بقلم: ياوز أجار
أنقرة (الزمان التركية) في الوقت الذي كانت أحداث الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في 15 من تموز / يوليو لعام 2016 ساخنة، خرج الرئيس رجب طيب أردوغان على الشارع المحلي والدولي معلنا فتح الله غولن “العقل المدبر” لهذا الانقلاب، ليطلق في صبيحة تلك الليلة حركة تطهير وتصفية غير مسبوقة في أجهزة الدولة كافة، بل شملت القطاعات الخاصة أيضا، أسفرت عن فصل 134 ألفًا و194 موظفًا، واحتجاز 95 ألفًا 458 شخصًا، وحبس 50 ألفًا و510 شخصًا، بينهم 18 ألف امرأة و618 رضيعًا مع أمهاتهم، وإغلاق ألفين و99 مؤسسة تعليمية، ما بين جامعة ومدرسة وسكن طلابي، وطرد 7 آلاف و317 أكاديميًّا، وإقالة 4 آلاف و317 من أعضاء القضاء، ما بين مدع عام وقاض، وإغلاق 149 مؤسسة إعلامية، بينها 16 قناة تلفزيونية، و24 إذاعة، و63 صحيفة، و20 مجلة، واعتقال 231 صحفيًّا من شتى الاتجاهات، إضافة إلى الاستيلاء على 965 شركة خاصة في 43 مدينة، بينها مؤسسات خيرية وإغاثية، علمًا أن هذه الأرقام تتغيّر يوميًّا نظرًا لاستمرار الهزات الارتدادية للانقلاب.
أساس اتهامات أردوغان ضد الخدمة
تلت ذلك الوثائق التي نشرها ما يسمى بـ”الإعلام الموالي” ونسبها إلى جهاز المخابرات التركي حول محتويات المراسلات والمكالمات السرية التي زعم أنها جرت بين الانقلابيين عبر تطبيق “بايلوك”، الوثائق التي قدمها أردوغان دليلا على وقوف حركة الخدمة وراء هذا الانقلاب. ورغم أنه كان مجرد تطبيق للتواصل مثل نظيراته من عشرات التطبيقات للمحادثات “واتس آب” و”فيبر” و”لاين” و”وي تشات” و”سكايب” و”إيمو” و”بي بي إم” وغيرها، إلا أنه كان أحد الدليلين الرئيسيين اللذين اعتمد عليهما أردوغان في اتهامه لحركة الخدمة بتدبير المحاولة الانقلابية.
ثم ظهر العسكريون المتهمون بالمشاركة في الانقلاب على الشاشات التلفزيونية بعد إفشال الانقلاب وإلقاء القبض عليهم، بادية على وجوههم وأجسامهم علامات التعذيب، لينقل إعلام “السلطة” عن أفواههم اعترافاتهم بجريمتهم وانتسابهم إلى حركة الخدمة! بمعنى أن أدلة الرئيس أردوغان على وقوف الخدمة وراء الانقلاب اقتصرت على عنصرين أساسين لا غير وهما: مراسلات ومكالمات الانقلابيين على تطبيق بايلوك واعترافات المتهمين. لكن هؤلاء المتهمين أعلنوا في أول مثول لهم أمام المحكمة خلال الشهر المنصرم انتسابهم إلى “التيار القومي الأتاتوركي”، وأنهم لاعلاقة لهم مع حركة الخدمة، مؤكدين أن رئيس الأركان خلوصي أكار كان رأس المجلس العسكري الانقلابي، وأنهم لم يفعلوا شيئًا سوى تنفيذ الأوامر الصادرة من رئاسة هيئة الأركان العامة.
رأي غولن في الانقلاب وتحديه أردوغان
أما المتهم فتح الله غولن فكان أول من استنكر محاولة الانقلاب في تلك الليلة بعبارات واضحة نفى فيها كل الاتهامات الموجهة إليه قائلا: “أشيد بالشعب التركي لوقوفه بكل أطيافه صفا واحدا إلى جانب الديمقراطية ضد محاولة الانقلاب، إيمانا منه بأن زمن التدخلات العسكرية قد ولى دونما رجعة. لا شك أن فشل المحاولة الانقلابية حدث تاريخي عظيم، حيث استطاع الشعب أن يحبط عملية غير ديمقراطية استهدفت الإطاحة بحكومة منتخبة. غير أن النجاح في إجهاض الانقلاب لا يكفي لإنجاح الديمقراطية. الديمقراطية الحقة ليست هيمنة أقلية أو هيمنة أغلبية ترى من حقها سحق الأقلية، ولا هي استبداد بيد منتخبين. فلا يمكن الحديث عن الديمقراطية دون الالتزام بحقوق الإنسان وضمان حرياته الأساسية، وفي مقدمتها سيادة القانون ومبدأ الفصل بين السلطات وحرية التعبير. ومن غير الممكن الحديث عن انتصار للديمقرطية في تركيا من دون إحياء هذه القيم الأساسية مجددا”.
