تقرير:منى سليمان
تؤكد القيادة السياسية التركية منذ الإعلان عن انتهاء عملية “درع الفرات” في 29 مارس (آذار) 2017، على وجود مرحلة ثانية من التدخل العسكري التركي في شمال سوريا والعراق وأن ما انتهى هو المرحلة الأولى فقط من ذلك التدخل بعد النجاح في تحقيق أهدافها، وذلك بعدما أصدر مجلس الأمن القومي التركي بيانًا يوضح فيه انتهاء عملية “درع الفرات”التي استمرت قرابة سبعة أشهر وكان هدفها هو منع تهديد “داعش” الإرهابي لتركيا. فهل انتهت بالفعل،وهل نجحت في تحقيق أهدافها أم أنها مناورة سياسية من أنقرة قبل الإستفتاء على التعديلات الدستورية المقررة في 16 من الشهر الجاري؟ وهل إنتهاء عملية “درع الفرات” سينهي التواجد العسكري التركي في سوريا والعراق أم أنه مجرد تكتيك عسكري جديد؟ وسيتم استكمال مراحل ذلك التدخل وفق عمليات عسكرية جديدة تتوافق مع مستجدات الأوضاع السياسية والعسكرية فيالبلدين العربيين، هذا ما سنحاول معالجته فيما يلي..
أولا: تقييم عملية “درع الفرات”:
“درع الفرات”هو الاسم الذي أطلق على التدخل العسكري التركي في شمال سوريا ويقصد به عبور القوات العسكرية التركية الجوية والبرية من غرب نهر الفرات حيث تمركزها في الحدود التركية إلى شرق نهر الفرات وبدء عمل عسكري بمحافظات شمال سوريا، وبدأت العملية في 24 أغسطس 2016 وجاءت بعد الإعلان عن فشل “إنقلاب ليلة 15 يوليو العسكري المزعوم”، ولم يتم تحديد توقيت أو جدول زمني للعملية أو أهداف معينة تسعى لها، وفي صبيحة يوم 29 مارس (آذار) 2017 .. أصدر مجلس الأمن القومي التركي بيانًا عقب اجتماعه الذي عقد بالمجمع الرئاسي في أنقرة، يفيد “بإنتهاء العملية وأنها تكلّلت بالنجاح. وكان هدفها تأمين الحدود وعرقلة تهديدات وهجمات تنظيم “داعش” الإرهابي تجاه تركيا، وإتاحة الفرصة لأشقائنا السوريين للعودة إلى بلادهم، وإتاحة فرصة العيش بأمان وسلام في منطقة العملية”.
1_ دلائل فشل عملية “درع الفرات”:
من خلال البيان الذي أصدره مجلس الأمن القومي التركي يمكن أن نستنتج أهداف عملية “درع الفرات”، ويمكن أن نسأل هل هي بالفعل قد حققت أهدافها.. فوفق البيان:
*كان أولى أهداف “درع الفرات” تأمين الحدود التركية وعرقلة تهديدات وهجمات تنظيم “داعش” الإرهابي تجاه تركيا .. هل هذا تحقق؟ لا لم يتحقق، فلم ينجح التدخل العسكري التركي بشمال سوريا في منع أو ردع “داعش” على استهداف تركيا بعمليات إرهابية متعددة، شهدت تصاعدًا ملحوظًا في الربع الأول من عام 2017، وربما تكون بدأت مع عملية إغتيال السفير الروسي بأنقرة في منتصف ديسمبر 2016 ثم تفجيرات أسطنبول بليلة رأس السنة التي راح ضحيتها اكثر من 100 قتيل ومصاب.
* ثاني أهداف العملية إتاحة الفرصة للاجئين السوريين للعودة لبلادهم .. هل هذا تحقق؟ لا لم يتحقق.. فلم تسجل أى حالة سورية عادت للمناطق التي استولت عليها القوات التركية في مدينة الباب، بل أن تركيا أستغلت دائما قضية اللاجئين السورييين للضغط على الأتحاد الأوروبي لاسيما ألمانيا للحصول على امتيازات سياسية ومادية، أنتهت بعقد إتفاق اللاجئين الذي لم ينفذ كليًا حتى الآن.
