”خيبة الأمل” التي تسيطر على الحارة الإسلامجية أو الأردوغانية –للأسف الشديد-.
دوغو برينتشاك يجول اليوم ويصول في كل مكان مثل قائد منتصر بجدارة ويعلن أنهم، أي أرجنكون، من وضعوا “مشروع القضاء على حركة الخدمة” وليس حزب العدالة وأردوغان، ويؤكد أن هدفهم هو القضاء على كل الجماعات الإسلامية أصلاً، بعد أن كانت أولويتهم القضاء على حركة الخدمة، وأن العمليات الأمنية ضد الخدمة ومؤسساتها التعليمية والخيرية في الداخل والخارج، يتمّ تنفيذها في إطار البرنامج الذي وضعوه، ويصرخ بأعلى صوته أن أردوغان هو الذي انضمّ إلى صفّهم في مسألة فتح الله كولن، وهو الذي تبنّى برنامجهم في هذا الصدد وليسوا هم من ذهبوا إليه وتبنوا برنامجه، لكن أردوغان لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة عليهم، رغم أنه يرد على كل صغيرة وكبيرة، ويعتقل كل من أطال لسانه إليه من الكتاب والصحفيين.
بات أردوغان الآن “وحيدًا” في القمة وجهًا لوجه مع من استخدموه في تصفية حركة الخدمة وحزبه العدالة والتنمية، وليس من المستبعد أن يُقْدم على “الهاراكيري” مثل الساموراي أو يكون لقمة سائغة لوحش أرجنكون الجائع!
ولا أشك أن “الإسلاميين” الذين سكتوا على ظلم أردوغان تحت ستار مكافحة “الكيان الموازي” سيقولون عندئذٍ حسرةً وندامةً: “أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض!”.