ولم يكتف بتكذيب مزاعم أردوغان، بل تحداه مطالبا بتشكيل لجنة دولية لتتولى التحقيق في ملابسات الانقلاب من أجل الكشف عن المنفذين له والمحرضين عليه ومعاقبتهم، معلنا أنه مستعد للعودة إلى تركيا والقتل شنقا إذا ما أثبتت هذه اللجنة أيا من الادعاءات والاتهامات المذكورة، الدعوة التي لم تلق صدى إيجابيا لدى أردوغان.
تقرير المخابرات البريطانية حول الانقلاب
وإذ كانت حركة التصفية والاعتقالات طالت أكثر من مائة ألف شخص، الأغلبية الساحقة منهم مواطنون مدنيون، وقليل منهم عسكريون، نشرت مجلة “فوكس” الألمانية المرموقة مقالا صادما للجميع بعد أسبوع واحد من الانقلاب تحت عنوان “السلطة.. الهذيان.. أردوغان”، أفردت فيه مساحة كبيرة لتقرير أعدته المخابرات البريطانية، وتشير إلى أنها حصلت على مكالمات هاتفية وبريدية مشفرة تعود لمسؤولي الحكومة التركية أثناء حدوث الانقلاب الفاشل، تكشف أنهم خططوا لإلصاق الجريمة بحركة الخدمة حتى يختلقوا ذريعة لإطلاق حملة تصفية موسعة في أجهزة الدولة بعد إحداث جريمة “الانتماء إلى حركة الخدمة”. واللافت أن المجلة حصلت على جائزة من إحدى المؤسسات الدولية بسبب هذا المقال التحليلي.
ومضت الأيام والشهور وبدأت وطأة الصدمة تهدأ رويدا رويدا، ويذهب الغبار الذي أحدثه الانقلاب الفاشل، لتتعالى أصوات، سواء من الأحزاب المعارضة أو حزب العدالة والتنمية الحاكم، تقول بوقوع مظالم فظيعة، واختلاط الحابل بالنابل، في عمليات الفصل والاعتقال العشوائية، بحيث شكلت الأحزاب المعارضة، وكذلك الحكومة، لجانا لتقصي الحقائق والاستماع لشكاوى الضحايا. حتى إن زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو هو الآخر بدأ يتهم علنا أردوغان بتدبير انقلاب تحت سيطرته وتصميمه على الفشل لخلق ذريعة من أجل تنفيذ انقلابه المدني المضاد، إلى أن سيطرت هذه الفكرة على شريحة كبيرة من الأحزاب السياسية والشعب التركي.
تقرير المخابرت التركية حول بايلوك
ومع أن أردوغان زعم أن تطبيق بايلوك كان “الوسيلة السرية لتواصل الانقلابيين”، و”لا يستخدمه إلا المنتمون إلى حركة الخدمة”، و”لا يمكن تحميله إلا من خلال واصلة أو بولوتوث”، وكل عمليات الاعتقال والفصل تجري بتهمة استخدام هذا التطبيق وإن لم تكن مشاركة فعلية في محاولة الانقلاب، إلا أن صحيفة “حريت” التركية نشرت في شهر أكتوبر / تشرين الأول الماضي حوارا في افتتاحيتها أجرته مع ديفيد كينز؛ صاحب برنامج وتطبيق بايلوك، حيث أكد أن التطبيق توقف تداوله وطرحه في كل من Google Play وAppstore منذ شهر يناير / كانون الثاني من عام 2016، أي قبل ستة أشهر من وقوع الانقلاب الفاشل، وأن التطبيق نزله حوالي 600 ألف شخص، وهو مفتوح للجميع، وليس مقتصرا على المنتمين إلى حركة الخدمة، كما زعم أردوغان.