*ثالث الأهداف هو العيش بأمان وسلام في منطقة العملية” .. أى في مناطق شمال سوريا، وهذا الهدف بالطبع لم يتحقق فلم تفرض تركيا المزيد من الأمن والسلام بالمنطقة بل كل ما فعلته أنها سيطرت على مدن (جرابلس والراعي ودابق) بشمال سوريا وهي مدن صغيرة وغير مؤثرة ثم سيطرت على مدينة الباب الباب الحدودية السورية ومنعت القوات الكردية من السيطرة عليها. ووفق التقارير المعلنة، فلقد حققت العملية منطقة عازلة بمساحة خمسة آلاف كيلومتر مربع تبلغ مساحتها الآن 2300 كم مربع فقط. وتم نقل 500 شخص سوري من الأراضي التركية إلى مدينة ادلب، للمشاركة في العمليات العسكرية ضد القوات الحكومية السورية.
أذن وفق بيان مجلس الأمن القومي التركي ومن القراءة الأولية له لم تحقق عملية “درع الفرات” الأهداف المعلنة لها، ولذا فإن هناك أهداف غير معلنة كانت هي السبب في الدفع بقوات تركية لم يعلن صراحة عن عددها وتعدادها لشمال سوريا، فضلاً عن خسائرها البشرية والمادية وهي نقطة هامة أخرى يكتنفها الغموض، فعدد شهداء العملية لم يعلن صراحة من قبل الجيش التركي ولم يصدر به بيان رسمي بيد أنه في كافة التقديرات العسكرية أرتفع العدد لما يزيد عن 70 شهيد بين جندي وضابط تركي فقدوا حياتهم في عملية “درع الفرات”.
2_ الأهداف الغير معلنة “لدرع الفرات”:
هناك دائما أهداف خفية وغير معلنة من أى تحرك عسكري او سياسي، فما هي الاهداف الغير معلنة لعملية “درع الفرات”:
*شغل الرأى العام التركي: ما مرت به تركيا وحالة التخبط التي عايشها المجتمع بكافة فئاته عقب الاعلان عن احباط محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو 2017 التي اتهم فيها المفكر الاسلامي التركي “فتح الله جولن” دون اى دلائل قانونية، لم يكن هينًا أو سهلًا، ورغب الرئيس التركي “أردوغان” استعادة هيبته الشخصية وهيبة الدولة وشغل الرأى العام التركي والعالمي بشأن خارجي بعيدًا عن حملة الأنتقام التي بدأها ضد خصومه بدون وجه حق، وليس هناك أفضل من عملية عسكرية خارجية تشتد الأنتباه عن ما يحدث داخل تركيا.
*إثبات التواجد العسكري التركي داخل سوريا:مرت الأزمة السورية بمراحل كثيرة اعتمدت فيها تركيا على القول اكثر من الفعل، بعكس منافستها الاقليمية لاسيما في الساحة السورية إيران، فبالرغم من الدعم التركي اللوجيستي والمادي والمعنوي لفصائل المعارضة السورية وبعض الميليشيات المسلحة، إلا أن هذا لم يكن كافيًا لفرض كلمة تركيا على الواقع السوري وفي ميدان المعارك، فما كان لأنقرة سوى أن تتدخل بقواتها للسيطرة على المدن الحيوية بالنسبة لها والتي تمثل إمتدادًا طبيعيًا وجغرافيًا للعمق التركي بسوريا، وهي مدن (الباب، منبج، الرقة) .. ولم يكن ذلك سهلا فقد استمرت المعارك للسيطرة على مدينة الباب فقط نحو سبعة أشهر هي عمر عملية “درع الفرات”، ومازالت المعارك مستمرة في الرقة ومنبج.
*منع الأكراد من تحقيق المزيد من الإنتصار: مما لاشك فيه أن القوات الكردية السوريةلاسيما قوات “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” (PYD)، و”وحدات حماية الشعبالكردية” (YPG) التي تصنفها أنقرة كمنظمات إرهابية،كان لها دورًا هامًا ومؤثرًا في وقف زحف “داعش” داخل سوريا والعراق، فكان تواجد تلك القوات أفضل من تواجد جيش نظامي في المعارك، لأنها تعلم جيدًا الطبيعة الجغرافية بمدن سوريا والعراق كما أنها معتادة على حرب العصابات وليس على الحروب النظامية الكبرى كجيوش الدول، ومع تزايد النجاحات الكردية وجد “أردوغان” ضرورة لتوجيه ضربة عسكرية لهم وتهديدهم، ولذا كانت أولويات أنقرة منع تلك القوات من السيطرة على المدن الرئيسية والتي تحمل دلالة تاريخية لأكراد سوريا وهي (الباب، منبج، الرقة)، حيث يسعى أكراد سوريا بقيادة القيادي السوري الكردي “صالح مسلم” الذي أعلنته أنقرة إرهابيا مطلوبًا، إلى إنشاء كيان فيدرالي ككردستان العراق بشمال سوريا يضم المدن الثلاث، وهو الأمر الذي رفضته أنقرة مرارًا وأعلنت أنها لن تسمح به.