ولما جاء يوم 17 من شهر يناير المنصرم نشرت معظم الصحف التركية تقريرا أعدته المخابرات التركية يتناقض مع أطروحات أردوغان حول تطبيق بايلوك. ومع أن التقرير أعد أصلا من أجل الدعاية السوداء ضد الخدمة، وتقديم أدلة جديدة تساند نظرية وقوفها وراء الانقلاب الفاشل، إلا أن “قراءة ما بين السطور” تكشف أن المخابرات التركية تعترف بشكل صارخ بأن التطبيق يمكن أن يحمله أي شخص من Google Play المفتوح للجميع. بمعنى أنها نفت مزاعمها السابقة التي ادعت فيها أنه لا يمكن تحميله إلا من خلال واصلة أو بولوتوث، وأنه خاص بأفراد حركة الخدمة، كما أقرت بأن هذا التطبيق قد بدأ عرضه على المستخدمين عبر Google Play منذ بداية عام 2014 حتى مطلع عام 2016، أي انتهى عرضه قبل 6 أشهر من الانقلاب الفاشل، التقرير الذي أيد تصريحات صاحب التطبيق وأسقط مزاعم أردوغان.
وحتى لو افترضنا صحة مزاعم أردوغان حول تطبيق بايلوك، فإن جميع عمليات الاعتقال بتهمة استخدامه تعسفية وغير قانونية، ذلك أن هذه المزاعم مصدرها المخابرات التركية التي سبق أن أعلنت بشكل رسمي “أن الوثائق والتقارير الاستخباراتية التي نقدمها لمؤسسات الدولة الأخرى، والتي نعدها بعد تقييم وتفسير الوثائق والمعلومات التي تأتي إلى جهازنا من مصادر مختلفة، لا يمكن استخدامها كأدلة قانونية”.
تقرير المخابرات الأوروبية
وفي منتصف شباط/فبراير الماضي (2017) نشرت مجلة “تايمز” البريطانية تقريرا آخر أعده مركز الاستخابرات في الاتحاد الأوروبي في 24 أغسطس 2016، جاء مؤكدا لما توصلت إليه المخابرات البريطانية بعد أسبوع واحد من الانقلاب. وقال التقرير بشكل شبه صريح إن أردوغان هو من دبر هذه المحاولة الانقلابية وصممها على الفشل لكي يتمكن من الحصول على ذريعة تصفية معارضيه، مؤكدا أنه كان ينوي القيام بعملية “تطهير” شاملة ضد قوى معارضة في المؤسسة العسكرية قبل محاولة الانقلاب في يوليو 2016. أما كون فتح الله غولن “العقل المدبر” الذي يقف وراء الانقلاب فوصفه بـ”الاحتمال البعيد”، معللا بأن هذا الادعاء يتعارض مع تقارير الدولة التركية والمعطيات الأوروبية حول قوة ونفوذ هذه الحركة في المؤسسة العسكرية؛ آخر معاقل العلمانية بصفة خاصة، وأجهزة الأمن بصفة عامة، بعد عمليات التصفية والتطهير التي تستمر منذ نهاية عام 2013، حيث انطلقت تحقيقات الفساد والرشوة التي اعتبرها أردوغان محاولة انقلاب أيضا. ورجح التقرير أن تكون مجموعة عسكرية تضم “معارضين للحزب الحاكم” و”علمانيين” و”انتهازيين” ومن سماهم التقرير بـ”متعاطفين مع غولن” هي من دبرت هذه المحاولة، ذلك تخوفا واستباقا لحملة وشيكة لأردوغان توقعوا أن تستهدفهم، مستبعدا صدور أي أمر من الأستاذ غولن في هذا الصدد. ولفت إلى أن محاولة الانقلاب باتت محفزة لأردوغان لكي ينفذ عملية تطهير سبق أن خطط لها في كل أجهزة الدولة، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية.
رأي الناتو حول انقلاب تركيا
بعد هذا التقرير الأوروبي الذي أحدث صدمة كبيرة في الداخل التركي والشارع الدولي، جاءت تقارير جديدة أيدت ما توصل إليه، حيث أعلنت مصادر بارزة في حلف شمال الأطلسي لموقع aldirmer.no النرويجي الشهير أن قادة الحلف يؤمنون بأن أردوغان هو من دبر انقلابا عليه. ونقل الموقع عن مسؤول في الناتو قوله “إن ضباطا مخضرمين في الحلف يحملون ثلاث وأربع نجوم، ويتعاملون مع تركيا منذ 30-40 عاما، ويشرفون على تدريب الضباط الأتراك منذ 4 و 5 سنوات، لا يرون أن ما حدث في تركيا كان انقلابا. وأوضح المسؤول الحلفي أن القوات المسلحة التركية من المؤكد أنها كانت ستنجح لو رغبت فعليا في تنفيذ انقلاب، نظرا لأن الانقلابات تقليد وعادة متجذرة في المؤسسة العسكرية التركية. والجنود الأتراك الذين لا يزالون على اتصال بالحلف يرون أن أردوغان وضع خطة منذ عام لتنفيذ الانقلاب، وأنه كان يمتلك قائمة بأسماء الأشخاص الذين خطط لتصفيتهم، ونفذ خطته هذه في صبيحة الانقلاب الفاشل. أنا لم أصادف شخصا يرى أن ما حدث هو انقلاب حقيقي”.