*إستباق نتائج الإنتخابات الرئاسية الأمريكية: أستحوذت الأزمة السورية على إهتمام مرشحي الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، وكان المرشحان آنذاك “هيلاري كلينتون” عن الحزب الديمقراطي و”دونالد ترامب” عن الحزب الجمهوري والذي فاز بالانتخابات، على طرفي النقيض من الأزمة، وأراد “أردوغان” إثبات قوته لساكن البيت الأبيض الجديد عبر تواجد قوات تركية في شمال سوريا، يمكن الإعتماد عليها مستقبلاً في حل الصراع، كما كان ذلك خطوة لإقناع واشنطن بضرورة إقامة المناطق الآمنة التي دعت لها أنقرة من قبل.
3- أسباب الإعلان عن إنهاء “درع الفرات”:
كان الإعلان عن إنتهاء عملية “دراع الفرات” مخادعًا ومفاجئًا كما كان الإعلان عن بدايتها، فهي لم تحقق كما سبق أيًا من أهدافها المعلنة، كما أنها لم تحقق بنجاح كبير أيًا من أهدافها الغير معلنة،بيد أن هناك العديد من الأسباب التي أستوجبت الإعلان عن إنتهاءها في هذا التوقيتومنها:
*إستقطاب الرأي العام التركي قبل الإستفتاء:من المعروف أن يوم 16 أبريل (نيسان) الحالي سيشهد إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية بتركيا، التي يعول عليها كثيرا “أردوغان” ويراهن على أن حزبه سيجتازها بأغلبية تتجاوز 52%، ليحول النظام التركي من نظام برلماني لرئاسي مما يمنحه المزيد من الصلاحيات والسلطات بشكل مطلق، ولذا فإنه يرغب في إستقطاب أكبر عدد ممكن من الناخبين لصالحه. وربما يتم ذلك عبر الظهور بمظهر الرئيس القوى الناجح في عملياته العسكرية بسوريا.
*إرتفاع وتيرة التشكيك في جدوى التدخل التركي: كثر في الآونة الأخيرة الحديث داخل تركيا وخارجها، عن فشل عملية “درع الفرات” في تحقيق أهدافها وارتفاع عدد ضحاياها من العسكريين الأتراك في ظل غموض شديد حول عددهم، وبالتزامن مع هذا توجه لتركيا العديد من الانتقادات من قبل منظمات حقوق الانسان والدول الاوروبية لعمليات الاعتقالات العشوائية المستمرة منذ 10 شهور بعد الانقلاب العسكري الفاشل، فأراد تهدئة الراى العام العالمي الثائر ضده.
*تعقد المشهد السوري: شهدت الساحة السورية مؤخرا تطورات عسكرية وسياسية معقدة بشدة، حيث يستمر تذبذب الأولويات الأمريكية بين الدعوة لرحيل الرئيس السوري “بشار الأسد” والدعوة لمحاربة “داعش”، وتصاعد التدخل الروسي بسوريا لاسيما بعد مفاوضات الاستانة التي تقودها موسكو، أصبح تواجد القوات التركية بسوريا دون جدوى، بل أصبح هناك تهديد مستمر لحدوث مواجهات عسكرية بين القوات المتعددة المتواجدة بسوريا (التركية، الروسية، الايرانية)، وذلك بعدما رفعتواشنطن عدد قواتها المتواجد بسوريا بعد حادثة قصف “خان شيخون” بالأسلحة الكيماوية، الامر الذي دفع ترامب لتوجيه قصف جوي لمعسكر “الشعيرات” السوري بعد التنسيق مع موسكو لمنع حدوث مواجهة بين القوتين بسوريا.