حسنا، فهل هذه التصريحات تعكس الرؤية الرسمية للناتو لما حدث في تركيا أم لا؟ إذا ضممنا هذه التصريحات إلى التصريحات الصادمة التي أدلى بها برونو كال؛ رئيس الاستخبارات الخارجية في ألمانيا العضو في الحلف، وهي إحدى أهم الاستخبارات في العالم، لصحيفة “بيلد” الألمانية يوم السبت الفائت، وكذلك التصريحات التي أدلى بها رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي ديفين نونيس يوم الأحد الماضي، فإنه يتبين أنها رأي الناتو ككل وإن لم يعلن ذلك رسميا لاعتبارات شتى.
تصريحات رئيس الاستخبارات الألمانية
قال برونو كال في تلك التصريحات: “إن الحكومة التركية حاولت على مستويات مختلفة إقناعنا بأن حركة غولن هي التي دبرت محاولة الانقلاب، لكنها فشلت في تقديم أي دليل مقنع في هذا الصدد. هذه المحاولة لم تكن عملا منظما شارك فيه كل أجهزة الدولة. الحكومة التركية كانت قد أطلقت حملة تصفية كبيرة حتى قبل هذه المحاولة الانقلابية، وتوقعت بعض المجموعات في المؤسسة العسكرية أن تطالهم هذه التصفيات أيضا، فرأت ضرورة المسارعة إلى إحداث انقلاب لإنقاذ أنفسهم. لكنهم تأخروا وحصدتهم تلك التصفيات التي بدأت بعد إفشال الانقلاب. حتى لو لم تقع هذه المحاولة فإن هذه التصفيات كانت ستجرى وإن لم تكن بهذه الشدة والعمق والتوسع. فمحاولة الانقلاب باتت ذريعة مرحبة بها. لكن حركة غولن ليست منظمة إرهابية بل هي حركة مدنية دينية تعليمية”. (ولعله يشير بعبارة “مرحبة” إلى وصف أردوغان لمحاولة الانقلاب بالهدية الإلهية!)
تصريحات رئيس لجنة الاستخبارات البرلمانية الأمريكية
وعضد رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي ديفين نونيس ما قاله برونو كال في الانقلاب التركي: “ليس هناك أي دليل يشير إلى تدبير فتح الله غولن لمحاولة الانقلاب في تركيا. إدارة الرئيس أردوغان تتجه يوما بيوم إلى مزيد من الاستبداد والسلطوية، لذلك تعاني العلاقات الثنائية بين البلدين من توتر”، وذلك في إطار رده على سؤال قناة “فوكس” الأمريكية حول المزاعم التي تسوقها السلطات التركية عن استعداد الولايات المتحدة لإعادة الأستاذ غولن إلى تركيا. وتوقع أن العلاقات بين تركيا وأمريكا ستواجه مزيدا من الصعوبات بالتوازي مع زيادة الجهود المبذولة في سبيل تطهير كل من سوريا والعراق من عناصر تنظيم داعش.
ومن الممكن أن نجزم بأن هذه التصريحات بمثابة التعبير عن النظرة الرسمية للسلطات الأمريكية إلى الرئيس أردوغان والحكومة التركية، نظرا لأن ديفين نونيس المنتمي إلى الحزب الجمهوري من أقوى حلفاء الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، ويتمتع بعلاقات وطيدة مع كل الأجهزة الاستخباراتية في البلاد.
دلالات التصريحات الأوروبية والأمريكية
وفي هذا السياق ينبغي أن نتذكر أن رئيس المخابرات التركي هاكان فيدان كان قد أجرى في منتصف شباط/فبراير الماضي زيارة إلى ألمانيا تلبية للدعوة التي وجهها له نظيره الألماني برونو كال، بعد الزيارة التي أجرتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى تركيا في الثاني من الشهر ذاته (شباط). وتشير المصادر إلى أن “متابعة أنشطة حركة الخدمة في ألمانيا عن كثب، وإعادة المطلوبين من المنتمين لها إلى تركيا” كان بين المواضيع التي بحثها كل من هاكان فيدان برونو كال.
وإذا أردنا قراءة تصريحات برونو كال في ضوء هذه الخلفية فإنه يكون قد قال: “زارني هاكان فيدان في الشهر المنصرم، وحاول إقناعي بوقوف غولن وراء الانقلاب لكنه لم ينجح في ذلك. ونحن كنا على علم بموجة التصفية الكبيرة التي خططوا لها قبل الانقلاب. ولأن العسكريين هم كذلك كانوا يعلمون خطتهم هذه بادروا إلى الانقلاب عليهم معتبرين هذا الأمر مسألة حياة أو موت”.
الجيش التركي ساحة لصراع المحورين الغربي والشرقي
لما أعلن أردوغان الحرب على حركة الخدمة، خاصة بعد بدء تحقيقات الفساد والرشوة في 2013، بادر إلى تعيين الضباط المرتبطين بالمعسكر الشرقي الأوراسي (روسيا + الصين)، أي مجموعة “أرجنكون” والمتهمون في إطار قضية “باليوز/المطرقة” الانقلابية، في مواقع حساسة بالمؤسسة العسكرية مجددا، وفتح المجال أمامهم ليقوموا بتصفية الضباط المتحالفين مع المعسكر الغربي (أمركيا + أوروبا). فهؤلاء من أعدوا قبل الانقلاب قوائم الأسماء الواجب تصفيتها، كما اعترف بذلك زعيم حزب الوطن دوغو بارينتشاك الداعم للمعسكر الأوراسي، وأدرجوا فيها كل الضباط المعينين في أماكنهم بعد اعتقالهم وإيداعهم السجن في إطار قضية أرجنكون المعروفة، سواء كانوا متعاطفين مع حركة الخدمة أو لم يكن لهم أي علاقة معها. وبأغلب الاحتمال، كان رئيس الأركان خلوصي أكار مع قادته الآخرين ضمن هذه الأسماء المقررة تصفيتها، بل إنه كان رأس المجلس العسكري الذي كان سيسيطر على الحكم في حال نجاح الانقلاب وفق تصريحات المتهمين بالانقلاب في المحكمة، وهذا ما جعل الانقلابيين يطمئنون إليه ويبادرون إلى الانقلاب. لكن يبدو أن هاكان فيدان ومجموعة أرجنكون نجحوا في شراء ذمة أكار أو أقنعوه بخطتهم، وهو الأمر الذي أفشل الانقلاب؛ نظرا لأن هاكان فيدان أجرى معه لقاءين، أحدهما سري كشفت عنه صحيفة “أيدينلك”، والآخر يعرفه الجميع، السري كان قبل يوم واحد من الانقلاب ودام ست ساعات، والمعلن كان قبل ساعات قليلة من اندلاع أحداث الانقلاب.
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن التصريحات والتقارير الغربية تأتي في الوقت الذي وصل فيه القلق الأمريكي الأوروبي حول موقف أردوغان من الناتو إلى أوجه، خاصة بعد أن أعلن أنه يعتزم شراء منظومة دفاع وصواريخ جديدة من الصين وروسيا، كما نشرته قبل نحو أسبوع وكالة سبوتنك الروسية، فإنه من الممكن أن نستخلص أن تلك التقارير الأمريكية والأوروبية تقول للرئيس أردوغان “لا تحاول خداعنا والعالم! فنحن نعلم أنك قمت بتصفية الجنرالات والضباط الموالين للناتو قبل الانقلاب وبعده، من خلال استغلال ضباط المعسكر الأوراسي (الروسي الصيني). لا يمكنك أن تقنعنا بتدبير حركة الخدمة هذه المحاولة الانقلابية، فنحن نعلم جيدا أنك تبذل كل ما في وسعك من جهد للابتعاد والانفصال عن الناتو. لكن لا بد أن تكون لهذه الرغبة نتائج سترضى بها”.
خلاصة تقرير البرلمان البريطاني حول الانقلاب
وفي مساء 24 مارس الجاري (2017) نشر البرلمان البريطاني تقريرًا مكونًا من 70 صفحة حول محاولة الانقلاب، وهو كذلك جاء نافيًا ادعاءات أردوغان حول تورط الأستاذ غولن وحركة الخدمة في التخطيط للانقلاب، وداعمًا للتقارير الاستخباراتية الدولية السابقة. حيث أكد على نحو لا يدع مجالاً للشك أو التأويل قائلاً: “لا يوجد دليل مادي ملموس واضح على وقوف غولن وراء الانقلاب”.