*ضغط أمريكي على أنقرة:جاء الإعلان عن وقف عملية “درع الفرات” قبيل زيارة وزير الخارجية الأمريكي لأنقرة “ريكس تيليرسون” بساعات قليلة، مما أكد وجود مطالبات أمريكية لأنقرة بوقف العملية، لاسيما وأن الإعلان عن وقفها جاء مفاجئًا ودون سابق إنذار، وربما يكون ذلك إستعدادًا لعملية عسكرية أمريكية موسعة في سوريا يتم الإعداد لها الآن. والدليل على ذلك هو تصريحات السفير الأمريكي السابق لدى أنقرة “جيمس جيفري” الذي أعلن عن نية بلاده عدم ترك مصير مدينة “منبج” بريف حلب الشرقي لأنقرة وذلك بعدما سيطرت عليها قوات كردية سورية العام الماضي، مثلما حدث مع “الباب”. وهو تصريح ضمني عن رفض واشنطن لسيطرة أنقرة على الباب ولعمليتها العسكرية في سوريا.
ثانيا: مستقبل التحرك العسكري التركي:
جاء أول وأوضح رد فعل على الاعلان عن وقف عملية “درع الفرات” من موسكو حيث أكد رئيس لجنة العلاقات الدولية في المجلس الفيدرالي الروسي “كستانتين كسوجيف”الذي أوضح “أن إعلان انتهاء عملية درع الفرات تطور إيجابي. لأنها كانت غير شرعية ونفي وجود تعاون روسي مع تركيا في إطار هذه العملية، واقتصر تعاونها مع تركيا على تطهير سوريا من العناصر الإرهابية فقط، ولم تجر بالتعاون مع الحلفاء الدوليين، ولذلك لم تكن عملية مشروعة”، وهذا بعكس ما ردده وسائل الاعلام التركية الموالية للحكومة عن وجود تنسيق أمني تركي روسي في سوريا، ويؤكد التصريح أن مايحدث هو وجود تنسيق روسي أمريكي بسوريا.
هذا في الوقت الذي أكد فيه “أردوغان” بأنّ المرحلة الأولى فقط من عملية “درع الفرات” التي بدأتها القوات المسلحة التركية بالتعاون مع عناصر من الجيش السوري الحر في سوريا قد انتهت وتمّت بنجاح، وأعلن عن بدء التجهيزات لعمليات جديدة ضد التنظيمات الإرهابية في مناطق أخرى. والجدير بالذكر هنا ان انقرة اعلنت وقف عملية درع الفرات ولم تعلن سحب قواتها من سوريا بشكل كامل. مما ينذر بوجود عمليات عسكرية تركية جديدة في سوريا والعراق ويؤكد أن الاعلان عن وقف “درع الفرات” كان مناورة سياسية لكسب المزيد من الوقت وترتيب البيت التركي الداخلي المثقل بالمشكلات قبل الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي ستحدد شكل النظام التركي وطبيعة صلاحيات “أردوغان”، ولذا فإن هناك عمليات عسكرية تركية جديدة بتكتيكات عسكرية جديدة وفق المتغيرات الميدانية والإقليمية في سوريا والعراق خاصة بعد الهجوم بالأسلحة الكيماوية في “خان شيخون” وما تبعه من قصف أمريكي على سوريا بشكل مكثف للمرة الأولى منذ تولى “ترامب” رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
ومما يؤكد ذلك هو ما كشفت عنه مصادر عسكرية تركية، بإن أنقرة تستعد لعملية عسكرية جديدة باسم “درع دجلة”.. بغية تطهير الحدود العراقية التركية من منظمة حرب العمال الكردستاني التي باتت تسيطر على مناطق واسعة تمتد من منطقة سنجار العراقية انتهاءً عند سيلوبي التركية، بالإضافة إلى مناطق أخرى حدودية بين تركيا والعراق وسوريا. على ان تشارك القوات العراقية الكردية ّالتي تلقّت تدريبات عسكرية في معسكر “بعشيقة” شمالي العراق على أيدي مستشاريين عسكريين أتراك في العملية الجديدة، التي سيتم الاعلان عنها عقب الانتهاء من الاستفتاء على التعديلات الدستورية. ولذا فإن القوات العسكرية التركية المتواجدة في سوريا والعراق ذهبت هناك لتبقي ولتؤكد الحضور التركي عسكريًا وسياسيًا خلال عملية إعادة تقاسم النفوذ وتوزيع القوى وتقسيم الدول التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط الآن.
*باحثة دكتوراة بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، متخصصة بالعلاقات الدولية والشأن التركي.