ويمكن تلخيص ما ورد في التقرير كما يلي: “إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أعمال العنف التي جرت ليلة الانقلاب، وضخامة حجم كل من الاتهامات الموجهة لأنصار غولن وعمليات الفصل والاعتقال التي طالت أناسًا يزعم أنهم غولنيّون استنادًا إلى هذه التهمة، فإننا لا نمتلك أي دليل مادي واضح يمكن أن نقدمه للرأي العام. ومع أن هناك بعض الأدلة التي تشير إلى مشاركتهم في أحداث الانقلاب على المستوى الفردي، إلا أن هذه الأدلة قائمة على روايات وحكايات وشائعات تفتقر إلى أدلة قضائية بينة، ومنقولة عن أشخاص ليسوا شهوداً أصليين ولا مرتبطين بالأحداث مباشرة. وإذ ننشر هذا التقرير بعد 9 أشهر من محاولة الانقلاب، فإن أيًّا من الحكومتين التركية والبريطانية لم تستطع أن تثبت تورط أي أحد منهم في الانقلاب، بل حتى لا يوجد أي قرار صادر من المحكمة يدين أحدًا من الغولنيين بالتورط في محاولة الانقلاب. وهنا نريد الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتخذ أي خطوات في سبيل ترحيل غولن من أراضيها إلى تركيا، بالرغم من إرسال الحكومة التركية 80 مظروفًا حول ادعاءات تورطه في التخطيط للانقلاب كدليل على إدانته. أما أن يكون الغولينيون العنصر الوحيد أو الأساسي في محاولة الانقلاب لا يبدو ممكنًا، حيث إن خصوم ومنافسي حزب العدالة والتنمية في تركيا يتواجدون في مفاصل الدولة بكثرة، ومنهم العناصر الكمالية. وتورط بعض عناصر الغولينيين لا يعني بالضرورة أن الجماعة تقف وراء المحاولة الانقلابية أو أن قيادتهم هي التي وجهتهم للقيام بها”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التقرير البريطاني انتقد كثيرا من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية بحق من يشك بضلوعهم في المحاولة الانقلابية، وخاصة أن ما يقرب من مائة ألف شخص طردوا بشكل نهائي من وظائفهم، بينما تم توقيف ما يتراوح بين 43 ألفا بشكل مؤقت. ويشير التقرير إلى أن كثيرا من هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم تعرضوا لأشكال أخرى من العقوبات ومظاهر الاضطهاد. كما يبدي التقرير الخشية من احتمال أن تكون معلومات الفصل والاعتقال هذه غير دقيقة بالنظر إلى ما يتردد من روايات وينشر من تقارير، ويعرب عن أسفه لشمول أعداد كبيرة من الأبرياء في عقوبات نالتهم دون ذنب منهم لمجرد الريبة.
ورأى التقرير “أن المخاطر الأمنية التي مثلتها محاولة الانقلاب ويمثلها الإرهاب في تركيا كبيرة وحقيقية، إلا أن حجم عمليات التطهير يجعل من الصعوبة بمكان الجزم بأنها كانت ضرورية أو مثلت رد فعل معقول” وأكد “أن تردي أوضاع حقوق الإنسان في تركيا سبق المحاولة الانقلابية، إلا أن الانقلاب والإرهاب باتا يستخدمان ذريعة لمزيد من الانتهاكات، الأمر الذي ينال من أصول الثقافة الديمقراطية في البلاد”.
أحدث التقرير البريطاني صدمة كبرى لدى إعلام أردوغان الذي سعى في البداية لتشويه مضمونه، لكن لما لم يجد أي مجال للتأويل بدأ يحاول التقليل من شأنه.
وفي إطار تعليقه وتقييمه للتقارير الاستخباراتية الدولية المذكورة أعلاه، قال الخبير الاستخباراتي الألماني الشهير “إريك شميت أنبوم” المعروف بعلاقاته المقربة للمخابرات الألمانية وصاحب العديد من المؤلفات والمقالات التي تدور حول فعاليات المخابرات الألمانية في مطلع شهر نيسان / أبريل الحالي خلال برنامج حواري على قناة ZDF الألمانية “ليس من الممكن القول بأن حركة الخدمة هي من دبرت المحاولة الانقلابية بالنظر إلى الاكتشافات التي توصلت إليها وكالات الاستخبارات الغربية مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) والاستخبارات الألمانية (BND)، إذ لا يوجد حتى دليل بسيط على هذا الأمر”، واصفًا ما حدث بـ”السيناريو” وحملة استباقية لأردوغان في مسعىً منه للهروب من انقلاب حقيقي.
وفي رد منه على سؤال مقدمة البرنامج الصحفية الشهيرة مايبريت إيلنر سبب اتهام أردوغان لحركة الخدمة بتدبير المحاولة الانقلابية، أرجع شميت سبب هذا إلى أن ذلك أسهل طريقة لتحويل أفراد حركة الخدمة إلى مجرمين والتخلص منهم، ثم أضاف قائلاً: “أجل، من الممكن أن أردوغان أنشأ قصراً يقاوم حتى قنبلة نووية، لكنه لم يستطع منع تسرب بعض الأسرار من هناك. بقدر ما فهمنا من المعلومات التي قدمتها وكالات الاستخبارات الغربية، فإن بعض المعلومات تسربت من قصر أردوغان، رغم الإجراءات المشددة لمنع تسرب المعلومات من القصر، فالاستخبارات المركزية الأمريكية وبعض الوكالات الاستخباراتية الغربية تمتلك قدرات وتجهيزات يمكنها التغلغل إلى أكثر أنظمة الاتصالات سرية واختراقها. وتشير الاكتشافات التي توصلت إليها هذه الوكالات الاستخباراتية أن محاولة انقلاب الخامس عشر من يوليو/ تموز لم تكن محاولة انقلابية فعلية بل محاولة مفتعلة”.
جريمة “الانتماء إلى حركة الخدمة”
يذكر أن عددا لا يستهان به من المراقبين والمحللين من الداخل التركي وخارجه يرون أن أجهزة الأمن والقضاء التركية، التي تضم موظفين من كل الانتماءات والإيدولوجيات، لما كشفت في عام 2013 عن ممارسات الفساد والرشوة الكبيرة التي تورط فيها أربعة وزراء ومجموعة من الموظفين ورجال الأعمال، بات أردوغان، الذي كان رئيس الحكومة آنذاك، في موقف حرج جدا بحيث شعر بالحاجة إلى “لافتة جاهزة” ليصم بها الكاشفين عن هذه الممارسات، من أجل إنقاذ حكومته ووزرائه ورجاله. ويشيرون إلى أنه اختار حركة الخدمة لتكون هي كبش الفداء، مرجعين سبب ذلك إلى أن هذه الحركة كانت الوحيدة “القابلة” لحملها هذا الحجم من “الاتهامات” كالانقلاب والسيطرة على كل دول العالم؛ نظرا لأنها تتمتع بقوة ونفوذ ليس في تركيا فقط بل في جميع أرجاء العالم من خلال مؤسساتها التعليمية والخيرية، فاستحدث جريمة نمطية تحت مسمى “الانتماء إلى حركة الخدمة” لإلصاقها إلى كل معارض له ليتمكن بكل سهولة من تصفيته. وهذه الأطروحة تلقتها بالقبول شريحةٌ كبيرة من مؤيدي أردوغان وعدد ليس بالقليل من المدارس الفكرية الأخرى بفضل آلة الدعاية العملاقة الرسمية.
والواقع أن أردوغان اعتبر تحقيقات الفساد والرشوة “محاولة انقلاب”، يقف وراءها ما أسماه “الكيان الموازي”، في إشارة منه إلى حركة الخدمة، ومن ثم أطلق حملة موسعة ضد كل قيادات الأمن والقضاة المشرفين على تحقيقات الفساد المذكورة، واعتقل أو أقال عشرات الآلاف منهم بتهمة انتمائهم إلى هذه الحركة، دون النظر إلى الفوارق الإيدولوحية بينهم، وذلك بعد أن أعاد تصميم أجهزة الأمن والقضاء والقضاء الأعلى وأخضعها لإرادته تماما.
وفي هذا الإطار أمر أردوغان السلطات بالاستيلاء – قبل الانقلاب – على كل من مجموعتي “إيباك” و”فضاء” اللتين كانتا تضمان أكثر الصحف مبيعةً وقراءةً في تركيا كصحيفة زمان وبوجون، وفرض حراسة قضائية على شركات اقتصادية ومؤسسات تعليمية بنفس التهمة وهي الانتماء لحركة الخدمة، الأمر الذي أدانه كل المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية ومنظمات حقوق الإنسان، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية للصحافة والإعلام ومنظمة “مراسلون بلا حدود” وغيرها، معتبرة إياه عملية غير قانونية تستهدف تضييق الخناق على حرية الصحافة ومنعها من الرقابة على ممارسات الحكومة باسم الرأي العام.
ولما وقع الانقلاب الفاشل الذي بدأ زعيم المعارضة وكثير من الكتاب العلمانيين يصفونه بـ”الانقلاب تحت سيطرة أردوغان”، أطلق الرئيس أردوغان حملة مضادة في صبيحة ليلة الانقلاب أسماها المعارضون “انقلابا مدنيا مضادا”، أطاح في إطارها بكل القادة في المؤسسة العسكرية التي هي العلمانية والكمالية في جوهرها، وأعضاء القضاء الأعلى المنتمين إلى تيارات مختلفة، بفضل التهمة ذاتها (الانتماء لحركة الخدمة)، سواء شاركوا في الأحداث أم لم يشاركوا، وكانوا منتمين إلى الحركة أو لم يكونوا على أي صلة بها.
وتتهم المعارضة التركية والتقارير الدولية المذكورة الرئيس أردوغان باستخدام تهمة “الانتماء إلى حركة الخدمة” كذريعة في مساعيه الرامية إلى إعادة ترتيب أجهزة الأمن والقضاء وتصميمها مجددًا وفق أهدافه، من خلال توظيف تحقيقات الفساد والرشوة، بعد أن كشفت تلك الأجهزة القناع عن فساد حكومته؛ وكذلك المؤسسة العسكرية من خلال استغلال محاولة الانقلاب بعد أن رصدت تلك المؤسسة علاقات حكومته المشبوهة مع المجموعات المتطرفة والإرهابية كتنظيم داعش في سوريا.
اعترافات مثيرة من كتاب موالين لأردوغان
ومما يعضد الرؤية القائلة بأن أردوغان اتبع الاستراتيجية المذكورة، أي تقديم حركة الخدمة مسؤولة عن كل السلبيات والجرائم المرتكبة في تركيا، وتوظيف ذلك في تحقيق أهدافه، أن عديدًا من الكتاب الصحفيين المقربين للرئيس أردوغان، وعلى رأسهم “راسم أوزان كوتاهيالي” و”جيم كوتشوك” المعروفان بعلاقاتهما الوطيدة مع أجهزة المخابرات التركية، اعترفوا بأن حركة الخدمة اختيرت “كبش فداء” لإلقاء جريمة الانقلاب عليها وإجراء التصفية اللازمة في مؤسسات الدولة بدعوى تطهيرها من المنتسبين إلى هذه الحركة. فقد قال الكاتب الصحفي راسم أوزان كوتاهيالي بمقاله المنشور في 27 شباط / فبراير المنصرم بجريدة “صباح” المقربة من أردوغان: “مع أن منظمة فتح الله غولن الإرهابية هي من تقف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، – على حد زعمه – إلا أنها لم تكن وحيدة، بل إنها كانت خيانة جماعية شارك فيها كل الانقلابيين القدماء في المؤسسة العسكرية أيضًا. لكن الحكومة نفذت سياسة مقصودة، وهي واعية بالحقيقة، تمثلت في التركيز على منظمة غولن على وجه الخصوص، والتستر على المجموعات الأخرى المشاركة في ارتكاب هذه الخيانة الوطنية، وذلك من أجل تأمين اللحمة الوطنية والوحدة المجتمعية ضد الانقلابيين”.
كما اعترف كل من كوتاهيالي في مقال لاحق له، وجيم كوتشوك في برنامج على قناة “خبر ترك”، أن معظم الجنرالات الذين شاركوا في محاولة الانقلاب لا ينتمون إلى حركة الخدمة وإنما هم من التيار الكمالي الأتاتوركي، إلا أن الحكومة نفذت حركة التصفية بتهمة الانتماء إلى الحركة عمدًا. إذ ادعى كوتاهيالي أن هذه السياسة كانت نابعة من نوايا حسنة وتعتمد على العقل السليم والسياسة الحكيمة، على حد وصفه، مبررًا ذلك بأنه لو تم التركيز والتأكيد على العناصر الكمالية الإيدولوجية الأخرى المشاركة في محاولة الانقلاب لأحدث ذلك شرخًا كبيرًا وانقسامًا جديدًا في صفوف المجتمع، على حد تعبيره.
وفي الختام نقول: كل ما سبق يكشف ضرورة تلبية الدعوة التي وجهها فتح الله غولن إلى الرئيس أردوغان والمجتمع الدولي لتشكيل لجنة دولية محايدة من أجل الكشف عن حقيقة الجرائم المسندة إلى حركة الخدمة وممارسات السلطة الحاكمة في تركيا بحجة مكافحة هذه الحركة، نظرًا لأن أردوغان ألغى محاكم الجزاء الثقيلة العاملة في البلاد منذ عقود وأسس بدلاً منها محاكم الصلح والجزاء التابعة له مباشارة في عام 2014، وبذلك باتت كل أجهوة القضاء مسيسة وفاقدة للحيادية والمصداقية، خاصة بعد حركة التصفية الشاملة التي جرت عقب كل من تحقيقات الفساد والرشوة في عام 2013 ومحاولة الانقلاب في عام 2016. ومع أن أردوغان رفض دعوة غولن هذه، إلا أنه من الممكن القول إن التقارير الدولية التي حاولنا رصدها أعلاه قد أدت الدور الذي كان من المنتظر أن تؤديه تلك اللجنة الدولية في الكشف عن حقيقة الانقلاب.